الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (20)

من البديهي القول بأن ميادين الاستضعاف هي نفسها ميادين العمل على استرداد العزة و الأخلاق المهدرة؛ فالمطلوب على وجه التحديد هو التحرك الواعي الرشيد -بكل السبل المتاحة- لإحباط مخططات الاستضعاف والإذلال، وذلك عبر العمل التطوعي؛ التثقيفي والتربوي والتنموي والإنساني والخيري في مقاومة الإفقار والتجهيل والاستعباد ونشر اليأس والإحباط وفقدان الثقة في الذات وفض الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع.

(مقتطف من المقال السابق)

د. حازم علي ماهر* (تنشر مقالات السلسلة أسبوعيا بالتزامن مع نشرها في جريدة السياسة الكويتية)

حول مقاومة الوهن التشريعي

الأخلاق

من الأفكار -المتغافل عنها- فكرة تنطلق من حقيقة أن إقصاء الشريعة الإسلامية لم يكن القصد منه استبدال أحكام تفصيلية قانونية بأحكام تفصيلية شرعية، بل كان القصد هو استبدال المرجعية التشريعية ذاتها.

دعوت في المقال السابق إلى قيام أهل كل تخصص بالعمل على مواجهة الوهن في مجاله، غاية وسعهم، ووفق اعتبارات السياق الذي يعيشون فيه، والحقيقة أنني وجدتها فرصة لأبدأ بنفسي وأحاول أن أقوم بواجبي -على النهج ذاته- تجاه هذه النكبة، وفي مجال تخصصي كذلك، وهو القانون والشريعة الإسلامية، وأطرح ما أراه يمثل خطوة في علاج الوهن التشريعي في عالمنا العربي والإسلامي.

ويتمثل الوهن التشريعي -بشكل أساسي- فيما يعانيه القانون في بلادنا من أزمة فقدانه للاستقلالية، وتبعيته شبه الكاملة للمرجعية الغربية السائدة في التشريع بصفة عامة؛ أي بغض النظر عن تنوعاتها وتبايناتها فيما بينها، وهو ما أوجد فصامًا في شخصية المسلم نظرًا لفرض نظام تشريعي عليه غير منبثق عن مرجعيته الإسلامية والحضارية، الأمر الذي أشعل صراعات نفسية واجتماعية وثقافية وسياسية في العالم الإسلامي لا تزال مستعرة منذ إقصاء الشريعة الإسلامية عن التطبيق في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، أسهمت بدورها في تفشي ظاهرة عدم احترام القانون في بلادنا، وفي معاناة الكثير من تشريعاتنا من التقليد الأعمى للفكر التشريعي الوافد، بجانب جمود الفكر التشريعي الموروث من جانب آخر لاستبعاده عن التطبيق ومن التفاعل مع الواقع المعيش إلا قليلا، ومن ثم إلى وجود حالة من الوهن التشريعي تحتاج إلى تدخل عاجل وهادئ يعيد الحركة التشريعية إلى مسارها الصحيح.

وقد ركزت محاولات الإصلاح التشريعي في مجملها على دعوة الدولة للتدخل لفرض تطبيق الشريعة الإسلامية، واتخاذ الانتخابات البرلمانية –غير النزيهة في الغالب- وسيلة لدخول البرلمان بحجة “إصلاح الدنيا بالدين”، وفرض “الحل الإسلامي”، والذي تمثل –في منظور المنادين به- في أسلمة النصوص القانونية –التفصيلية الفرعية- القائمة وحذف ما يتعارض منها مع الشريعة الإسلامية، كما تجسد في السعي إلى إدراج نصوص في الدساتير تفرض مرجعية الشريعة الإسلامية للتشريع، مثل النص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس (أو الوحيد) للتشريع.

فالحلول التي قدمت للوهن التشريعي كانت سياسية في معظمها، أو على الأقل تمر من باب السياسة، وهو خلط وتداخل واضحين بين مجالين متمايزين، المجال الثقافي/التشريعي، والمجال السياسي، أدى إلى تضارب بين مهام رجال السياسة ووظائف رجال الفقه والتشريع، نظرًا لاختلاف طبيعة تكوين كل منهما ووجهته وأهدافه، وهو أمر لم يكن في صالح تحقيق الاستقلال التشريعي بالتأكيد، بل وأعاق السعي كذلك للاستقلال السياسي بعد أن تخلى عنه من كان الأصل فيهم أن يتفرغوا له ويحاولوا قيادة المجتمع إلى تحقيقه على أرض الواقع!

وقد أدى السعي إلى تطبيق الشريعة الإسلامية عبر “بوابة” الانتخابات إلى اعتقاد “الجماهير” أن مهمتهم نحو تلك القضية تنتهي بمجرد انتخاب نواب عنهم “للمطالبة” بتقنين الشريعة، ومن ثم إلى “قعودهم” وانصرافهم إلى حيواتهم الخاصة، منتظرين أن ينجح هؤلاء النواب في إقناع الحكومات بتطبيق الشريعة أو في إجبارها على ذلك، وهو أمر بالغ الخطورة لما ينطوي عليه من سلبية وتواكل يحولان دون القيام بعمل جدي فعال في سبيل مقاومة الاستضعاف في المجال التشريعي إلى أنه أصبح عالة على قوانين وتشريعات مستوردة.

أفكارٌ متغافلٌ عنها!!!

وفي وسط تلك الضوضاء والسجالات كانت هناك أفكار عميقة تطرح للتخلص من تلك الحالة الصراعية، ومن استغلال السياسي للثقافي حتى أحاط به وطوقه من كل جانب، وتتميز بمنطقها العملي وفعاليتها وتجردها، غير أنها لم تكن لها صدى حقيقي في الواقع!

 ومن تلك الأفكار -المتغافل عنها- فكرة تنطلق من حقيقة أن إقصاء الشريعة الإسلامية لم يكن القصد منه استبدال أحكام تفصيلية (فرعية) قانونية بأحكام تفصيلية شرعية، بل كان القصد من ذلك هو استبدال المرجعية التشريعية ذاتها، بحيث تكون هذه المرجعية مرجعية غربية لا مرجعية إسلامية، فكان الإقصاء للميزان نفسه في الأساس، وللموزون كنتيجة لذلك، أي كان الإقصاء للإطار المرجعي الإسلامي جميعه وللأحكام الفرعية بالتبعية، ومن ثم فإن العمل لابد أن يتوجه إلى استعادة الميزان، وهذه المهمة يستطيع أن يقوم بها القضاة والقانونيون (محامون وباحثون –أكاديميون وغير أكاديميين-، ومُحَكِّمون،…)، حتى لو تقاعست عنها سلطة الدولة المنوط بها عملية التشريع؛ حيث يستطيع المحامون –مثلا- أن يستندوا في مذكراتهم القانونية ودفاعاتهم أمام القضاء إلى الفقه الإسلامي لا الفقه الغربي، بينما يستعين القضاء في فهم النصوص التشريعية وتفسيرها بقواعد أصول الفقه الإسلامي ويسندون أحكامهم إلى أدلة الشريعة الإسلامية التفصيلية وإلى الفقه الآخذ عنها، أما الباحثون في مجالي الشريعة والقانون فيستطيعون ببساطة أن يخدموا هؤلاء وهؤلاء بالتأصيل الشرعي لأحكام القانون الوضعي، كما يملكون أسلمة قواعد التحكيم، وهي إسهامات قد يتعدى نفعها إلى الأنظمة التشريعية الوضعية لتسد نقائصها بالاستعانة بالفقه الإسلامي وخاصة فيما يتعلق بالدور الأخلاقي والقيمي في التشريع، وفي غرس الالتزام الذاتي بالقانون في نفوس المواطنين.

ويمكن نشر هذا الفكر ورسم خطة عملية لتطبيقه، تتضمن تقديم نموذج أو أكثر من نصوص بعض القوانين المطبقة في الدول العربية مسندة إسنادًا شرعية فيما تحتمله تلك النصوص من ذلك الإسناد، وإلا فبيان موقف الشرع الإسلامي من النصوص المخالفة للشريعة وتقديم البدائل الشرعية المقترحة –مستعينة بالدراسات الأكاديمية المقارنة وغيرها من الأدبيات ذات الصلة، وما أكثرها- لوضعها أمام الجهات المسئولة عن العملية التشريعية وأمام المواطنين على السواء، ثم نشر هذا النموذج ورقيًا وإلكترونيًا، بالتوازي مع تنظيم دورات تدريبية للقضاة والمحامين لشرح كيفية الاستفادة منه عمليًا، وكذلك نشر تلك الدورات في موقع إلكتروني تفاعلي يستهدف تعميم الاستفادة منها لتخدم في النهاية النظامين الشرعي والقانوني معًا.

وتجدر الملاحظة هنا إلى أنه يمكن توفير التمويل المادي لتطبيق هذه الأفكار من خلال خصم بعض المبالغ من الميزانيات الهائلة التي تُخصص لعقد مؤتمرات خطابية تتغنى بشريعتنا الزاهرة أو لإقامة السرادقات الانتخابية التي تتاجر بقضية تطبيق الشريعة الإسلامية، والتي لا تسهم بشيء يذكر في انتشال واقعنا التشريعي من قاع الوهن، ولا في القضاء على الاشتباك الأهلي (الذي قد يصل إلى حد الاقتتال الفعلي) بين المطالبين بالحل الإسلامي والمناوئين له، عكس الأفكار العملية التي تخلصنا من كل ذلك بأقرب طريق ودون تصادم مع أحد.

فهل من مصلحين مخلصين متطوعين للإسهام في استعادة عزتنا التشريعية دون انتظار مقابل مادي، أو ظهور إعلامي، أو منصب سياسي؟!

لمطالعة بقية أجزاء السلسلة يمكن للقارئ الكريم زيارة العناوين التالية:

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (1)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (2)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (3)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (4)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (5)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (6)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (7)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (8)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (9)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (10)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (11)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (12)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (13)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (14)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (15)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (16)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (17)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (18)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (19)

_________________________________

* كاتب وباحث مصري

مواضيع ذات صلة