الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (21)

نبدأ اليوم دراسة نكبة جديدة نعاني منها بشدة في عالمنا المعاصر.. في ظل أزمة تراجع القيم وانحدار منحنى الأخلاق وخاصة في العالم الإسلامي، وهي نكبة فقدان الصدق، واختفائه من حياتنا إلا قليلا، حتى أننا بتنا نبحث عن الصادقين في كل مجال وفي كل مهنة، فإذا بهم أقلية، يقبضون على صدقهم كالقابضين على الجمر، في مجتمعات صارت تُكذِّب الصادقين وتُصدِّق الكاذبين، إلا من رحم الله!

(مقتطف من المقال)

د. حازم علي ماهر*

نكبة فقدان الصدق!

الأخلاق

الواقع أن أخطر أنواع الكذب هو الكذب على النفس.

الصدق في معناه اللغوي يعني: الكامل من كل شيء وكذلك يقصد به: مطابقة الكلام للواقع بحسب اعتقاد المتكلم، وكذلك: هو الصلابة والشدة، ويقال: رجل صدق، وامرأة صدق، والأمر الصالح، لا شية فيه من نقص أو كذب، وفي التنزيل العزيز “وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا“(المعجم الوسيط، مادة “صَدَقَ”).

غير أن هذا المعنى اللغوي لا يسعفنا في تعريف الصدق الذي نعاني من فقدانه؛ لأن ما نفتقده ليس مجرد الكذب في أقوالنا، بل الأمر أشمل من ذلك؛ فهو يمتد إلى عدم موافقة ظاهرنا لباطننا، وإلى مناقضة أقوالنا لأفعالنا ولاعتقاداتنا، ليس فقط في نظر الآخرين، بل حتى في داخلنا نحن أنفسنا، حيث عدنا لا نرى أننا نكذب على ذواتنا قبل أن نكذب على الناس، متوهمين بأننا صادقون!

أخطر أنواع الكذب

والواقع أن أخطر أنواع الكذب هو الكذب على النفس؛ لأن الإنسان يكون في حالة من الوهم الكاذب بأنه من الصادقين السائرين على درب الصلاح والإصلاح بينما هو من الكاذبين المفسدين، وهو أمر أشار إليه القرآن الكريم كثيرًا وحذر منه، كما جاء في قوله تعالى في محكم التنزيل: “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنا” (الكهف:103 – 105)، وكذلك في قوله تعالى: “وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ” (البقرة: 8 -13)

والآيات الأخيرة جاءت في صدر القرآن الكريم ضمن تصنيف الناس إلى أصناف ثلاثة؛ المؤمنون، والكافرون، والمنافقون، وسيلاحظ المطلع على هذا التصنيف أن القرآن توقف طويلا عند وصف المنافقين، الأخطر من الكافرين، والأكثر عددًا منهم، لأنهم يظهرون غير ما يبطنون، ويدعون الإيمان كذبًا، فيخدعون الناس بحلو الكلام، ويزعمون الإصلاح بينما هم يضلون الناس ويأخذون بأيديهم نحو الفساد والإفساد!

ومن هنا جاء حديثا النبي صلى الله عليه وسلام –في الصحيحين- عن علامات المنافق الظاهرة، فقال في الحديث الأول: (آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)، وقال في الثاني: (أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَر).

والحديثان على الرغم من أنهما يَذكران علامات متعددة للنفاق، إلا أن المتأمل فيهما يلمس أن الصفة الغالبة على المنافق هي الكذب، لا في حديثه فقط، بل في حاله كذلك، فهو كاذب في قوله، كاذب على من استأمنه، كاذب على من وعده، كاذب حتى على من خاصمه”!

رأس صفات المؤمنين

الأخلاق

اكتشفنا أن كثيرًا ممن يقدمون أنفسهم على أنهم هم وحدهم حماة الوطن ليسوا إلا جماعة من المستبدين المنتفعين بثروات الوطن المحتكرين لها.

وعلى العكس من ذلك يأتي الصدق على رأس صفات المؤمنين، فالمؤمن بالضرورة ينبغي أن يكون صادقًا، ويتحرى الصدق دومًا، ولا يفترى الكذب أبدًا، بدليل قوله تعالى: “إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ” (النحل:105)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)[متفق عليه].

وقد قيل أن الصادقين هم: (المؤمنون) الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم. قال ابن العربي: وهذا القول هو الحقيقة والغاية التي إليها المنتهى فإن هذه الصفة يرتفع بها النفاق في العقيدة والمخالفة في الفعل، وصاحبها يقال له: الصَدِّيق..”(تفسير القرطبي، ج8، ص289).

وهذا هو المعنى الواسع للصدق الذي ستركز عليه هذه السلسلة من المقالات عن تلك النكبة –غير- الأخلاقية؛ لأنه هو الذي يفي بالمقصد الأساس من مناقشة الجذور الفكرية لها، عسى أن نكتشف العوامل المؤدية لهذا الوباء الذي فضحته مؤخرًا –وبجلاء- ما سميت بثورات الربيع العربي، التي كشفت لنا أن كثيرًا مما كان يدندن به بعض الناس من وصف لأنفسهم وتسويق لبضاعاتهم الكاسدة، هي مجرد أكاذيب يخدعون بها أنفسهم والآخرين، لاسيما السياسيين منهم، فاكتشفنا –مثلا- أن كثيرًا ممن يقدمون أنفسهم على أنهم هم وحدهم حماة الوطن ليسوا إلا عبارة عن جماعة من المستبدين المنتفعين بثروات الوطن المحتكرين لها، الذين ينفذون –عن وعي أو عن غير وعي- مخططات أعدائه لإعاقة نهوضه.

وأن معظم من يسمون أنفسهم بالليبراليين عندنا هم مجرد أتباع للاستبداد في أبشع صوره، وأن كثيرًا من القوميين لا تهمهم اللغة ولا الهوية بقدر ما يهمهم التخلص من خصومهم السياسيين والفكريين والانتصار عليهم ولو عبر الحكام المتجبرين على الناس بغير حق، وأن كثيرًا من الاشتراكيين يبحثون عن العدالة بالتملق إلى الظالمين الذين يسحقون الفقراء والعمال، وأن كثيرًا من الإسلاميين هم عبء كبير على الإسلام لمناقضتهم لمقاصده ولأخلاقياته، فيمثلون أكبر دعاية للإلحاد، وأن كثيرًا من المدعين للإلحاد ليسوا إلا مرضى نفسيين كذبوا على أنفسهم بعد ما هالهم حجم الهوة بين ما يقول بعض المتدينين –تدينًا مغشوشًا- وبين ما يفعلون، غافلين عن أن الله سبحانه قد عبر بنفسه -عز وجل- عن مقته لهذه الآفة التي انتشرت حتى بين المؤمنين، فقال: “يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ” (الصف: 2، 1)

لأجل ذلك كان من المهم سبر أغوار هذه الأزمة ومحاولة طرح أسئلة للتوصل إلى جوهرها، عسى أن نصل إلى تقديم مقترحات عملية للحد منها ولو على المدى الطويل.

والله المستعان!

لمطالعة بقية أجزاء السلسلة يمكن للقارئ الكريم زيارة العناوين التالية:

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (1)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (2)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (3)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (4)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (5)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (6)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (7)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (8)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (9)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (10)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (11)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (12)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (13)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (14)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (15)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (16)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (17)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (18)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (19)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (20)

____________________________________

  • كاتب وباحث مصري

مواضيع ذات صلة