حقيقة العقيدة.. عندما تتحدث الفلسفة!

إن العقيدة الصَّحيحة لا تَكون صَحيحة إلَّا إذا اِنْعَدَم عنها أي صُورة مُنْحَرِفة. ولكن على أي أساس ندَّعي الاِنْحِراف؟

م. إسلام ماهر

بازل

حين تُصاغ المَفاهيم الصَّحيحة للأشياء تنجلي الحَقائِق كاشِفة عن القَصْد الأصيل لها.

حين تُصاغ المَفاهيم الصَّحيحة للأشياء تنجلي الحَقائِق كاشِفة عن القَصْد الأصيل لها. صَحيح أنَّنا نَسْتعين بالحَقائِق ونَسْتَنِد إليها للاِسْتِدلال على صِحَّة الفَهْم أو التَّصوُّر، إلَّا أنَّها تضل – وَحْدها- عن الفَهْم الصَّحيح إذا كانت حَقائِق جُزئيَّة أو أن المُسْتَدِل بها ناقِص في ذاته. ما أعنيه بالحَقائِق الجُزئيَّة هو تلك الحَقائِق غير الكافية لتبنّي اِعْتِقاد جازِم حول قَضيَّةٍ ما، كأن يقول أحد الغابِرين إنَّه يستحيل أن أُحدِّث “فُلانًا” الَّذي يَفْصِل بيني وبينه عشرات الأميال، لأنَّه لا يُتصوَّر أن يسمع صَوتي على هذا المَدى البَعيد. فإنَّه وإن اِسْتَدَل بحَقيقة ثابِتة، إلَّا أنَّها غير كافية لنَفي المَسألة الَّتي نَراها حَقيقة الآن، كنَتيجة لاِنْكِشاف حَقائِق أُخرى لم تكن قبل ظاهِرة. أمَّا النَّاقِص في ذاته فهو الجِنْس البَشَري، ولسنا بحاجة لإثبات تلك البَديهيَّة، فالنَّقص صِفَة مُلازِمة للإنسان، لم ولن يستطيع أن ينفك مِنها.

إذًا فالمَفْهوم الصَّحيح يُسْتَدَل على صِحَّته بالحَقائِق، والحَقائِق لا يُعْتَمَد عليها في اِسْتِنباط الفَهْم الصَّحيح إلَّا إذا كانت كافية للاِسْتِدلال. ولكي يتضح المَعْنى نَضْرِب مَثَلًا فنقول: إذا عَلِمنا أن شَخْصين لا يُتصوَّر أن يَدخُل غيرهما إلى حُجْرةٍ ما، فدَخَل أحَدهما إليها ثُم تَبِعه شَخْص آخر، فهل مِن شَك أنَّه ثانيهما؟ بالطَّبع لا، فالحَقيقة الَّتي نَعْلَمها كانت كافية للخُروج باِعْتِقاد جازِم حول المَسألة، وتَنْفي أن يكون هُناك اِحْتِمال آخر نَفْيًا قاطِعًا. أمَّا إذا كانت المَعْلومة “اليقينيَّة” لدينا تَقول – مَثَلًا- بثَلاثة أشْخاص، فهُنا تَكون الحَقيقة غير كافية للحُكْم، وندخُل حينها في مَبْدأ الاِحْتِمالات، ومِن ثَم يَسْتَحيل علينا أن نَجْزِم بأن الشَّخص الدَّاخِل هو فُلان.

مفهوم العقيدة

حلم

على كَثْرَة العَقائِد الَّتي عَرَفها الإنْسان إلَّا أن أكْثرها كانت غير كافية لتبنّي تصوُّر عام يَسْتَطيع مِن خِلاله الأفْراد أو الجَماعات أن يسيروا على هُداه في دَقائِق حَياتهم وكَبيرها.

كيف يُمْكِن إذًا أن نضع مَفْهومًا صَحيحًا للعَقيدة في ضَوء ما أسْلَفنا ذِكْره؟ وهل يُمْكِن أن تتعدَّد المَفاهيم الصَّحيحة حَول هذا المُصْطَلَح؟

قبل أن ندلِف في إجابة ما سبق، علينا أن نضع مَفْهومًا عامًّا للعَقيدة، حَتَّى نُدْرِك مَباحِثها المُشكِّلة لها، فنَقول إن العقيدة هي مَجْموعة الأفكار الَّتي يؤمن الفَرد بصِحَّتها، ويَعْتَبِرها حَقائِق مُطْلَقة. وهي تُفسِّر للإنْسان حَقيقة وُجوده؛ مِن أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين يَصير؟

ويُفْتَرَض أن يتصرَّف الإنْسان وَفق عَقيدته بقَدر يَقينه فيها، كما يَخْتَلِف تَغلغُلها في حَياته تَبعًا لتصوُّرها للحَياة، لكنها –على اِخْتِلافها- تجعله يتحرَّك وَفقًا لما تَنْطَوي عليه. وقد تمتزج العَقيدة بالهَوى فيتشكَّل تصوُّر أو عَقيدة مُنحرِفة عن عَقيدته الأصليَّة، ولكنه في النِّهاية يتصرَّف وَفق “عَقيدة”، وإن كانت مُشوَّهة عمَّا يدَّعي اِعْتِقاده.

وعلى كَثْرَة العَقائِد الَّتي عَرَفها الإنْسان إلَّا أن أكْثرها كانت غير كافية لتبنّي تصوُّر عام يَسْتَطيع مِن خِلاله الأفْراد أو الجَماعات أن يسيروا على هُداه في دَقائِق حَياتهم وكَبيرها، أي أنَّها عَقائِد ناقِصة مِن حيث دَرَجة الإحاطة بما يَعْتَري الإنْسان مِن أُمور، والعَقائِد الأُخرى دون الصَّحيحة مِنها – الَّتي يُمْكِن أن نَصِفها بالشُّموليَّة- مُتضاربة، أو غير واقعيَّة في بعض نواحيها التَّنفيذيَّة. نَتَج عن ذلك أن تبنَّى الإنْسان مَزيجًا مِن العَقائِد لتُلبّي اِحْتياجاته المُخْتَلِفة، ولأن اِحْتياجات الفَرد مُتشابِكة بصورة يَعْجَز الإنْسان عن تخيُّلها، فقد حَدَث الصِّدام الَّذي لا مَفَر مِنه.

وإذا نَظَرنا إلى النَّتائج الحَياتيَّة للمَعارِف والعُلوم الَّتي يَكْتَسِبها الأفراد نجد أنَّها تترقَّى صُعودًا أو تَنْحَدِر هُبوطًا بمِقْدار سَعي الإنْسان نحو التَّرقّي أو الاِنْحِدار، وقد يَكون مُسْتَغْرَبًا أن “يَسْعى” الإنْسان نحو الهُبوط، والحَق أنَّه حين يَهْبط يُخيَّل إليه أنَّه في صُعود! هذا الاِنْحِراف يَرْتَبِط اِرْتباطًا وَثيقًا بما يتصوَّره هو نحو السُّمو أو الاِنْحِطاط، ولو أنَّنا رَجَعنا إلى ما يتصوَّره لعَلِمنا أن الأمر يَعود – على وَجه الإطْلاق- إلى العَقيدة الَّتي هو عليها.

مِن هُنا نَقول إن عَقيدة المَرء تُمْلي عليه تصوُّراته، وتصوُّراته تَنْعَكِس بالضَّرورة على ما يقوم به مِن أفعال وما يسعى إليه مِن أهْداف؛ هذا إذا ما كان مُؤْمنًا بها حَق الإيمان، أمَّا إذا تعلَّق به ما يُخالفها فلا شك أنَّه قد يتَّخذ مَوْقفًا مُخالِفًا لها مُنافيًا للسَّيرعلى خُطاها في أُمورٍ كثيرة. يَعود ذلك إلى أحد أمرين: إمَّا جَهْلًا بما تَقتضيه عَقيدته مِن سُلوك، أو مَيلًا إلى ما يُخالفها اِعْتِقادًا بأنَّه أصْوب وأنفع!!

ولا نَلْتَفِت إلى الأمر الأوَّل على خُطورته، لكننا نَنتَبه إلى الثَّاني لما فيه مِن تناقُض واضح يقود إلى اِسْتِنتاج وَحيد؛ هو أن ذلك الإنْسان يتبع – على الحَقيقة- هواه، فلو وَجَده فيما عليه مِن “عَقيدة ظاهريَّة” فلا بأس، وإن كان في غيرها فلا حَرَج.

نعود فنَقول إن العقيدة هي المُحرِّك الحَقيقي لمَساعي البَشَر وأفْعالهم، يدخُل في ذلك “الجاهِل” و” صاحِب الهَوى”، لأن كِليهما يتحرَّك مِن مُنْطَلَق ثابِت، فالأوَّل يقوده “الجَهل” بحَقيقة ما يَعْتَقِد! إلى ما يُمْلي عليه عَقْله أو مُجْتَمَعه أو الظُّروف، والثَّاني يَنْدَفِع تحت باعِث “الهَوى” إلى ما يجد فيه تَحقيقًا له، ويتلمَّس في ذلك الأسباب والتَّبريرات، وإن كانت تُناقض عَقيدته المَنْسوب إليها كُل التَّناقُض.

عندما تختلف مفاهيم العقائد

استفهام

إذا أردنا معرفة المفهوم الصحيح للعقيدة، فعلينا أن نجيب على تلك الأسئلة التي طرحناها سلفا؛ من أين جاء الإنسان؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين المصير؟

بعد أن وَضَعنا مَفْهومًا عامًّا للعَقيدة وأدركنا أنَّها المُحرِّك “الحَقيقي” للإنْسان، لم يتبق إلَّا أن نُجيب على ما طَرَحناه مِن تَساؤلات. نَقول أوَّلًا إنَّه يَسْتَحيل أن تتعدَّد المَفاهيم “الصَّحيحة” حَول العَقيدة حَتَّى وإن تشابه مَضْمونها، لأنَّه لو صَح مَفْهوم مِن المَفاهيم، فإن المَفْهوم “الجَديد” والَّذي ندَّعي أنَّه صَحيح أيضًا- يَكون مُخالِفًا للأوَّل في جانِب مِن الجَوانب، فيَكون غير صَحيح.

وما دام المَفْهوم الصَّحيح واحِد، فإن المَفاهيم الأُخرى ستكون بالضَّرورة قَريبة أو بَعيدة – بصُورة أو بأُخرى- مِن الصُّورة الصَّحيحة، وهذا يَعْني أن ثَمَّة تشابُه ما قد يَحْدُث بين الصَّحيح والمُنْحَرِف. هذا التَّشابُه ينخدع به الكَثيرون، لأنَّهم حين “يَعْتَقِدون” بإحدى المَفاهيم المُنْحَرِفة للعَقيدة يتراءى لهم “جُزء” صَحيح، يحجب أبصارهم عن الأجْزاء المُنْحَرِفة. كأن نَقول إن العَقيدة (أ) الصَّحيحة تدعو إلى كذا والعَقيدة (ب) المُنْحَرِفة تدعو إليه كذلك، فيَنْخَدع أصحاب العَقيدة (ب)، لأنَّهم وَجَدوا “حقًّا” فيما يَعْتَقِدون، ولكنهم تغافلوا عن أن عَقيدتهم أيضًا تدعو إلى غير ذلك مما لا يَسْتَقيم في العَقْل الواعي والفِطْرة السَّليمة.

لذلك نَقول إن العقيدة الصَّحيحة لا تَكون صَحيحة إلَّا إذا اِنْعَدَم عنها أي صُورة مُنْحَرِفة. ولكن على أي أساس ندَّعي الاِنْحِراف؟ أعْني أن الاِنْحِراف الَّذي تراه أنت قد يراه غيرك اِسْتِقامة. الحَق أن الاِنْحِراف تظهر نَتائِجه آجلًا أو عاجلًا، فإذا ما ظَهَرت أدركنا أنَّها عَقيدة غير صَحيحة. كأن تقول إحدى العَقائِد المُنْحَرِفة – مَثَلًا- أن هذا الكِتاب هو كِتاب الله المُقدَّس، ثُم نتفاجأ بتناقُضات لا حَصر لها وأخْطاء لا مَهْرَب مِنها!

أمَّا إذا أردنا مَعْرِفة المَفْهوم الصَّحيح للعَقيدة، فعَلينا أن نُجيب عن تلك الأسئلة الَّتي طَرَحناها سالِفًا؛ مِن أين جاء الإنسان؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين يَصير؟ والَّتي نتَّفق جميعًا على أنَّها مَناط المَفاهيم المُخْتلِفة للعَقيدة. والأسئلة الثَّلاثة تقودنا إلى سؤال واحِد: هل مِن خالِق؟

______________________________

المصدر: بتصرف يسير عن مواقع ساسة بوست http://bit.ly/1S9UQO2

مواضيع ذات صلة