تعلمتُ الفقه.. على يديّ أبي يوسف ومحمد الشيباني!

كانت مادة الفقه من أكثر المواد المحببة لقلوبنا.. كنا نشعر حين ندرسها بأننا صرنا على دراية بمسائل شرعية خاصة لا يعرفها في مثل تلك المرحلة العمرية سوى الطالب الأزهري…

نهال محمود مهدي*

الجامع الأزهر

يدرس الطالب الأزهري في المرحلة الإعدادية ما يقارب السبع عشرة مادة!

بَدَأَت علاقتي بالأزهر الشريف منذ أن كنت في الثامنة من عمري بعد أن قضيت أولى سنواتي الدراسية في دولة شقيقة كان أبي قد أُعير للعمل بها، ثم كانت دراستي الأزهرية التي امتدت لأحد عشر عاما في مرحلة ما قبل الجامعة، ثم أربع سنوات جامعية.. ثم عمل جامعي ممتد للآن.

ورغم كل تلك السنوات التي تجاوزت خمسة وعشرين عاما إلا أن أكثر سنوات دراستي تأثيرا وعمقا وتكوينا لشخصيتي كانت سنوات دراستي الإعدادية (المتوسطة) ثم الثانوية.

في الحقيقة لم يكن تميز مناهجنا في هاتين المرحلتين في تفوقها العددي فحسب؛ فالطالب الأزهري يدرس في المرحلة الإعدادية ما يقارب السبع عشرة مادة! لكن التميز الأهم كان في محتوى تلك المواد؛ فما بين علوم اللغة وعلوم الشريعة تتوزع المواد وتتشعب التصنيفات.

تلك المواد التي لو حاولتُ الحديث عن مضمونها أو محتواها لطال المقال؛ لذلك سأكتفي بمادة واحدة فقط لعلها الأقرب لأزمة تعانيها مجتمعاتنا العربية الآن.

كانت مادة الفقه من أكثر المواد المحببة لقلوبنا.. كنا نشعر حين ندرسها بأننا صرنا على دراية بمسائل شرعية خاصة لا يعرفها في مثل تلك المرحلة العمرية سوى الطالب الأزهري.. فأين هي المؤسسة التعليمية في العالم كله التي تدرس لطلابها فقه العبادات والمعاملات والحدود إلى جانب قواعد وأحكام الميراث وهم في المرحلة المتوسطة!

ثم تعيدها عليهم مرة أخرى بالتفصيل في المرحلة الثانوية؛ فيتخرجون منها وقد أحاطوا بتلك العلوم إحاطة لا بأس بها تساعدهم بلا شك على فهم أمور دينهم بشكل جيد ومقبول بإمكانهم إكسابه المزيد من القوة عبر التخصص في سنوات الدراسة الجامعية، أو الاكتفاء والتخصص في مجال آخر مع الاحتفاظ بهذا الكم من المعلومات التي لاشك وأنها قد شكلت بداخلهم حصانة من نوع خاص.

خلافٌ بين العالم والمتعلم!

الاختيار لتعليل المختارتخصصت دراستي في المذهب الحنفي، ولا أتذكر كيف اخترت المذهب، لكن المؤكد أن الأمر لم يكن إجباريا فلنا زميلات كنّ يدرسن المذهب المالكي، وقليلات كان المذهب الشافعي هو المنهج الخاص بهن.

وأذكر أن كتاب “الاختيار لتعليل المختار” وهو أحد أبرز مؤلفات المذهب الحنفي كان منهجنا الدراسي.. كاملا بمتنه وحاشيته، كان الأمر في بدايته عجيبا.. فبينما كان المتن عدة أسطر، كانت الحاشية تصل في بعض الأحيان لعشرات الأسطر، وكان علينا قرائتها واستيعاب محتواها.. ولم تمضِ أيام قلائل من بداية دراستنا حتى اعتدنا الأمر بمساعدة معلمينا الأكفاء، وصرنا بمرور السنوات نستوعب غريب الكلمات، ونتقبل المسائل المختلفة، بل ونتعامل مع القضايا الحساسة في أبواب الفقه الثلاثة بوعي وفهم وحياء في نفس الوقت رغم صغر السن.

المدهش في تلك الدراسة بالنسبة لنا لم تكن آفاقنا التي باتت تتسع كلما زادت حصيلتنا المعرفية.. المدهش كانت تلك القيمة التي انتقلت لنا عبر الدراسة الفاحصة لذلك المنهج.

كانت طريقة دراستنا تعتمد على قراءة المعلم لمحتوى الكتاب وشرحه مع متابعتنا نحن معه، وبالطبع لم نكن نمر على مسائل الفقه مرور الكرام.. بل كنا نناقش ونتعجب من وجود مسائل لا تمت لواقعنا بصلة بل وتثير ضحكاتنا الطفولية أحيانا.. لكننا كنا نهدأ حينما تصل إلينا فكرة أن دراستنا لمادة الفقه بتلك الطريقة ليس المطلوب منها هو إسقاط كل مسائلها على واقعنا الذي بات لا يتناسب مع أحكام كثيرة، لكن الأهم هو استنباط وفهم طريقة معالجة المسائل وبيان الحكم الشرعي لها.

لكن بلا شك كان أكثر ما يستوقفنا ويصيبنا بالحنق كثرة اعتراضات تلميذي الإمام أبو حنيفة الشهيرين: الإمام أبو يوسف، والإمام محمد بن الحسن الشيباني؛ فلا تكاد تقرأ مسألة ويوضح الإمام رأيه الفقهي فيها إلا ولأحد تلميذيه رأي مختلف، وربما كان للمسألة ثلاثة آراء.. للإمام رأي، ولكل تلميذ من تلامذته رأي خاص!

حتى أننا بحداثة أعمارنا وانعدام خبرتنا كنا نرى في الأمر إساءة أدب مع الإمام والمعلم؛ فكيف لتلاميذ أن يقاطعوا معلمهم  في معظم المسائل، بل ويعلنوا اختلافهم معه وتبنيهم لآراء معارضة له، فهي مادة الفقه وليست مادة رياضية تقبل مسائلها حلولا مختلفة! (هكذا كنا نتصور).

ومع غضبنا كنا نلمح الابتسامة الواسعة على وجه معلمنا بدون تعليق.. حتى جاء اليوم الذي أعلنّا فيه رغبتنا في فهم السبب فيما يحدث: ما الذي يدفع الإمام للصبر على تلميذيه؟ وعلى معارضتيهما له؟ بل وما الذي يجعله مهتما هو ومن حوله بتدوين تلك الآراء؟.. ألم يكن كافيا لهم أن تُسمع آراؤهم، هل من المهم أن تدون وتحمل نفس القدر من أهمية آراء شيخ الأئمة وتحفظ مئات السنوات، بل وتدرس أيضا؟؟؟؟

كان الأمر عجيبا للغاية.. لكن الأعجب بلا شك كانت إجابة معلمنا.. لم تكن الإجابة عجيبة في محتواها، بل في مدلولها وتأثيرها علينا.

وتعلمنا أصول علم الفقه..

طالب العلم

أدركنا أن تلامذة الشيخ بلغوا تلك المكانة بعد جهد وعلم ودراسة وملازمة لمعلميهم وتفرغ تام.

كانت الإجابة التي لا أتذكر نصها وإن كنت أتذكر مضمونها العام.. أن ما كان يحدث في دروس الإمام أبي حنيفة مع تلامذته ليس إلا صورة مصغرة لصفحة بيضاء في تاريخ عالمنا الإسلامي.. حيث حرية الفكر، والاجتهاد مكفولتين لكل من امتلك أدواتهما، ولا توجد موانع من معارضة التلاميذ لآراء كبار العلماء ولو كان شيخهم نفسه (الإمام أبو حنيفة) طالما بُنيت على أساس سليم، وأدلة صحيحة قوية، بل وتحفظ تلك الآراء وتدون وتعلم للأجيال على مر الزمن.

كان الأمر مُلهِما بالنسبة لنا.. كيف لعلماء عاشوا من مئات السنين احترام الاختلاف بهذا القدر من الرُّقي؟، كيف كان الاجتهاد في أمور الفقه ميسرا طالما امتلك المجتهد أدوات الاجتهاد وفهم الواقع المحيط به؟، كيف أمكن لشباب صغار معارضة شيخ الأئمة بدون خوف من بطش أو تنكيل أو تشويه؟

مرت سنوات دراستنا ما قبل الجامعية وقد حصدنا محصولا وفيرا من الأحكام الفقهية في كل فروع الفقه لكننا رغم ذلك لم نكن يوما نجرؤ على الفتيا أو التصدي لها، وكل ما أمكننا فعله إذا سُئِلنا عن حكم فقهي أن نلجأ إلى معلمنا أو إلى كتبنا المدرسية حال غيابه وفي حالات الضرورة القصوى لنستخرج الحكم ونقدمه للسائل مشفوعا بعبارة (هذا هو ما ذُكر في الكتاب من كلام الإمام أبي حنيفة والله أعلم.. ونحن غير مسئولين)!

كنا ندرك جيدا مع كل كلمة ندرسها أهمية ذلك العلم وخطورته، وكيف أن تلامذة الشيخ بلغوا تلك المكانة بعد جهد وعلم ودراسة وملازمة لمعلميهم وتفرغ تام، وأنه ليس كل طالب يصلح لما صلح له هؤلاء مالم يسلك نفس مسالكهم.

لم تكن تلك القصة حنينا للماضي، أو شوقا لسرد ذكريات سنوات خلت.. لكنها ماضٍ  عفِيٍّ أحببت الإشارة إليه ونحن نعايش واقعا معتَلّ.

مئات السنوات مرَّت.. تغيرت أحوال البشر.. تبدلت معالم الحياة.. استُحدِثت قضايا.. عَبَر العالم حضارات شتى.. اختلفت البيئات تماما… ولازال بعض علمائنا يقدسون آراء فقهية قديمة –كنا نتندر عليها وقت دراستها من عشرين سنة- ويحاولون ليّ عنقها الآن لتناسب الواقع بكل مستجداته!

  • مُدَّعوا علم لم يحصلوا على القدر الوافر والعميق من العلم الشرعي بتنوعه الذي يؤهلهم للتصدي للفتوى.. يتصدرون المشهد أحيانا فيقذفون الناس بحجارات الفتاوى التي ربما أُفتي بها في حالة أو زمن أو مناسبة خاصة ولم يكن غرض الفتوى أن تعمم لسائر البشر إلى يوم الدين!
  • حالة من التقديس الأعمى والتسليم التام لكل قديم من كتب الحديث أو الفقه أو التفسير رغم ما قد يشوب بعضها من مخالفات بشرية عقلية تحتاج للتنقيح والتهذيب وإعادة الدراسة والتمحيص.
  • وضعٌ شبه عام من البلادة وحب التلقي بدون بحث أو محاولة جادة لإعمال العقل، بل وتوجه تربوي أو بالأحرى غير تربوي لتدريب أجيال ناشئة على التسليم التام بكل ما يُملى عليها بلا نقاش أو جدال فتُوأد بداخلهم فطرة التساؤل مبكرا، وتنطفؤ شرارة التفكير إلى الأبد قبل أن يشتعل بها العقل.

وعلى الجهة الأخرى..

  • باحثون وعلماء يحاولون على استحياء مخالفة السائد، وتقديم خطاب مختلف؛ فيخطئون السبيل.. وبدلا من عرض ما ذهبوا إليه على مجامع علمية وفقهية معتبرة للمناقشة والتحليل، أو حتى تكوين جبهة علمية تدعم آراءهم، يسارعون في تقديم ما خلصوا إليه إلى العوام مباشرة وعبر وسائل غير نزيهة المقصد.. تثير البلبلة وتضع الباحث في مرمى سهام الجميع.
  • متربصون متَخَفُّون خلف قناع التجديد والتنوير يهدمون الثوابت ويزعزعون القيم في صورة الكشف عن عوار كتب التراث.
  • والأخطر.. متشككون حائرون لا يجدون فيما يُدس بين أيديهم ويقدم لهم إلا آراء منفرة، ونماذج مسيئة تفتح أمام بعضهم أبواب الإلحاد على مصراعيها وتجعل –للأسف- التعاطف معهم ممكنا خاصة إذا كانوا ممن لا يملكون القدرة أو المهارة الكافية للبحث والتنقيب الجيد لاستخراج صحيح الأحكام، وتصويب الصورة الخاطئة المنفرة التي قدمت بعمد أو بغير قصد لهم.

وبين هؤلاء وأولئك أقف كما يقف غيري ونحن لا نملك أحيانا إلا فهما لروح الشريعة الإسلامية، وسماحة الهدي النبوي، وعمق مدلوليهما.. فهما وحبا نتمكن من خلالهما من التصدي لبعض المتبجحين والمفتين بغير علم ولا فهم من الطرفين بمناهج بحثية ونقدية محدودة تحتاج لثقل ودعم وجهد عالي المستوى لا تحتكره مؤسسة بعينها بل تتبناه كبريات مؤسسات عالمنا الإسلامي المعنية بعلوم الشريعة.

لا شك أننا نحتاج لصحوة نزيهة في هذا المجال.. صحوة تستفيد فيها مؤسساتنا من المناهج الفكرية لمن تقدِّم تراثهم ونتاجهم العلمي، صحوة تعيد تحريك ماكينة البحث والاجتهاد والنظر في المستجدات وتجديد الخطاب الديني بكل مشتملاته؛ فلا يعقل أبدا أن يتوقف الزمن عند أكثر من ألف عام خلت، وتتيبس العقول عن التفكير والاجتهاد والاعتراض فيما لا يخالف أصلا ثابتا في العقيدة، أو حكما قطعيا في الشريعة.

_________________________________________

محررة موقع الباحث عن الحقيقة

مواضيع ذات صلة