الطبيعة الأم.. قوة التدمير التي لا ترحم!!

“إذا أردنا دليلاً على عدم اكتراث الطبيعة برفاهية الكائنات المعقدة مثلنا، فإن تاريخ الحياة على هذا الكوكب هو حلقةٌ من التدمير الذي لا يرحم والتجديد الأعمى المترنح”!

د/ حسام الدين حامد

                                         «أمنا الطبيعة لا – ولم تكن أبداً– تعتني بنا!»

                                                                                                         سام هاريس

الطبيعة

إنّها الطبيعة.. الطبيعة التي احتار فيها جميع الناس عمداً وسهواً، واختياراً وجبراً.

إنّها الطبيعة.. الطبيعة التي احتار فيها جميع الناس عمداً وسهواً، واختياراً وجبراً، إن صحّ أن تَعْرِض للحيرةِ هذه الأحوال، وانظر إلى الطبيعة إذ تُبدي ليلاً يغالبه سحر البيان، أو بحراً يراوده همس العشّاق، أو جبلاً يشاكس الطامحين، أو صحراءَ تُحيّر عقول التائهين، أو كواكب تسعى هرباً من أعين الساهرين؟! طبيعةٌ تُحيّر أجزاؤُها فكيف بها مجتمعة؟! لقد تخاصم فيها أرباب المذاهب وتشاكسوا، حتى اختلط الأمر واضطرب القول، ودعت الحاجة لتفصيل المقال!

في بحثٍ لهم بعنوان «المعنى في الطبيعة: معنى الحياة كوسيطٍ في العلاقة بين الصحة والارتباط بالطبيعة»، وضع أندرو هُووِيل وزملاؤه مقدمةً محكمةً تليق بموضوع البحث، قرّر فيها أنّ معنى الحياة يعود إلى «اعتقاد المرء أن حياته ذات فائدة، وأن وجوده يتجاوز سرعة زوالهم»، وأنّ استشعار معنى الحياة ينبع من «القدرة على تسامي المرء بنفسه، وربط هويته مع عناصرَ ثابتةٍ ومستقرةٍ في هذا العالم المتغير، والاعتقاد أن حياته تمثل جزءاً من مخططٍ أكبر… والإحساس بالحيوية والارتباط بالآخرين»، وأن الارتباط بالطبيعة هو رافدٌ ضخمٌ في الإحساس بمعنى الحياة وبالتالي في الإحساس بالصحة النفسية والاجتماعية! أما وقد علمتَ ذلك، فاتركه وتعال لنقيضه!

لا تتأمل!

لعلّ أكثر المواقف جمعاً للمتناقضات المضحكة هو موقف الملحد من الطبيعة، فهو إذ يدّعي – كثيراً – أن الدين هو صورةٌ لهروب الإنسان من خوفه من الطبيعة، فهو لا يدقق في كون إلحاده – غالباً – يمثل انعكاساً لانبهاره أو حيرته أو تشبثه بالطبيعة، وهو ينتسب إليها مدعيّاً أنّه ابنها، دون ملاحظة غربته فيها وكفران كبراء مذهبه بأمومتها، وهو يرمي المتدين بالغفلة عن دراستها وتحريم السياحة في أرجائها، ولو كان في الإلحاد شرعٌ يبين موقف الملحد من الطبيعة لكان نهياً جازماً «لا تتأمل»!

وأيّ شيءٍ في الدنيا أكثر مللاً من رحلةٍ مدرسيةٍ لطفلٍ لم يتجاوز السادسة من عمره، لزيارة مصنعٍ قديمٍ مهجورٍ تتحرك آلاته ببطءٍ شديد، ولا يُسمح له باستعمال عقله في شأن الآلات التي يراها، إلا حفظاً لما يقوله المهندس الذي يغيب في كثيرٍ من الأحيان؟! أيّ ملل؟! وأيّ فرقٍ بين رحلة هذا الطفل وحال الملحد في شأن الطبيعة؟!

 وما كان لمثله أن يعجبه شيءٌ مما يراه لأن «الجمال» الذي يراه مجرد وهم، إذ القوانين الصارمة غير العاقلة أنتجته دون قصد! وما كان لمثله أن يكون له نظرٌ ما لم يسبقه إليه مهندسٌ أو فيزيائيٌ أو عالمٌ بالأحياء! وما كان لمثله أن يعجبه شيءٌ لأنّه يعلم أنّ «إعجابه بالكيف المجهول» ينبع من الفراغ المعرفي لديه! وما كان لمثله أن يعجبه شيءٌ وهو يعتقد أن التأمل بدون دراسةٍ أكاديميةٍ هو خرافةٌ تامة الأركان!! وكأني بهذا الرجل ينظر إلى البحر والسماء والفُلك الجارية وعينه معلقةٌ بمشرف الرحلة الذي يقول له – وهو يشير نحو المهندس: «هاه!! لا تتأمل!!»

يخلص تحليل ديفيد روزنبرج إلى أنّ «حب الطبيعة ينبع من الإحساس بالعجب!»، العجب الذي يتأتى من استشعار الإبداع والجمال والعظمة، والإحساس بالدهشة والمفاجأة وتضاؤل الذات، وكل هذه الأمور لا تتحقق لملحدٍ يَرُد كل أمرٍ إلى قوانين لا تعقل، ويرى أن الانبهار بالجمال والعظمة هو انسياقٌ لوهمٍ سيبطله العلم، فإن كان ملحداً جاهلاً فينبغي له أن يشعر بتضاؤل عقله أمام عقل فلاسفة الإلحاد ومنظّريه، فلا يكون له رأيٌ في الطبيعة دون

الالتزام بكلامهم، وإن كان ملحداً عالماً شعر بتضاؤله أمام الزمن، بمعنى أنّه لو مُدّ في عمره لاستطاع أن يفسر كل مفردات الطبيعة تفسيراً ينسخ ادعاءات «الإبداع» و«الجمال» و«العظمة»!!

نحن والقطيع سواء!

“أستمتع بالطبيعة! يسعدني أن أخبرك أنني فقدت هذا الاستمتاع بالمرة! يزعم الناس أنّ الفنّ يجعلنا نحب الطبيعة أكثر من ذي قبل… وخبرتي الشخصيّة أنه كلما زاد تعمقنا بالفن قل اهتمامنا بالطبيعة، لما يكشفه لنا الفن مما في الطبيعة من انعدام التصميم، والفظاظة الزائدة، ورتابتها التي تتجاوز الحد، وحالتها الناقصة!

للطبيعة نوايا جيّدةٌ بالطبع ولكنها – كما قال أرسطو ذات مرة – لا تستطيع تنفيذها، عندما أنظر إلى مناظر الطبيعة لا أستطيع التوقف عن ملاحظة عيوبها، وبالتأكيد فإنّ نقصان الطبيعة هذا من حسن حظنا وإلا لم يكن هناك فنٌّ على الإطلاق، الفن هو احتجاجنا الروحاني ومحاولتنا الشجاعة لتعليم الطبيعة كيف كان ينبغي أن تكون!…

 إنّ الطبيعة غير مريحةٍ بالمرة، حشيش الأرض صلبٌ وقصيرٌ ورطب، لماذا يستطيع أفقر عمال بلدة موريس أن يصنع لك متكئاً أكثر راحةٍ مما توفره لك الطبيعة بأكملها؟!… أنا لا أشتكي، إذ لو كانت الطبيعة مريحةً لما اخترع الإنسان المعمار الهندسي.. وفوق ذلك فالطبيعة عديمة المبالاة والتقدير لنا، عندما أتمشى في الحديقة ينتابني دوماً شعور أننا والقطيع المرعيّ على المنحدر سواءٌ عند الطبيعة.. لا شيء أكثر وضوحاً من كره الطبيعة للعقل، ومن أن التفكير هو أكثر الأشياء غير الصحية في العالم، والناس يموتون من التفكير كما يموتون من أي مرضٍ آخر”. «تسوّس الكذب – للأديب الملحد أوسكار وايلد»

قف أمام المرآة وانظر إلى عينيك، هذه العين التي تذهلك بمناسبة تركيبها لوظيفتها، فإن جهلت تفاصيل ذلك أخذك سحر جمالها، العين التي طالما ألهمت شاعراً، وآنست عاشقاً،

وأجابت سائلاً، وفعلت كثيراً وحدها، ثم اسأل أحد عوام الملحدين عن عينيه التي بها يبصر، سيسكت حتى ينظر فيرى رأي كهنة الإلحاد، فإن سألت أحد علمائهم فكثيراً ما تجد أقوالاً من مثل: «إن عين الأخطبوط ليس فيها بقعة عمياء في حين أنّ أعيننا فيها، وإنّ عين العقرب مزودةٌ بنظاراتٍ شمسيةٍ وأعيننا ليس فيها ذلك!» ، أو من مثل: «هل أعيننا كاملة؟! إنّها ليست كذلك طبقاً للنظّارة القابعة على أنفي بينما أكتب الآن، وليست كذلك مقارنةً مع الكم الهائل من الأعين في المملكة الحيوانية، ولا بالمقارنة بين التركيب المروّع لأعيننا مع عين الأخطبوط على سبيل المثال»! فنحن أمام رجلٍ لا يتأمل – جاهلاً ولا عالماً – ولو كان متأملاً في عينيه! ونحن أمام مذهبٍ لا يترك لمعتنقه أدنى فرصةٍ لإعمال عقله في النظر فيما حوله خارج القوالب المسبقة!

الطبيعة الأم

كثيراً ما يُدلّل الملحد الطبيعة بنداء الأمومة، مع أنّ المشاعر المتبادلة بين الاثنين يغلب عليها الخوف والقلق؛ فالملحد بالنسبة للطبيعة ليس إلا أحد الغزاة المنتفعين، يستهلك مواردها، ويقضي على خيراتها دون وجه حق، وفي وجود أفكار التطور وحتمية التقدم لدى الإنسان، فإن «فلاسفةً مثل نيتشه وسبنسر – ملهمين بهذه الأفكار – قد طرحوا نظرةً – تسمى أحياناً النظرة الفاوستية Faustian للعلم الطبيعي – ترى الإنسانية مشتبكةً في صراعٍ دائمٍ لإخضاع قوى الطبيعة واستغلالها للاستعمال الذي يعود عليهم بالفائدة، وقد رأى نيتشه أنّ هذا مشتقٌ من غريزةٍ موروثةٍ دفينةٍ تهدف إلى التحكم في الطبيعة، وقد كانت هذه الغريزة من العوامل التي ساعدته على بقاء الإنسان حيّاً في الماضي المبهم السحيق»!

والطبيعة بالنسبة للملحد ليست إلا شخصيةً اعتباريةً، عديمة الإرادة، دائمةَ الحركة دون محركٍ من خارجها، دؤوبةَ التأثير على حياة الإنسان، فأيّ قلقٍ يتولد في قلبك من مُتصرّفٍ عديم العقل؟! ثم كيف يطمئن لسانك وأنت تسمها بالأمومة؟!

 يقول الملحد الشهير سام هاريس: في الركون إلى ادعاء أمومة الطبيعة إنّه يعتقد في «خطورة وسفاهة هذه النظرة الرومانسية الأسطورية للطبيعة، كل مائة مليون سنةٍ تقريباً يصطدم كويكبٌ أو مذنبٌ في حجم الجبل بالأرض ويسحق كلَّ ما هو على قيد الحياة، إذا أردنا دليلاً على عدم اكتراث الطبيعة برفاهية الكائنات المعقدة مثلنا، فإن تاريخ الحياة على هذا الكوكب هو حلقةٌ من التدمير الذي لا يرحم والتجديد الأعمى المترنح»!

وهكذا.. وفقاً لما زعموا؛ فإنّ الطبيعة الجامدة التي لا تعقل، ولا تبالي، لهي جديرةٌ أن توصف بالجفاء، وألا يُهتم لها، ولو أنّ رجلاً وقف على مشهدٍ من المشاهد التي تزدان بها الطبيعة فعجزَ عن الإحساس بهذا المشهد، ولم يبعث في قلبه دفء الأُنس، ثمّ اعتقدَ أنّ إعجاب الناس بهذا المشهد – ونظائره – دربٌ من الخيال المُحرّم، والخرافة المقنّعة، إنّ هذا الرجل ليس إلا ابناً تعيساً شديدَ العقوق للطبيعة، وإن ملأ فمه بأحاديث البر ونداءات الأمومة! إنّ هذا الرجل ليس إلا ملحداً صدق في إلحاده!

_______________________________

 المصدر: بتصرف يسير عن كتاب الإلحاد.. وثوقية التوهم وخواء العدم، مركز تفكر للبحوث والدراسات، ط1، 2015.

مواضيع ذات صلة