الفكر الديني الجامد.. الشرارة الأولى!

لا شك أن تجديد الفكر الديني الجامد هو السبيل الأول لحسر المد الإلحادي المعاصر في بلادنا، بعد أن تأكد أن الخطاب الديني السائد من أهم المسئولين عن هذا المد…

د. عمرو شريف

الفكر الجامد

إهدار قيمتي العقل والعلم.. من سمات الفكر الديني في عصرنا الحالي

     إذا تأملنا ملامح الفكر الديني السائد بشكل عام في مجتمعاتنا اليوم نجد أنه يتسم بستة مبادئ أو قواعد أساسية:

أولا: الأخذ بظاهر النصوص، وتقديس التراث وأعمال السلف:

     يكتفي الفكر الديني الجامد بظاهر النصوص في معظم تفسيراته دون مراعاة المصلحة والحكمة، وقد أدى هذا الاتجاه إلى قدر كبير من مخالفة مقاصد الشريعة وأصولها الكلية[1].

     كما يعتمد هذا الاتجاه في فهمه للدين على أقوال السلف وتفسيراتهم اعتماداً كلياً، يرقى بها إلى درجة القداسة، بحيث لا يمكن مناقشتها أو إعادة النظر فيها.

     وفي نفس الوقت، يتجاهل هذا الاتجاه الأعمال التراثية العقلية المستنيرة ولا يأخذ بها، على الرغم من أنه يتفاخر بهذه الأعمال عند الحديث عن نقل أوروبا المنهج العلمي العقلي عن المسلمين (كما يحدث مع فكر ابن رشد) وأيضاً ليبرر الاستفادة من بعض منتجات الفكر الأوروبي إذا لزم الأمر! وهكذا يسلك الخطاب الجامد منهجاً انتقائياً حال تعامله مع معظم القضايا الدينية والحياتية.

ثانيا: إهمال العامل التاريخي في التشريع

     يتفرع من الاعتماد على التراث الاعتقاد بتطابق مشكلات الماضي والحاضر، ومن ثم تصور إمكانية تطبيق ذات الحلول التي طبقت في الماضي على المشكلات المعاصرة. وقد أدى ذلك إلى محاولة إيقاف عجلة التاريخ بل والعودة بها إلى عصر التنزيل، وكأنهم يطالبون بتعديل العصر ليطابق النص! بدلاً من قراءة النص في ضوء الواقع التاريخي.

     ويتجاهل هذا الاتجاه حقيقة أساسية، وهي أن الإسلام منذ نشأته يراعي الظروف الواقعية، ويظهر ذلك في التدرج في الإصلاح والتغيير والتحريم أيضاً. والأمثلة على ذلك واضحة في منهج تحريم الخمر والعبيد وملك اليمين وعلاقة الزوج غير المسلم بالزوجة المسلمة وغيرها[2].

يتجاهل المُقلدون هذه الحقائق ويطالبون مسلمي القرن الحادي والعشرين.. زمن ثورة علوم الفضاء والاتصالات والإنترنت، أن يعيشوا حياة المسلمين الأوائل في مكة ويثرب، ولكن كيف ولماذا؟ لا إجابة.

     لذلك إذا جدت قضية يقوم الفقيه المُقلد بالتنقيب في الآراء القديمة ليختار منها أقربها إلى قضيته ولا يعود إلى مصدري القرآن والسنة وكأن العقول قد عقمت عن استنباط الحكم منهما[3].

ثالثاً: عدم التفرقة بين الفكر الديني والبشري

     يتجاهل الفكر الرجعي ما كان جلياًّ لصحابة رسول الله من التفرقة بين النصوص الدينية والخبرة الإنسانية وحصاد العقل. ودليل ذلك أن الكثيرين من الصحابة كانوا يسألون النبي عما إذا كان تصرفه هذا أو ذاك محكوماً بالوحي أم بالعقل والخبرة. وقد أرسى الرسول مبدأً هاماً للتفرقة بين الحالتين في قوله (أنتم أعلم بأمور دنياكم)[4].

رابعاً : إهدار دور العقل والعلم في الحياة

     يتبنى الفكر المُقلد أن القرآن الكريم يقدم التفسير لكافة الظواهر الاجتماعية بل والطبيعية أيضاً، دون النظر للقوانين التي تحكمها، وهو ما يعني إلغاء كل دور للعقل والعلم، وقد أدى ذلك إلى التواكل والتقصير الشديد في الأخذ بالأسباب مما أسلمنا إلى حالة التخلف والتراجع الشديد التي يعيشها عالمنا الإسلامي حالياًّ.

     وبالرغم من ذلك يتعمد الخطاب الجامد في كل مناسبة التأكيد على أن الإسلام دين العلم والعقل، ويؤدي هذا التناقض إلى قدر كبير من التشويش على العقل المسلم. كذلك يهاجم ويُهوِّن هذا الخطاب من  معظم اجتهادات وإبداعات العقل الإنساني لا لشيء سوى كونها نتاج العقل الغربي أو العلماني أو الملحد أو الماركسي…

خامساً : تحريم الاجتهاد فيما ورد فيه نص

     يرى الفكر المُقلد أن الأولوية تكون لدلالات النصوص كما فهمها رجاله، ولو كان ذلك على حساب المصلحة. وقد فاتهم قول علي ابن أبي طالب ( القرآن حمًال أوجه، إنه خط مسطور بين دفتين لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال)، وقد أفرز هذا الفهم العميق العديد من المذاهب الفقهية والعديد من الآراء والمدارس داخل كل مذهب.

     وفي مواجهة هذا التعدد أرسى المُقلِّدون قاعدة “لا اجتهاد مع النص”، التي أدت إلى توحيد دلالات النصوص طبقاً لفهمهم، مما يعني عدم الاعتراف بالتعددية المذهبية السائدة في الفقه الإسلامي.

 لقد سادت هذه القاعدة بالرغم من أن الفقه الإسلامي يباهي بعدد من أمثلة الاجتهاد بغير مراد النص التي قام بها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، والتي تؤكد تغليبه للحكمة والقصد على ظاهر النص، أي أنه غلَّب العقل على صريح النقل[5].

سادساً: توظيف “مبدأ الحاكمية” [6] توظيفاً نفعياً

     لقد أدى بريق شعار “لا حكم إلا لله” الذي استقر عبر التاريخ إلى أن استأثر المُقلدون بسلطة تفسير النصوص وبيان حكم الله سبحانه وتعالى في مختلف القضايا. وترتب على ذلك وجود حزب واحد فقط، وادعاء أنه حزب الله..

     وإذا كان من مدعاة الفخر للبشر التسليم بـ “الحاكمية لله” في مجال العقيدة فالتشريعات الخاصة بأمور الدنيا يحتاج استنباطها للتأويل والاجتهاد[7]. أما إذا أصر الخطاب الديني على مد الحاكمية لهذا النطاق، فسيقود ذلك حتماً إلى العبودية لأحكام طائفة رجال الدين[8]. وبدلاً من أن تحقق الحاكمية الحرية من ديكتاتورية بعض الحكام فإنها توقعنا في ديكتاتورية رجال آخرين أكثر خطورة! فإذا كان يمكن مقاومة حاكمية الحُكام والسعي لتغييرها، فمقاومة حاكمية الفقهاء توصف بالإلحاد والكفر والزندقة باعتبارها هرطقة ضد الله. وبذلك ينتقل الصراع من معركة بين البشر إلى معركة بين البشر والله سبحانه وتعالى[9].

صيحة تحذير .. لماذا التجديد الآن[10]

الفكر الحر

تجديد الفكر الإسلامي اليوم بات أمراً حتمياً ملحاً لا يحتمل التأجيل

     لم يكن تجديد الفكر الإسلامي لازماً في أي مرحلة أو عصر من العصور السابقة قدر لزومه اليوم، حتى أصبح بمثابة حق للمجتمع وفرض عين على علماء المسلمين، فالمتصفح للمواقع والصفحات الإلحادية على الإنترنت يدرك بوضوح أن هناك حملات منظمة باحترافية عالية تركز على إثارة الشبهات حول القرآن الكريم ورسول الله وكذلك الشريعة الإسلامية والتاريخ الإسلامي وتستند هذه الحملات على مقتطفات من كتب التراث الإسلامي الخاصة بقراءات وتفسير القرآن الكريم والسيرة والأحاديث النبوية والفقه والتاريخ الإسلامي، كما تستخدم مقولات لكبار الشيوخ والدعاة في غير موضعها لتدعم الدعاوى الإلحادية.

     لذلك لم يعد دعاة الإلحاد وإثارة الشبهات حول الإسلام في حاجة لأن يختلقوا حكايات أو يفتروا أقاويل ليصلوا إلى أغراضهم، يكفيهم أن يُقلبوا في كتبنا وأقوالنا ليجدوا فيها فوق ما يشتهون؛ لذلك صار تجديد الفكر الإسلامي أمراً حتمياً ملحاً لا يحتمل التأجيل لتحقيق عدد من الأهداف أهمها:

  • محو ما شاب العقيدة من مدخلات[11]، والتيسير ورفع الحرج عن الشعوب الإسلامية، ومقاومة البدع والخرافات واقتلاعها من طريق الإسلام، ومحاصرة دعاة التشدد والتضييق في الأحكام.
  • استقرار وسطية الدين وسماحته في نفوس أتباعه، بحيث تستقيم المبادئ والمقاصد العليا للإسلام مع فطرة النفوس وتطلعاتها، فتطمئن نفوس أهله بالعبادة وتنطلق طاقاتهم بالعمل الصالح من أجل خير المجتمع الإسلامي والإنسانية جمعاء.
  • ينبغي تجلية ما يتمتع به الإسلام من وسطية للعالم، وليس ذلك تزلفاً للآخرين، ولكن من أجل تبليغ الدعوة السمحة إلى البشرية جمعاء، فما أُرسل رسول الله إلا رحمة للعالمين.
  • يواجه العالم الإسلامي في المرحلة الراهنة تحديات التخلف التي تفرض التجديد من أجل تفعيل مشروعات الإصلاح التي تحتاجها الدول الإسلامية في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حتى يصبح العالم الإسلامي قوة فاعلة في إطار النظام العالمي الجديد.
  • صار التجديد التزاماً دينياً لمواجهة الكوارث التي أنتجها الخطاب الديني المتطرف، وأهمها جرائم الإرهاب المتستر بالدين في الخارج والداخل، والتي أصبحت بقعاً سوداء تشوه صورة الإسلام في كافة أنحاء العالم، وتفرض التخلف على بلاد المسلمين.
  • لا شك أن تجديد الفكر الديني الجامد هو السبيل الأول لحسر المد الإلحادي المعاصر في بلادنا، بعد أن تأكد أن الخطاب الديني السائد من أهم المسئولين عن هذا المد.

إن المسئولية هائلة والمهمة شاقة تنوء بها الجبال، فلم يعد ينفع في عالمنا المعاصر السكوت عما في تراثنا من سوءات وتضارب داخلي تراكم عبر مئات السنين، وتعارُض تبلور في مناخ ثورة العلم والعقل.

لقد آثر علماؤنا السكوت حتى لا يثيروا مشكلات مع المقدسين للتراث، لكن الامر لم يعد يحتمل، فلا يكاد يمر يوم أو بعض يوم حتى يسقط بعض شبابنا صرعى بسهام التشكيك.

أسس تجديد الفكر الإسلامي

     يتضح مما سبق أن تجديد الفكر الإسلامي ينبغي أن يقوم على الأسس التالية:

1- نزع القداسة عن التراث، وإدراك أنه منتج عقلي بشري، يتناسب مع زمان ومكان ما طُرح من أحكام فقهية[12].

2- عدم الوقوف عند ظاهر النصوص، والنفاذ إلى المقاصد والحكمة من التشريع، وإعلاء قيمة المصلحة[13].

3- تأكيد مفهوم أن “الحاكمية لله” في أمور العقيدة، والالتزام في الأمور المعيشية بحديث رسول الله r “أنتم أعلم بأمور دنياكم”.

4- فتح باب الاجتهاد وإعلاء قيمة العقل.

5- إعلاء قيمة العلم والعمل في الحياة[14].

6- التسليم بشرعية تعدد المذاهب الإسلامية وإسقاطها على واقع المسلمين. وفي نفس الوقت إباحة عدم التقيد بمذهب معين، ما لم يتعارض اختيار الأحكام من المذاهب مع ثوابت الدين.

الهوامش:

[1] – مثال ذلك تبني هذا الفكر عدم جواز تطبيق حد السرقة على من يقوم بسرقة الأموال المملوكة للدولة، بدعوى أن للسارق نصيباً فيها.

[2] –  يؤكد هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة: “لولا قرب قومك من الجاهلية لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم” حديث صحيح.

[3] – أدى ذلك المنهج إلى لبس شديد جعل الكثيرين – مثلاً- يرفضون التصوير الفوتوغرافي لأن الأقدمين قالوا بتحريم التصوير، الذي هو في وقتهم صناعة التماثيل!!

[4] – حديث صحيح رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه.

[5] – من هذه الأمثلة أن الفاروق عمر أوقف قطع يد السَّراق في عام المجاعة رغم عموم نص الآية، وتوقفه عن إعطاء سهم المؤلفة قلوبهم بالرغم من صريح الآية، وتحريم الزواج من الكتابيات مع إباحة النص. وكذلك  توقيفه تقسيم أرض سواد العراق ضمن الغنائم بالرغم مما فعله الرسول  r في أرض خيبر، وإيقاع الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد واعتباره ثلاث طلقات لا طلقة واحدة، وزيادة حد الجلد في شرب الخمر عما كان معروفاً في عهد رسول الله وخليفته الصديق أبي بكر،  والقصاص من الجماعة لقتل واحد، وغيرها كثير من أمثلة تغليب المصلحة على صريح النص.

[6] – تعود فكرة الحاكمية إلى حادثة رفع المصاحف على أسنة السيوف والدعوة إلى تحكيم كتاب الله التي أطلقها الأمويون في موقعة صفين، كحيلة لاختراق صفوف معسكر الإمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه يسلمنا ذلك إلى كهنوت ككهنوت العصور الوسطى وتحكم الكنيسة وصكوك الغفران

[7] حديث “أنتم أعلم بأمور دنياكم”

[8] – كما يحدث في المذهب الشيعي حيث تصبح الإمامة جزءاً من العقيدة.

[9] – مثلما حدث في أوروبا في العصور الوسطى.

[10] – يمكن القول بأن التجديد بدأ مع الإمام الشافعي منذ القرن الثاني الهجري  ثم الإمام أحمد بن حنبل والكندي والرازي في القرن الثالث ثم تلاهم أبو الحسن الأشعري والفارابي، وفي القرن الخامس الإمام الغزالي ثم الفيلسوف ابن رشد مروراً بالإمام ابن تيمية، وفي القرن الثامن الفيلسوف ابن خلدون والإمام ابن قيم الجوزية ، وصولاً لجمال الدين الأفغاني في القرن الثالث عشر الهجري، ثم الإمام محمد عبده في القرن الرابع عشر، ونأمل أن تستأنف القافلة المسير.

[11] – مثل اتهام من يقول بفاعلية الأسباب بالشرك والخروج عن ثوابت العقيدة.

[12] – أمرنا الله بعبادته وحده، فلماذا إصرار البشر على العبودية للتراث؟!

[13] – تقتضي الرحمة – المشتقة من اسم الله – التيسير على العباد حتى بمخالفة النص، طالما يحقق ذلك مصلحة المسلمين وحقن دمائهم ولعل أفضل مثال على مراعاة الزمان في الفتوى بالرغم من مخالفة النص إباحة رجم الجمرات في منى أثناء الحج طوال اليوم، بعد أن تأكد أن الإصرار على الرجم بعد الزوال يؤدي إلى إراقة دماء المئات من الحجيج كل عام. أما مراعاة المكان فنجدها في تغيير الإمام الشافعي لكثير من فتاواه بعد الانتقال من العراق إلى مصر.

[14] – إن إتقان العمل واجب وفرض على كل مسلم كالصلاة، بل يرتفع إلى مرتبة الجهاد في سبيل الله”وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِالمزمل.

كذلك لم يسو الإسلام بين المسلم المتعلم والمسلم الجاهل، بل جعل الأول في درجة الملائكة”شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ” (آل عمران) وأخبرنا أن العلم يحقق الخشية لله سبحانه وتعالى”إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” (فاطر:28).


المصدر: بتصرف يسير عن كتاب خرافة الإلحاد، أ.د. عمرو شريف، مكتبة الشروق الدولية، ط2، 2014، ص: 471

مواضيع ذات صلة