الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (2)

الواقع أن النزعة الاستهلاكية لا تقف وحدها وراء النكبات الأخلاقية الغربية المعاصرة، لكن هناك خلل كامن في تصور مفهوم الأخلاق وفي المرجعية التي يستند إليها الفكر الغربي في تأصيل مصدر الأخلاق، والتي استندت إلى العقل وحده من دون أي مصدر آخر…

د. حازم علي ماهر* (تنشر السلسلة بالتزامن مع نشرها في جريدة السياسة الكويتية)

الغالب أن البعض سيسارع باختيار المرجعية الغربية ميزانًا للأخلاق باعتبار أن الحضارة الغربية هي الحضارة السائدة في عالمنا المعاصر.

فسرت المعاجم اللغوية العربية مصطلح «النكبة» بمعان كثيرة، أختار منها ما أقصده من تبني هذا الوصف للسقوط الأخلاقي العالمي الذي نبحث عن جذوره الفكرية في هذه السلسلة من المقالات، وهو: (الصدمة) و(المصيبة) و(الانحراف) عن الطريق المستقيم مثل ما جاء في قوله تعالى: “وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ” (المؤمنون: 74).

ونحن إذ أقررنا غير مرة بوجود نكبة –بل نكبات أخلاقية- يئن منها العالم عموماً، والعالم الإسلامي خصوصاً، علينا أن نعي كذلك أن تحديد تلك النكبات واستقصاء جذورها يقتضي منا أولا أن نحدد المعيار الذي على أساسه سنقرر ما إذا كنا بصدد نكبة أخلاقية من عدمه، أو بمعنى آخر ينبغي تحديد المرجعية أو الميزان الذي سنزن به العمل أو السلوك للقول إنه منافٍ للأخلاق من عدمه.

في دراسة نكبة الأخلاق.. لأي المرجعيات سنعود؟

 والغالب أن البعض سيسارع باختيار المرجعية الغربية ميزانًا للأخلاق باعتبار أن الحضارة الغربية هي الحضارة السائدة في عالمنا المعاصر، لكن بمزيد من الدراسة والتحليل سندرك أن هذه الحضارة نفسها يتهددها خطر السقوط الأخلاقي وفق تعبير المفكر الألماني الدكتور مراد هوفمان الذي لاحظ أن القرن العشرين كان أكثر القرون دموية في تاريخ البشرية، بكل ما شهده من حروب عالمية مدمرة، وانتشار الأسلحة القادرة على إبادة الملايين من البشر، ومعسكرات الإبادة وعمليات التطهير العرقي وغيرها من مآسي على البشرية، وأن كل هذا يشهده العالم بعد مرور 250 عامًا على بداية عصر التنوير ومشروع الحداثة!

وأن هذه الوحشية المهينة للبشرية تتركز في أوروبا (المتحضرة) الشديدة الزهو والفخر بعقلانيتها وإنسانيتها (الإسلام والألفية الثالثة.. ديانة في صعود، ص 10). وقد ارتفعت أصوات كثير من المفكرين في الغرب تحذر كذلك من السقوط الأخلاقي في ظل الحداثة وما بعدها، مثل المفكر البولندي زيغمونت باومان الذي صرخ يحذر من طغيان النزعة الاستهلاكية في مجتمع «معولم» من المستهلكين، حيث امتد تأثير السلوك الاستهلاكي إلى وجوه الحياة المختلفة، بما فيها العمل والحياة الأسرية: «كلنا اليوم تحت ضغط أن نستهلك أكثر، وعلى الطريق نصير أنفسنا سلعًا في أسواق الاستهلاك والعمل» (انظر كتابه: الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ص 86).

والواقع أن النزعة الاستهلاكية لا تقف وحدها وراء النكبات الأخلاقية الغربية المعاصرة، لكن هناك خلل كامن في تصور مفهوم الأخلاق، وفي المرجعية التي يستند إليها الفكر الغربي في تأصيل مصدر الأخلاق، والتي استندت إلى العقل وحده من دون أي مصدر آخر، ثم ربطت بين مفهوم العقل واللذة، بمعنى أن الفعل الأخلاقي العقلاني هو الذي يحقق أكبر منفعة ممكنة، لا للإنسانية ككل، بل للفرد نفسه أو لفئة معينة من الناس تتحدد على أساس عرقي أو قومي أو حتى مهني (مثل طائفة البروليتاريا مثلا عند ماركس)، فلا اعتبار للدين –مثلا- كأساس للقيم، مما جعلها هلامية اختزالية سائلة (من السيولة) تتغير وتتبدل بحسب المصالح الآنية، فلا تختلف كثيرًا عن أخلاق البهائم التي لا تبتغي من سلوكها إلا تحقيق اللذة والمنفعة وتحاشي الألم، من دون أن تتفكر ولا ترنو إلى تحقيق مثل عليا أو مصالح عامة لجنسها ناهيك عن بقية الأجناس التي تعيش في هذا الكون (انظر إذا شئت: الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ص 53، وعلي عزت بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، ص 193-215، وطه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، ص 14).

 إذن، لا تسعف المرجعية الغربية –فكرًا وسلوكًا- في تقديم معيار لما يعد أخلاقي أو غير أخلاقي من سلوك الإنسان بوصفه إنساناً، ومن ثم لا يمكن أن نعتمد عليها في تحديد ما يعد (نكبة أخلاقية) من عدمه، بل قد تكون هي نفسها نكبة تقف في مواجهة ترسيخ الأخلاق السامية وتعميمها على البشر جميعًا، الأمر الذي يدفعنا إلى اعتماد مرجعية أخرى متجاوزة للإنسان، لا تتحكم فيها أهواؤه، فيبدل فيها كما يشاء، ويحول منكرها إلى معروف، ومعروفها إلى منكر وفق منفعته المادية..

مرجعية تسع الكون كله لا مجموعة بشرية دون الأخرى، ليس فيها معيار للتفاضل إلا بالاعتقاد الراسخ والعمل الصالح، أيا كان انتماء الإنسان ودينه ولونه وعصبته. وحيث ما وجهت نظرك لن تجد مرجعية للأخلاق بتلك الصفات مجتمعة إلا مرجعية الإسلام، وهو الدين الذي أُوحي إلى الأنبياء والرسل، من آدم إلى محمد (عليهم صلوات الله وسلامه)، ليقوم الناس بالقسط، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله؛ فالأخلاق الإسلامية هي الأخلاق الكونية بامتياز؛ «فهي بفضل أساسها الإلهي، تجلب الثقة في هذا العالَم، وبفضل تعديها من المسلمين إلى غيرهم من الناس، فإنها تسوي بين حقوقهم وواجباتهم، وبفضل شمولها لجميع الأفعال، فإنها تحفظهم من ظلمهم لأنفسهم أو ظلمهم لبعضهم البعض (سؤال الأخلاق، د. طه عبد الرحمن، ص 159).

 من أجل ذلك سيكون الإسلام –بمفهومه الشامل والعام- هو مصدر المعيار الأخلاقي الذي سنعرف به ما إذا كنا بصدد نكبة أخلاقية من عدمه، وننهل منه ما يساعدنا على تحقيق السمو الأخلاقي، لاسيما وقد اعتمد كلا من العقل والفطرة الإنسانية مصدرين للسلوك الإنساني ولترشيده، ومن ثم فتح الباب للاستفادة من النجاحات الأخلاقية الإنسانية كافة، بما فيها تلك التي توطنت خارج بلاد المسلمين في عالمنا المعاصر، فالحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق بها.

لمزيد من المعلومات حول المقال الأول في السلسلة يمكن الاطلاع عليه عبر زيارة العنوان التالي:

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (1)

مواضيع ذات صلة