للكون إله.. العقيدة في مواجهة الشكوك ج2

د. صبري الدمرداش

الكون

يتفق النظام الموجود في الكون، والذي يعتبر ذا أهمية بالغة بالنسبة للمشتغلين بالعلوم، مع ما تُحدثنا به الكتب السماوية من أن الله هو خالق هذا الكون ومبدعه وهو الذي يمسكه بعنايته وبحفظه بقدرته

لا زال حديث الأسرة موصولا عن العقيدة في فكر بعض علماء الطبيعيات ورؤية كل منهم للإبداع في الخلق بحسب علومهم المختلفة.. وبعد ذكر علماء الفلك والفيزياء حان الوقت لمراجعة مواقف علماء الكيمياء والجيولوجيا وعلماء الحياة ورؤية الخالق عز وجل من منظورهم..

3- الله في عيون علماء الكيمياء

أ‌- دونالد كار:

العالم: دونالد كار هو أستاذ للكيمياء الجيولوجية في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية. وتتلخص – في رأيه – النقط التي تمس فيها دراسة الكيمياء الجيولوجية الفلسفة الدينية في النقطتين التاليتين:

الأولى: تحديد الوقت الذي بدأ فيه هذا الكون.

والثانية: اكتشاف النظام الدقيق الذي يسوده.

وأما عن النقطة الأولى فقد أمكن باستخدام العلاقات الإشعاعية تحديد عمر الأرض بنحو 4550 مليون سنة، كما تم تحديد عمر الكون كذلك بطريقة مختلفة. وما دام للكون عمر فهو ليس قديماً إذا أو أزلياً وإنما له لحظة بدأ فيها وقبلها لم يكن له وجود. ولو كان الكون أزلياً قديماً لما بقيت فيه أي عناصر إشعاعية، وهو ما يتفق والقانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية تماماً، وأما القول بأن هذا الكون كون دوري، بمعنى أنه ينكمش ثم يتمدد، ثم ينكمش ثم يتمدد، وهكذا، فإنه يظل في الحقيقة مجرد تخمين.

وأما عن النقطة الثانية، فإن مبدأ الانتظام ليعتبر من بديهيات علم الجيولوجيا. وينص هذا المبدأ على أن جميع العمليات الكيميائية الجيولوجية التي تعمل الآن، كانت تعمل أيضاً فيما مضى. ومن ثم ففهمنا لهذه العمليات يعيننا على تفسير التاريخ الجيولوجي، لأن انتظام الكون وعمل القوانين الطبيعية فيه ليعتبرا أساس هذا العلم الحديث.

وأن النظام الموجود في الكون، والذي يعتبر ذا أهمية بالغة بالنسبة للمشتغلين بالعلوم، يتفق مع ما تُحدثنا به الكتب السماوية من أن الله هو خالق هذا الكون ومبدعه وهو الذي يمسكه بعنايته وبحفظه بقدرته. ولو كان الكون قائماً على الفوضى، لما كان هنالك معنى لما تذكره تلك الكتب من أن قدرة الله وألوهيته تتجليان في كل شيء منذ خلق الله هذا الكون وأبدعه. ولولا انتظام الكون ما كان لأي معجزة من معجزات الأنبياء والرسل معنى، لأن المعجزة تعني خرق الناموس والخروج على المألوف، ولا يمكن تقديرها وإدراك قيمتها إلا في كون منظم تُسيِّر ظواهره قوانين حاكمه وسنن ضابطه.

ضرورة الإيمان بالسنن الكونية

وكما قال عالم الجيولوجيا “داوسن”: “إن الإيمان بسنن الله الكونية ضروري بالنسبة للمعنى الفلسفي لصلاة الإنسان ودعائه. فلو كان الكون قائماً على الفوضى، لما كان هنالك معنى لذلك. أما إذا اعتقد الإنسان أن هذا الكون يقع تحت سيطرة إله مشرع حكيم. لا مجرد مدير لجهاز آلي فإننا نستطيع أن نتقدم إليه بالصلاة والدعاء، لا لنغير خطته العظمى وسنته، ولكن لكي يدبر بحكمته الواسعة ومحبته السابغة الأقدار لنا بحيث تفي بحاجاتنا”.

الفقيه: تماماً مثلما نتوجه نحن المسلمون بالدعاء إلى الله تعالى فنقول: اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه، اللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير.

العالم: صحيح، ويستطرد كار قائلاً: “إن الكيمياء الجيولوجية تعلمنا أن ننظر إلى الكون نظرة واسعة شاملة في الزمان و المكان. فنفكر في الزمان على أساس بلايين السنين، وفي المكان على مستوى الوجود كله، ومثل هذه النظرة تجعلنا نزداد تقديراً لعظمة الله وجلاله، أما غير المؤمنين فسوف يمتلؤون رعباً ورهبة، وقد يضطرون – في النهاية – إلى أن يسلموا بأن السموات الأرض وما بينهما تشهدان على وجود خالق عظيم.

ويتجلى التوافق بين العلوم والدين في ذلك النشيد الديني – الذي ربما تأليفه من وحي الكشوفات العلمية الحديثة-: إلهي العظيم، عندما أنظر بعجب ودهشة ورهبة وخشية إلى كل العوالم التي صنعتها يداك، أبصر النجوم وأسمع قصف الرعد وزمجرة الريح، عندئذ تتجلى لي قوتك في كل الأرجاء، فتغني روحي ويهتف قلبي. إلهي ما أروعك، إلهي ما أبدعك، إلهي ما أعظمك”.

ب- واين أولت:

الإيمان بالله

يعد الإيمان بالله لازماً لاكتمال وجود الإنسان وإعطاء حياته معنى. والاعتقاد بوجود إله خالق لكل الأشياء يعطينا تفسيراً بسيطاً وصحيحاً عن النشأة والإبداع والحكمة ويساعدنا على تفسير جميع ما يحدث من ظواهر.

العالم: واين أولت أستاذ الكيمياء الجيولوجية بنيويورك بالولايات المتحدة. يقول أولت: إن الله – كما نعرفه- ليس مادة ولا طاقة، ولا يجب أن يكون، بحيث يمكن إخضاعه لحكم التجربة. ومن ثم فالتصديق بوجود الله يقوم على أساس الإيمان المستمد من الدلائل العقلية التي تشير إلى ضرورة وجود “سبب أول” و “قديم” لخلق هذا الكون.

وجود الإنسان ومعنى الحياة

والإيمان بالله يعد لازماً لاكتمال وجود الإنسان وإعطاء حياته معنى. والاعتقاد بوجود إله خالق لكل الأشياء يعطينا تفسيراً بسيطاً وصحيحاً عن النشأة والإبداع والحكمة ويساعدنا على تفسير جميع ما يحدث من ظواهر.

 أما النظريات التي ترمي إلى تفسير الكون تفسيراً ميكانيكياً فإنها تعجز عن تفسير كيفية بدئه من جهة، كما أنها ترجع ما حدث من الظواهر التالية بعد هذا البدء إلى فكرة المصادفة، والمصادفة هنا يستعاض بها عن فكرة وجود الله بقصد إكمال الصورة، ولكن حتى بغض النظر عن الاعتبارات الدينية نجد فكرة وجود الله هي الأقرب إلى العقل من فكرة المصادفة، ذلك أن النظام الدقيق والبديع الذي يسود الكون كله إنما يدل دلالة حتمية على وجود إله منظم وليس على وجود مصادفة عمياء تتخبط خبطاً عشواء.

وإذا كان هناك كثيرون ممن يرفضون فكرة ما وراء الطبيعة أو ما فوقها، فهم يتحدثون في الوقت نفسه عن ظواهر لا يعلمون عن كنهها شيئاً. ونحن نسألهم هل تم مثلاً التوصل إلى جهاز الرادار عن طريق المصادفة أم عن طريق الاختراع وما يقتضيه من عوامل القصد والتصميم والتنفيذ؟ وكيف توصل الوطواط إلى تكوين جهاز الرادار الموجود فيه والذي لا يحتاج منه إلى انتباه أو إصلاح كما يستطيع أن يورثه لذريته عبر الأجيال، عن طريق المصادفة أم عن طريق الاختراع؟!.

إن العقل يرفض فكر المصادفة في الحالين، ومن ثم فإن المشتغل بالعلوم. والذي يعلم ذلك علم اليقين. هو أول من يجب عليه التسليم بوجود عقل مبدع لا حدود لعلمه ولا لقدرته، موجود في كل مكان يحيط مخلوقاته برعايته وعنايته مهما استدقت تلك المخلوقات أو عظمت.

وهنالك ظواهر أخرى عديدة مما لا يمكن تفسيرها أو إدراك معناها إلا إذا سلمنا بوجود الله، ومن ذلك مثلا: ذلك الفراغ الكوني الرهيب وما تسبح فيه من نجوم وكواكب مما لا يقع تحت عد أو حصر، وقابلية المادة مهما كانت طبيعتها للانقسام إلى لبنات أساسية بالغة الصغر، والتماثل الذي تشاهده بين مختلف الكائنات الحية مع اتصاف كل فرد منها بكل ما يميزه عن غيره، والهوة السحيقة التي تفصل بين الإنسان وما دونه من مخلوقات.

إن الإنسان يجب أن يؤمن بالله، بل إنه في حاجة ماسة لذلك، ولكن الإيمان الذي نقصده هو ليس الإيمان الأعمى بل الإيمان البصير الذي يقوم على التدبر والتعقل. وقد آمن بالله –بالفعل– أناس كثر فذاقوا حلاوة إيمانهم في نفوسهم بل وفي عالمهم المادي مجال دراسة علومهم. وعندما يؤمن المشتغل بدراسة العلوم بالله فإن دراسته مهما كان اتجاهها سوف تعمق ما لديه من تصديق وإيمان.

4- الله في عيون علماء الحياة

أ- وولنر لاميرتس

النحل

لقد كان يخيل لي دائما كأنما توجد قوة أخرى في هذا الكون تعمل في اتجاه معاكس وتمنع أو تحول على الأقل دون استفادة الإنسان القصوى مما في بيئته من نبات وحيوان.

العالم: وولنر لاميرتس أستاذ علم الوراثة بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس بالولايات المتحدة. يقول لاميرتس: لقد كان يخيل لي دائما كأنما توجد قوة أخرى في هذا الكون تعمل في اتجاه معاكس وتمنع أو تحول على الأقل دون استفادة الإنسان القصوى مما في بيئته من نبات وحيوان.

حيران: لا أفهم.

العالم: انتظر ليضرب لنا لاميرتس الأمثال.. ومثله الأول: أن هناك كثيرا من النمل وقليلا من النحل مما ينجم عنه ضعف في حاصلاتنا الزراعية. ومثله الثاني: أن التربة يتناقص خصبها تدريجيا ومع ذلك فهي تنتج عشبا كثيرا ضارا.

ويتساءل: لماذا يحدث كل ذلك؟ ويجيب: إن الطبيعة لم تعطنا تفسيرا، ولكني عثرت عليه في الكتاب المقدس، فغضب الله ينزل بالتربة بسبب أخطاء الناس، ومع ذلك فلا تزال هناك ثمة بقية من خير تسمح بعطاء الله وفضله.

ويستطرد لاميرتس: وتلك كانت فلسفتي حتى دخلت الجامعة ودرست نظرية التطور العضوي، وهنا مرت بي سنوات من الصراع العقلي بيني وبين نفسي من جهة وبيني وبين زملائي من جهة أخرى. ولكن سرعان ما اتضحت لي الكثير من الحقائق، فعلم الوراثة مثلا لم يقدم لنا دليلا على صحة الفرضين الأساسيين اللذين أقام عليهما تشارلز دارون نظريته في نشأة الأنواع وهما:

  • أن العضويات الصغيرة في كل جيل من الأجيال تنزع دائما إلى أن تختلف اختلافات طفيفة عن آبائها في جميع الاتجاهات الممكنة.
  • أن التغيرات المفيدة، من تلك التغيرات الطفيفة، تورث في الأجيال التالية وتتراكم نتائجها حتى تنتج عنها تغيرات جسيمة.

وبتعمقي في دراسة تلك النظرية أدركت عجزها عن تفسير كل تلك الاختلافات العديدة التي نشهدها في عالم الأحياء، والتي تشير –في مجموعها- إلى وجود خالق حكيم هو الذي وراء حدوث كل تلك الاختلافات.

نعم إن الطبيعة تكشف لنا عن قدرة الخالق ونظامه في خلقه رغم أنها قد لا تستطيع أن تكشف لنا عن بعض حكمته وقصده. وكما يقول أحد الحكماء: إننا نبصر اليوم الحقائق من وراء حجاب، وغداً عندما يُكشف عنها الغطاء سوف تراها سافرة بكل الجلاء والوضوح. إننا لا نعلم اليوم إلا قليلا ولكن غدا سوف ينكشف لنا علم ما لم نكن نعلم.

الفقيه: صدق الله العظيم إذ يقول: “لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ” (ق:22)، “وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً” (الإسراء:85).

الجميع: آمنا بالله.

ب- رسل مكنسر:

العالم: رسل مكنسر هو أستاذ علم الحيوان بكلية هويتن وعضو الجمعية العلمية بإلينوى بالولايات المتحدة. يقول مكنسر: يعرف الطفل ربه لأول مرة عن طريق والديه، فهما يستخدمان لفظ الجلالة بكل تقديس، وبذلك يتعلم الصغير منذ نعومة أظفاره أن يلجأ إلى الله مباشرة وأن يسأله أن يقضي له حوائجه بالطريقة نفسها التي يلجأ بها إلى والده. و يكون الطفل في هذه المرحلة راضيا ومطمئنا إلى ربه الذي لا يراه.

ثم يكبر الطفل ويقرأ في الكتب قصص المؤمنين الذين ساروا في طريق الله فكان في ذلك لهم النجاة كل النجاة.. من الوحوش وضرب السيوف، وحرق النار، كما كان لهم قوة من بعد ضعف ونصرة في مواقف الشدة. وكم يستولي على الطفل الإعجاب ببطولة هؤلاء المؤمنين. وكم تتوق نفسه البريئة إلى الاقتداء بهم والتأسي بسيرتهم، ويشعر أن رفاقا من الماضي يشدون أزره ويقوون عزيمته بما يبثونه في داخله من معان سامية ويغرسونه من قيم نبيلة.

هل يوجد إله حقيقة؟

غير أن دراسة ذلك الطفل فيما بعد في مراحل التعليم العام تجذبه في اتجاهين متعارضين: فهي من جهة تقوي إيمانه بالله، ومن جهة أخرى تضعف إيمانه به. وهنا تستبد به الحيرة ليتساءل: تُرى هل يوجد إله حقيقة؟، وإذا كان موجودا فما كنهه وصورته؟. وهنا يقرأ في الكتب المقدسة فيجد فيها أن الإنسان يستطيع أن يصل إلى الله مستخدما عقله، فيجد في هذا السبيل، وقد يتحول في النهاية من الحائر الصغير إلى المؤمن الكبير فتتوازن شخصيته بانسجام روحه مع عقله.

وإن عملي لوثيق الصلة بالكائنات الحية، ومن ثم بالإله الذي خلقها، وليس من المنطق في شيء أن نفصل بين الاثنين. انظر إلى الأنواع العديدة من هذه الكائنات، من نبات وحيوان، والتي يبلغ عددها الملايين، وأنا أعني هنا الأنواع لا الأفراد: هل هناك نظام تخضع له هذه الأنواع على تباينها واختلافها؟ أقول: نعم هناك نظام، فكل نوع من هذه الأنواع ينقسم إلى فصائل، والفصائل إلى رتب، والرتب إلى تحت رتب وهكذا…

ولكن مهما قسمناها تظل هنالك صفات مشتركة بين جميع الأنواع والفصائل والرتب وتحت الرتب وأخرى بين جميع الأفراد التي تنتسب إلى كل نوع أو فصيلة أو رتبة أو تحت رتبة، فهي تشترك جميعا في البروتوبلازم مادة حياتها. ويعد هذا في ذاته دليلا على أن وراء كل ذلك التنظيم خالقا مدبرا هو الله بدلا من إرجاعه إلى فكرة المصادفة التي هي دائما ضد النظام.

ونحن عندما نقرأ في الكتب المقدسة أن الله تعالى هو خالق الإنسان والحيوان والنبات وخالق كل شيء، فعلينا أن نثق بهذا وأن نصدقه لأن كل ما في الطبيعة يتفق معه ويؤيده، ومع أن الكتب المقدسة ليست من كتب العلوم، إلا أنها تمس المبادئ الأساسية للعلوم.

والحقيقة التي لا أشك فيها، والتي لا تستطيع النظريات المادية نقضها أو انتقاصها، هي أن الله الذي يصل إليه الإنسان بدراسته للكون الذي يعيش فيه هو نفس الإله الذي تتحدث عنه تلك الكتب السماوية.

الجميع: كلام منطقي تماما ومقنع ولا يصدر إلا عن قلبٍ مؤمنٍ بخالقه.

 ____________________________

المصدر: بتصرف  يسير عن كتاب: للكون إله، د. صبري الدمرداش، الكويت،  مكتبة المنار، ط2، 2006، ص:615-620

مواضيع ذات صلة