خصائص الأخلاق في الإسلام

الأخلاق

تتميز الأخلاق في الإسلام بخصائص انفردت بها؛ وهي الخصائص التي جعلتها صالحة لكل الأفراد وكل الطبقات وكل الأجناس، وكل البيئات، وكل الأزمان، وكل الأحوال.

الشيخ/ يوسف القرضاوي

شاء الله أن تتميز الأخلاق في الإسلام بخصائص انفردت بها؛ وهي الخصائص التي جعلتها صالحة لكل الأفراد وكل الطبقات وكل الأجناس، وكل البيئات، وكل الأزمان، وكل الأحوال.

1- أخلاق معللة مفهومة:

أولى هذه الخصائص أنها برءت من الطابع التعبدي التحكمي، والذي ظنه بعض الباحثين في الأخلاق لازمًا ذاتيا لأسلوب الدعوة الأخلاقية في الأديان جميعا، وجهل هؤلاء أن الإسلام على عكس ذلك تماما. إنما يعتمد دائما على الحكم المعقولة، والعلل المقبولة، مخاطبًا العقل القويم، والوجدان السليم، مبينًا المصالح من وراء ما يأمر به، والمفاسد من جراء ما ينهى عنه، مفصلا تارة، ومجملا تارة.

اقرأ في التعليل التفصيلي: “وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ“، “ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ“، “وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ“.

وفي التعليل الإجمالي: “…فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ“.

والأخلاق في الإسلام إنسانية عالمية، لا تبيح لجنس ما تحرمه على آخر، العرب والعجم فيها سواء، بل المسلمون وغيرهم أمام أخلاقها سواسية، الربا حرام مع المسلم والكافر، والسرقة حرام لمال المسلم والكافر، والزنا حرم بالمسلمة وغير المسلمة، والعدل واجب مع المسلم وغير المسلم، والعدوان حرام على المسلم وغير المسلم. وفي هذا يقول القرآن:”…وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ“، وبهذا تنزهت الأخلاق الإسلامية عن النزعة العنصرية القومية التي اتسمت بها الأخلاق القبلية والبدائية على وجه العموم.

3- ملاءمة الفطرة:

النقاء

جاء الإسلام في مجال الأخلاق بما يلائم الفطرة والطبيعة البشرية ويكملها، لا بما يصادرها ويصدمها

جاء الإسلام في مجال الأخلاق بما يلائم الفطرة والطبيعة البشرية ويكملها، لا بما يصادرها ويصدمها فما كان الله ليخلق الإنسان على طبيعة ثم يكلفه أن يقهرها ويقتلها، أو يبطل أثرها ويجمدها.

ومن هنا اعترف الإسلام بالكائن الإنساني، كما خلقه الله، بدوافعه النفسية، وميوله الفطرية، وكل ما صنعه أنه هذبها وسما بها، ووضع لها الحدود التي تصان بها مصلحة المجتمع، ومصلحة الفرد ذاته. ولهذا أباحت الشريعة التمتع بالطيبات والزينة، وشرعت الملكية الخاصة، ولم تنظر للغرائز على أنها رجس من الشيطان.

4- مراعاة الواقع:

ومن خصائص الأخلاق الإسلامية: أنها أخلاق واقعية، لا تصدر أوامرها ونواهيها لأناس يعيشون في أبراج عاجية، أو يحلقون في أجواء المثالية المجنحة، إنما تخاطب بشرا يمشون على الأرض، لهم دوافع وشهوات، ولهم مطامع وآمال، ولهم مصالح وحاجات، ولهم من دوافع الجسد ما ينزع بهم إلى الأرض، كما لهم من أشواق الروح ما يرتفع بهم إلى السماء.

لم يكلف القرآن الإنسان أن يحب أعداءه، وأن يبارك لاعنيه، وإنما أمر القرآن المؤمنين أن يعدلوا مع أعدائهم، ولا تحملهم عداوتهم وبغضهم على الاعتداء عليهم”وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ“، وهذا هو المقدور للبشر، وأنه مع ذلك لقمة لا يرتقي إليها إلا المؤمنون.

ومن واقعية الأخلاق الإسلامية أنها لم تفترض في المؤمنين المتقين أن يكونوا ملائكة أولي أجنحة، لا تسول لهم أنفسهم سوءا يوما، ولا يتورطون في أوحال الرذيلة أبدا، كلا إن الإنسان خلق على طبيعة مزدوجة، جمعت بين طين وحمإ مسنون، وبين نفخة من روح الله. فليس بمستنكر أن يذنب، ثم يتوب. إنما المنكر أن يتمادى في الذنوب ويستمرئ الرذيلة والعصيان. لقد أذنب آدم ـ أبو البشر ـ وتاب فتاب الله عليه، فلا غرابة أن يكون بنوه مثله.

كما فرق القرآن بين كبائر الإثم وفواحشه، وبين صغائر السيئات ولمم الذنوب التي قلما يسلم منها أحد، فهي في دائرة المسامحة والغفران ما اجتنبت الموبقات: “إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا“.

ومن واقعية الأخلاق الإسلامية أنها قدرت للضرورات قدرها، وراعت الأعذار والظروف المخففة، ولم تتزمت تزمت المثاليين المتطرفين الذين يقبلون أي استثناء. ولهذا بعد أن ذكر القرآن محرمات الأطعمة، عقب عليها بقوله: “فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ“.

5- الإيجابية:

الإيجابية

أخلاق الإسلام.. أخلاق إيجابية، فهي لا ترضى من المتحلي بها مسايرة الركب، أو المشي مع التيار، إنما تحث على القوة والكفاح، ومواصلة السعي في ثقة وأمل، وتقاوم العجز واليأس، والتماوت والكسل، وكل أسباب الضعف.

ومن خصائص الأخلاق في الإسلام: أنها أخلاق إيجابية، فهي لا ترضى من المتحلي بها مسايرة الركب، أو المشي مع التيار، أو العجز والاستسلام للأحداث، توجه قياده كالريشة في مهب الريح. إنما تحث على القوة والكفاح، ومواصلة السعي في ثقة وأمل، وتقاوم العجز واليأس، والتماوت والكسل، وكل أسباب الضعف. وفي القرآن الكريم: “…خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ..“.

وفى الحديث: “احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أنى فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن “لو” تفتح عمل الشيطان”.

ويوصي الرسول بالعمل لعمارة الحياة حتى آخر لحظة في عمر الدنيا، ولو لم ينتفع بثمرة العمل أحد، ولكن احتراما لقيمة العمل في ذاته، “إن قامت الساعة وفى يد أحدكم فسيلة يريد أن يغرسها، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها“.

يرفض الإسلام الاتكالية المنهزمة التي نراها في قول أصحاب موسى له: “…فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ“، ولكن يريد الإيجابية الفعالة التي تتمثل في قول أصحاب محمد: “اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون“.

لم يكتف الإسلام من المسلم أن يكون مستقيمًا في نفسه، حتى يعمل على استقامة غيره، ولم يقبل المرء في عداد الفضلاء الصالحين إذا صلح هو، ولم يأبه لفساد المجتمع من حوله، بل فرض على كل مسلم ـ بقدر كفايته واستطاعته ـ الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر والمرحمة، والنصيحة في الدين،

والاهتمام بأمر المسلمين:”كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ”“، “وَالْعَصْرِ.إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر“، “الدين النصيحة“، “من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم“.

بهذا رفض الإسلام السلبية أمام الفساد الاجتماعي والسياسي، والتحلل الخلقي والديني، وطلب إلى المسلم أن يغير المنكر بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.

والتغيير بالقلب ليس سلبيا كما يظن، ولكنه تعبئة نفسية وشعورية ضد الفساد، لا بد أن تتجسد يوما في عمل ملموس.

6- الشمول:

ومن خصائص الأخلاق الإسلامية أنها أخلاق شاملة مستوعبة، فإذا ظن بعض الناس أن الأخلاق في الأديان تنحصر في أداء الشعائر التعبدية ونحو ذلك، فهذا إن صح في أخلاق دين ما، لا يصح أن يوصف به قانون الأخلاق في الإسلام. فإن هذا القانون لم يدع للنشاط الإنساني من ناحيتيه: الفردية والاجتماعية مجالا حيويا، أو فكريا، أو أدبيا، أو روحيا، إلا رسم له منهجا للسلوك وفق قاعدة معينة، بل تخطى علاقة الإنسان بنفسه علاقته ببني جنسه، فشمل علاقته بالكون في جملته وتفصيله، ووضع لذلك كله ما شاء الله من الآداب الراقية، والتعاليم السامية، وهكذا جمع ما فرقه الناس باسم الدين، وباسم الفلسفة، ثم كان له عليهما المزيد.

7- التوازن :

ومن خصائص الأخلاق الإسلامية: التوازن الذي يجمح بين الشيء ومقابله في اتساق وتناسق، بلا غلو ولا تفريط.

من ذلك: التوازن بين حق الجسم وحق الروح، فلا حرمان للجسم يصل إلى حد التعذيب، كما في البرهمية الهندية، والمانوية الفارسية، والرواقية اليونانية، والرهبانية المسيحية ونحوها. ولا إغفال لأمر الروح، كما في المذاهب المادية التي لم تعترف للروح بوجود، فضلا عن أن يكون لها حق. ولهذا قال الرسول لبعض أصحابه الذين عزم أحدهم أن يقوم الليل فلا ينام أبدًا، وعزم الثاني أن يصوم النهار فلا يفطر أبدًا، وعزم الثالث أن يعتزل النساء فلا يتزوج أبدا: “إنما أنا أعلمكم بالله، وأخشاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني“.

ومن ذلك: التوازن بين الدنيا والآخرة؛ فالإسلام يزاوج بين النظرتين، ويمزج بين الحياتين، فهذه مزرعة لتلك، والله قد استخلف الناس في الأرض، واستعمرهم فيها، فلا ينبغي أن يخربوها أو يعطلوها، والسعيد من فاز بحسنة الدنيا وحسنة الآخرة: “رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ“، “وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا…“.

إن الناظر إلى توازن الأخلاق الإسلامية، وتناسقها المعجز، يأخذه العجب كيف اجتمعت فيها الفضائل المتقابلة، التي يحسب الكثيرون أن التقاءها ضرب من المحال. ولهذا يتعذر على الباحث أن ينسبها إلى لون أو مذهب من الألوان أو المذاهب الأخلاقية، التي عرفها الناس قديما وحديثا: أهي أخلاق قوة أم أخلاق محبة؟ هل هي أخلاق زهد أم أخلاق حياة؟ أهي أخلاق روحية أم أخلاق مادية؟ أهي أخلاق ربانية أم أخلاق إنسانية؟ أهي أخلاق عقلية أم أخلاق دينية؟ أهي أخلاق مثالية أم واقعية، أهي أخلاق فردية أم اجتماعية؟

والحق أنها ليست واحدة من هؤلاء، ولكنها كل أولئك جميعا، لأن فيها قدرا من كل نوع من هذه الأنواع، هو خير ما فيها، مع تنزهها عن مساوئه وتطرفاته. فالحق الذي لا ريب فيه أنها: أخلاق متكاملة متوازنة: لأنها أخلاق إسلامية، وكفى.

___________________________

المصدر:  بتصرف كبير موقع الدكتور يوسف القرضاوي

مواضيع ذات صلة