في ذكرى مولده (3).. العزيمة و الإرادة في حياة سيد الخلق

الناجحون في حياتهم يعتمدون بالأساس على صفتين محوريتين لنجاحهم، هما: العلم و الإرادة ، وعلى أساس هاتين الصفتين تتفاوت مقامات الناس و منازلهم. فمنهم من هو قليل العلم، ضعيف الإرادة، وهؤلاء هم أقل الناس قدرًا. ومنهم من لديه علم، ولكنه ضعيف الإرادة والعزيمة، فهذا سيظل محبوسًا في سجن ذاته، غير مستغِلّ لقدراته وإمكاناته.

الإرادةومن الناس من هو ضعيف العلم لكنه كثير المجهود، فهو يتخبط بجهده غير مستوضح هدفه ولا سبيله. وأما كمال مقامات الناس فهي إنما تتحقق بالعلم والعزيمة عندما يجتمعان.

إن اتصاف المرء بالعزيمة والطموح في ضوء نور معرفته لهدفه وسبيله هو أقوى ما يمكن أن يتصف به فاعل ومؤثر؛ فالعزيمة تدفع وتقوي، والطموح يبشِّر ويجذب نحو الهدف المعلوم.

كثير من المتساقطين في سبيل الحياة إنما يعود سبب سقوطهم إلى ضعف عزائمهم؛ لأن معوقات الحياة كثيرة، وهي أكثر لمن أراد التغيير، فإذا كان سير الإنسان ضعيفًا، وقّوته ضعيفة، وهمته ضعيفة؛ فهو يكون عندئذ نهباً مستباحاً لذئاب العالم وقاطعي الطريق. وقد أدرك محمد (صلى الله عليه وسلم) هذا المفهوم، ومن ثَم انطلق في حياته من عزيمة لا تعرف الكَلل، وعمل على تقوية العزائم في نفوس أصحابه وأمته، وحاول جاهدًا أن يجعل لهم طموحًا متدرجًا نحو معالي الأمور، وكان كثيرًا ما يقول في صلاته يدعو: (اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، وأسألك عزيمة على الرشد). و يسأل ربه أن يثبته على ما تحقق من إنجاز، وأن يعطيه العزيمة على إكمال السبيل، سائلاً ربه أن تكون عزيمة رشيدة نافعة حكيمة عليمة.

بناء الإرادة

غزوة أحد

دفن المسلمون أحزانهم بعد غزوة أحد في قلوبهم، ولم يستسلموا لمصابهم الذي حلَّ بهم.

حرص محمد (صلى الله عليه وسلم) على بناء نفوس أمته من جديد، على أن تكون نفوسًا قوية أبية، تملؤها الإرادة، ولا يفتّ فيها الألم، ولا تتأثر بكثرة الضعفاء، ولا بكثرة الأعداء من حولها، ومع هذا الموقف الذي يجلِّي ذلك: أُوذِي المسلمون في غزوة أحد – الغزوة الثانية التي لقي فيها محمد (صلى الله عليه وسلم) أعداءه – وجُرح فيها وقُتل عمه حمزة، وآخرون ممن كان يحبهم، ومثَّل أعداؤه بجُثث أصحابه وأحبابه، وألمَّ الألم والحزن بجميع أصحابه؛ ولا يزال جرحه ينزف دمًا، ثم تنزل آيات القرآن على محمد (صلى الله عليه وسلم) يقرؤها على أصحابه وهي تقول: “وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” (آل عمران: ١٣٩)، فلا ينبغي عليكم أن تهنوا أو تحزنوا؛ فيُقعِدُكم الوهنُ أو الحزنُ عن سبيلكم الذي اخترتموه وهدفكم الذي سعيتم إليه.

وبالفعل؛ فقد دفن المسلمون أحزانهم في قلوبهم، ولم يستسلموا لمصابهم الذي حلَّ بهم. حيث إن أشد أعداء المرء هو انهزامه النفسي، وضعفه الداخلي، وعدم قدرته على تحمل الألم، فيُصاب عندئذ بالنكوص والقعود؛ لذا فقد اهتمَّ محمد (صلى الله عليه وسلم) – رغم ألمه و ألم رجاله – أن يُعيد إليهم توازنهم النفسي والقلبي، ويخلِّصهم من أية آثار لما يمكن أن يكون انهزامية داخلية.

عزيمة في القلب

الهمة العالية

يخبرنا النبي في مواقف كثيرة أن المرء قد يبلغ الدرجات العلى بهمة قلبه، حتى قبل أن تصل إليها جوارحه وأعضاء جسده.

العزيمة عمل قلبي بالأساس، وإذا فقَد القلب عزمه خارتْ قوى الجسد مهما كان قويًّا، وقد تكون قوة الأعضاء متواضعة، ولكن تقوِّيها عزيمة القلب، وتصلِّبها إرادته، ويدعمها طموحه.  ومن هنا كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يركِّز في توجيهه لأصحابه نحو بناء العزيمة في نفوسهم، وفي أن قلوبهم هي صاحبة القول النهائي في ذلك، وأنه لا بد من همة القلب قبل همة الأعضاء.

يخبرهم في مواقف كثيرة أن المرء قد يبلغ الدرجات العلى بهمة قلبه، حتى قبل أن تصل إليها جوارحه وأعضاء جسده، حيث يقول في حديثه: (من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة). وقال فيمن تجهَّز للقاء عدوه، ثم أدركه الموت: (قد وقع أجره على قدر نيته).

بل إن الأمر في تصوره (صلى الله عليه وسلم) يفوق ذلك، إنه يسري حتى في العبادة بين الإنسان وربه؛ فيقول في حديث يبين مدى فضيلة هذه الدعوة: (ما من امرئ تكون له صلاة بليل، فغلبه عليها نوم إلا كُتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه). بل قد يتفوق المؤمن الفقير بنيته الصادقة وهمته العالية على الغني كثير المال كما في قوله (صلى الله عليه وسلم): (سبق درهم مائة ألف درهم)، قالوا: يا رسول الله! كيف يسبق درهم مائة ألف؟ قال: (رجل كان له درهمان، فأخذ أحدهما، فتصدق به، وآخر له مال كثير، فأخذ من عرْضها مائة ألف)؛ فكأن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) هنا يبين أن الطريق إلى الله إنما يُقطَع بقوة العزيمة، والطموح والنية الصادقة، وأن عملاً قليلاً قد يصل صاحبه بعزمه ونيته إلى أضعاف مضاعفة مما يقطعه قليل العزيمة ضعيف النية.

إنه يُعلِمهم أن إرادة المرء تُذهب مشقة الطريق، كما يعلِّمهم أن ضعف العزائم من ضعف حياة القلوب، وأن القلوب كلما كانت أتم حياة، كانت أكثر همة وعزيمة، وكما أن عزيمة القلب هي دليل على حياته، فإنها في الوقت ذاته سبب إلى حصول حياة أكمل وأطيب، فإن الحياة الطيبة إنما تُنَال بالهمة العالية، والمحبة الصادقة، والإرادة الخالصة، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة، وأخسّ الناس حياةً أخسُّهم همة، وأضعفهم محبة وطموحًا.

عزيمة ربانية

إن الذين يربطون جهدهم بتحقيق إنجازات محدودة فحسب يصيبهم الخور كثيرًا، ففي كل فترة يحتاجون إلى بداية عزم جديد، وقد تنكسر منهم عزائمهم، وتسكن إرادتهم بعد حدوث إنجازاتهم المحدودة. أما محمد (صلى الله عليه وسلم) فقد تعمَّد أن يربط إرادات أمته وعزائمهم بربهم، فكان اعتمادهم عليه سبحانه هو مصدر قوتهم، وتوكلهم على قدرته هو المثبِّت لعزائمهم، فيقول في حديثه: (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سَفْاسفَها).

عــزيمة لا تُنقض

حرص محمد (صلى الله عليه وسلم) في تربيته لأصحابه أن يعلِّمهم أن عزائم الكبار لا ينبغي أن تُنْقَض أو تنكسر، ولا ينبغي أن تتخاذل أو تتراجع، فعلَّمهم الوفاء بالوعد الذي عاهدوا أنفسهم عليه، وإنفاذ القرار إذا تشاوروا فيه، وحسم السير في السبيل مهما عاقتهم العوائق، فلا تردُّد ولا نكوصَ، ولا تراجعَ. وقد جاءت الآيات القرآنية متكاثرة حول التأكيد على الوفاء بالعهد و عدم نقض العزائم، يقول تعالى: ” الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ” (الرعد: ٢٠).

كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يعلِّم أصحابه درسًا آخر في العزائم والطموح، هذا الدرس معناه أن يلزموا طريق رسالتهم ولا يعبؤوا بقلة الأنصار، ولا يخشوا  كثرة المخالفين، فأصحاب العزائم قد رقت أنفسهم؛ بحيث صاروا لا يَأْبَهُون بقلة الأتباع، ووحشة الطريق.

إرادة القدوة

لم يكن محمد (صلى الله عليه وسلم) ليَبُثّ مفهومًا مثل ذلك في أمته بغير أن يكون هو ذاته قدوةً فيه، بل كان يبتدئ بنفسه دومًا، ليكون سباقًا إليه، فلا يأمر إلا بما يفعل.

يحكي صاحبه أبو الدرداء (رضي الله عنه) موقفًا من حياة النبي فيقول: (خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في شهر رمضان في حرّ شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله، وعبد الله بن رواحة) فهذه الرواية وغيرها  تبيِّن كيف كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يبدأ بنفسه المبادرة، ويضعها موضع القدوة دومًا، ولا يطلب من أمته شيئًا قبل أن يفعله، حتى في أشد المواقف، فقد كان العدو يوشك أن يداهمهم، فانخرط معهم (صلى الله عليه وسلم)، ولما فزعوا من صوت شديد، وخرجوا يستعجلون الأمر؛ تلقاهم (صلى الله عليه وسلم) عائدًا وقد ركب فرسًا بغير سرج – على عَجَل وسرعة – يهدِّئ روْعهم، ويزيل خوفهم ويقول لهم: لم تراعوا.

منهج يربِّي العزيمة و الإرادة

لقد أنزل القرآن على محمد (صلى الله عليه وسلم) يثني على أصحاب الهمم والعزائم العالية، وفي مقدمتهم الأنبياء والمرسلون، وجعل أعلاهم مقامًا من أسماهم «أولي العزم من الرسل»، فقال تعالى : “فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ” (الأحقاف: ٣٥). وقد بيَّن سبب كونهم أهل العزم، وهو أنهم صبروا وثابروا، ودافعوا عن قضيتهم وظلوا مستمسكين بمبادئهم، شأنهم شأن الأنبياء الآخرين، غير أنهم زادوا عليهم أن آلامهم كانت أكثر، وابتلاءاتهم كانت أشد، وأن مواقفهم كانت أصلب، وعَدّ القرآن في مقدمتهم: (نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا عليهم السلام). كما قصَّ القرآن مواقف ذوي الهمم والعزائم العالية من أتباع الأنبياء، كما في موقف الرجلين الصالحين مع موسى -عليه السلام- اللذين حثَّا بني إسرائيل على دخول الأرض المقدسة فقالا كما حكاه القرآن الكريم:”قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ  وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ” (المائدة: ٢٣).

اللهم إني  أعوذ بك من العجز والكسل

دعاء تفريج الكربإنه دعاء كان محمد (صلى الله عليه وسلم) يُكثر من الدعاء به، وينصح به أصحابه، فبينما هو في يوم من الأيام يدخل المسجد، إذ وجد صاحبًا من أصحابه مهمومًا محزونًا كسيرًا، وإذا به يقول له: (ألا أدلك على كلمات إن قلتهن ذهب عنك همك وقضى الله عنك دينك؟) قال: قل يا رسول الله! فقال: قل: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من الجبن والبخل والهرم، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال). وكان خادمه أنس يقول: إنه كان كثيرًا ما يدعو بهن.

والمتأمل في هذا الدعاء بالخصوص يجده يعدُّ عجز المرء (وهو عدم قدرته على الأداء)، وكسلَ المرء (وهو تباطؤه وتوانيه في الأداء)، وهمَّه وحزنَه، اللذين يُقْعِدانه عن الإنجازات والأعمال، وجبنه وبخلَه وهرمَه التي يَمنعه من اللحاق بأصحاب المراتب العالية؛ تجده يعدُّ كل ذلك شيئًا ينبغي على المؤمن أن يتعوذ منه، وأن يتنصَّل منه، وأن يتبرأ منه، وأن يدعو ربه دومًا أن يباعد بينه وبينه؛ إذ المؤمن دومًا فعّال طموح مُؤَثِّر مُنجز. لقد بذل محمد (صلى الله عليه وسلم) جهده في أن تظل عزيمته فعالة حية مؤثرة، واستعان بربه في كل أمر خارج عن قدرته، واستعاذ منه مما يمكن أن يصيبه مما يؤثر في  عزمه أو يضعف طموحه.

الطــموح

لقد كان محمد (صلى الله عليه وسلم) دومًا يربط الطموح بالعزائم، ويعلم أمته أن يتسموا بالطموح ويتصفوا به، وكان كثيرًا ما يقرأ هذه الآية: “وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا” (الفرقان:٧٤)، إنها إمامة لا يقتصر طموحها على حدود الدنيا وحسب، بل إنها تتعداه إلى الخلود في جنات الآخرة.

إن هذا الطموح لم يكن طموحًا في الظهور ومراءاة الناس، ولكنه كان طموحًا في التأثير والتعمير والإصلاح، والمسابقة في التقرب إلى الله، فقد بيَّن أن أكمل حالات المؤمن أن يكون همه الاستعداد للآخرة، فقال (صلى الله عليه وسلم): (من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له).

وهو بهذا لا ينهاهم عن الكسب الدنيوي وتحصيل المتاع المباح؛ بل هو يأمر بذلك ويؤكد عليه ويوجبه، لكنه ينهى الناس أن تكون الدنيا هي كل شيء في حياتهم. وعلَّم محمد (صلى الله عليه وسلم) أمته المبادرة والمسابقة إلى الأعمال الصالحة؛ فيقول(صلى الله عليه وسلم): (يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارقَ، ورتِّل، كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها).وحث الذين لا يجيدون قراءة القرآن على قراءته وأخبر أنهم يؤجرون على ذلك فقال: (مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ القرآن وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران).

وحذَّر من تعُّمد التباطؤ عن المسابقة إلى الطاعات، كما في قوله(صلى الله عليه وسلم): (احضروا الذكر، وادنوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يُؤخَّر في الجنة وإن دخلها).كما علَّم أمته الطموح في الدعاء؛ فأمر أن يسأل الداعي ربه بعظائم الأمور وأكابرها، ولا يستكثر شيئًا على ربه؛ فقال: (إذا سأل أحدكم فليُكْثِر، فإنما يسأل ربه).وفي لفظ آخر: (إذا تمنى أحدكم فليستكثر، فإنما يسأل ربه عز وجل).

 إن أثر هذه التربية والتوجيه على أصحابه وأتباعه لا يقف عند مجرد التطبيقات المباشرة التي اتصل بها النص، بل يمتد ليوجد نفوسًا ذات عزيمة وطموح، وذات همة عالية في حياتها كلها؛ في حياة الفرد في نفسه، ومع أسرته، ومع مجتمعه.

__________________________

المصدر: بتصرف من الموسوعة الميسرة لحياة النبي عن موقع نبي الرحمة

مواضيع ذات صلة