مغيث و بريرة.. عندما تشفَّع النبي لمن أحب!

وها هي بريرة رضي الله عنها تتنفس عبير الحرية، وتستنشق عطرها، وتبدأ حياتها من جديد، بثوب جديد، ونفس جديدة…

(مقتطف من المقال)

إعداد/ فريق التحرير

بريرة

لما تأملت بريرة حالها رأت أنها زوجة لعبد مملوك، والإسلام يعطيها حرية اتخاذ القرار، فقررت بحسم وجزم أن تنهي حياتها الزوجية. وهكذا كان، لأنها لم تكن تحب زوجها، ولا تحمل في قلبها له مودة ولا رحمة.

كثيرة هي المطاعن والشبهات التي يثيرها المشككون ليل نهار.. والتي لا نجد أمامها عندما نتفحصها سوى ردة فعل عكسية لمسالك لا تمثل إلا أصحابها.. اعتبرها المشككون مطاعن في الدين والشريعة الغراء.. سواء أكان هؤلاء دعاة لله تعالى، أو حتى أناسا عاديين…

قبل أيام وقع بين أيدينا مقطع مرئي لداعية شهير.. يقدم أحد برامج الفتوى عبر إحدى الفضائيات العربية.. تحدث إليه زوج مكلوم عن كراهية زوجه له، وطلبها التطليق لتلك الكراهية.. فما كان من الداعية الشاب إلا وأن أفتى بأن مجرد الكراهية لا تبيح الطلاق وليست مسوغا مقبولا له!!!

وبالرغم من كونه أورد قصة امرأة الصحابي ثابت ابن قيس برواياتها المختلفة، والتي استدل بها الفقهاء على أحقية المرأة في الخُلع من زوجها إذا كرهت عشرته ورفض تطليقها… إلا أنه عاد وكرر مرارا أن مجرد كراهية الزوج ليس مبررا للانفصال عنه.. وهو رأي وارد لبعض الفقهاء الذين يرون أن على المرأة الصبر والاحتساب لله تعالى…

وما بين الآراء الفقهية المختلفة.. كانت تلك القصة.. التي رأيناها مثالا واضحا جليا على احترام الإسلام لمشاعر الزوجة التي لم يضعها أبدا في درجة أدنى من مشاعر الرجل كما يروج البعض، بل منحها كل الحق في أن تقرر ما تريد في حياتها وقتما تريد.

القصة هي قصة الصحابية الكريمة بريرة مولاة أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه..

أما قصتها.. فعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: جاءتني بَرِيرة فقالت: كاتبتُ أهلي على تسعٍ أواقٍ، في كل عام أوقية، فأعينيني.

فقلت: إن أحبُّوا أن أعدَّها لهم، ويكون ولاؤُك لي، فعلتُ؟

فذهبت برِيرةُ إلى أهلها، فقالت لهم، فأبَوْا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسٌ، فقالت: إني قد عرضتُ ذلك عليهم فأبَوْا إلا أن يكون الولاءُ لهم، فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرت عائشةُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (خُذيها واشترطي لهم الولاء؛ فإنما الولاء لمن أعتق).

ففعلت عائشةُ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد، ما بالُ رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطلٌ وإن كان مائةَ شرط، قضاءُ الله أحقُّ، وشرطُ الله أوثقُ، وإنما الولاء لمن أعتق).

وبالفعل حققت بريرة رضي الله عنها ما أرادت من العتق بعد أن قدمت ما اشترطه ولاة أمرها..

وها هي بريرة رضي الله عنها تتنفس عبير الحرية، وتستنشق عطرها، وتبدأ حياتها من جديد، بثوب جديد، ونفس جديدة.

فلما تأملت حالها رأت أنها زوجة لعبد مملوك، والإسلام يعطيها حرية اتخاذ القرار، فلها أن تبقي علاقتها الزوجية كما هي، على حالها السابق، ولها أن تنقض الرباط، وتحل الوثاق، فقررت بحسم وجزم أن تنهي حياتها الزوجية. وهكذا كان، لأنها لم تكن تحب زوجها، ولا تحمل في قلبها له مودة ولا رحمة.

غير أن وقع الأمر على مغيث زوجها كان له وقع آخر.. فقد كان شديد التعلق بها..

ففي صحيح البخاري: من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي الله عنهما)، قال: ‏إنَّ زَوْجَ ‏ ‏بَرِيرَةَ ‏كَانَ عَبْدًا، يُقَالُ لَهُ ‏ ‏مُغِيثٌ. ‏كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ!! فَقَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏لِعبَّاسٍ:‏ ‏يَا ‏‏عَبَّاسُ‏، أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ ‏ ‏مُغِيثٍ ‏ بَرِيرَةَ، ‏وَمِنْ بُغْضِ ‏ ‏بَرِيرَةَ ‏ ‏مُغِيثًا‏. ‏

فَقَالَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏لبريرة: (‏لَوْ رَاجَعْتِهِ! قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ، قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ).

قصة قد نراها عابرة.. أو لا نتوقف أمامها كثيرا.. غير أن وراءها مغازي ومعاني عدة.. عبَّر عنها أصدق تعبير الشيخ/ عادل الكلباني في مقالة كتبها تحت عنوان (مغيث وبريرة.. قصة حب من الزمن النبوي).. قال فيها: وفي هذه القصة فوائد جمة، فقهية ودعوية، نستل منها ما يفيدنا في حالنا، وواقعنا، ومن ذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثا!

تعجب وهو يرى حبا يقابل ببغض، فلم يكن حبا متبادلا، فلم ينكر، ولم يشدد، بل أفسح للقلوب أن تعبر عما في جوفها، ولم يعنف أحدا منهما، لأن الإسلام جاء بها بيضاء نقية، واقعية، تتلمس العواطف وتعرف قدرها، ولم يأت ليكبت أحاسيس الناس، ولا ليضيق عليهم في التعبير عنها.

بل كما عبر هو عنها بأبي هو وأمي، لما سئل: من أحب الناس إليك قال: عائشة، قيل من الرجال؟ قال: أبوها.

إن ديننا القيم دين واقع، دين لا يتعامل مع الخيال، ولا يرسم المثاليات التي لا تتحقق، بل شرع لكل شيء ما يناسبه، يقوم المشاعر وينظمها، لكنه لا يكبتها ولا يصادرها.

فلا حرج على مسلم في هوى امرأة مسلمة، وحبه لها، ظهر هذا أو خفي، لا إثم عليه في ذلك، وإن أفرط، ما لم يأت محرما، ولم يغش إثما.

فديننا يقر الحب، وينشر الحب، لكنه الحب العفيف، الطاهر، ليس حباً يقود إلى الرذيلة، ويهتك ستر الفضيلة.

وفي القصة رائعة من روائع الحبيب صلى الله عليه وسلم، ودلالة واضحة على أنه حقيق بوصف الله له: عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم. ودليل على عظيم خلقه، فإن عبدا مملوكا لا يتوانى أن يطلب شفاعته، في قضية أسرية لا تمس الأمة في ثوابتها، وليس لها صلة في أمورها العظام، ومع كل هذا يستشفع العبد بالحبيب صلى الله عليه وسلم، ويشفع بأبي هو وأمي، لا يتكبر، ولا يتعالى، بل يكلم المشفوع عنده بألطف العبارات، ويذكرها لا آمرا، ولا زاجرا، ولا مستعليا، ولا متسلطا.

وكم في هذه الشفاعة النبوية لدعاة وعلماء الأمة أن يتواضعوا للناس، وينظروا في حاجاتهم، ويشفعوا لهم عند السلطان وغيره، في قضاء ديونهم، وإصلاح ذات بينهم، وفي جميع أمورهم، ليؤجروا، وليتأسوا بمورثهم العلم، ميراث النبوة.

ثم لك أن تتصور مدى اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بمغيث وزوجه، فإن فعلت فإنك حتما ستعجز أن تتصور كيف يكون اهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمور هي أهم وأعظم من بريرة وزوجها! فسبحان من بعثه رحمة للعالمين. وهكذا دين الحق، الذي يوازن الأمور ويعطي كل ذي حق حقه.

لقد استوقفتني كثيرا هيئته صلى الله عليه وسلم، وهو من هو، بأبي هو وأمي، لا يتوانى في الشفاعة عند بريرة، وهي التي لم يجف عرقها بعد من ربقة العبودية، يستعطفها على زوجها، فتسأله بقوة وثبات: تأمرني؟ لأنها تعلم يقينا أن لو كان صلى الله عليه وسلم يأمرها فلا تملك إلا أن تسمع وتطيع، فقد تقرر في ذهنها، ورسخ في قلبها: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة، حرا كان أو عبدا، سيدا كان أو عاميا، ملكا كان أم من الرعايا، ما كان لهم إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم.

فلهذا سألت: تأمرني؟ فلما علمت منه صلى الله عليه وسلم أنه لا يأمرها، وإنما هو شافع، قررت، وصرحت بأنها لا تقبل تلك الشفاعة، وتردها بكامل اختيارها، ونقاء قرارها، واتساع حريتها، واطمئنانها إلى أنها لن ترغم، ولن تعنف، ولن تحاصر بإرهاب فكري، أو اجتماعي، إذا ما اتخذت قرارا ينافي رغبة الشافع، صلى الله عليه وسلم.

لم يكن منظور الحبيب صلى الله عليه وسلم لها كما ننظر إليها، كانت نظرته أرق، وأوسع، وأشمل، إنما أنا أشفع.

لم تُعاقب بريرة، ولم تُنبذ، ومضى الأمر كما أرادت، ولم يجبرها على أن تعود إلى زوج رفضته لأنها لا تحبه.

فلله درك من إمام هدى، جئت بأنصع بيان، لم تتله بلسانك، بل صغته بأوضح برهان، صغته بنفسك الأبية، تطبيقا، واقعيا، نلمسه فنحسه دفئا يرطب الأكباد، وأساسا يبني عليه من أراد أن يبني صروح الأمجاد.

طالع أيضا:

الحب في الله.. أرقى المشاعر وأنقى العلاقات بين البشر

زينب وابنُ الربِيع.. قصة حب في بيتِ النَّبي


المراجع:

** النسخة الإلكترونية لجريدة الرياض

** إسلام ويب

** موقع قصة الإسلام

** شبكة الألوكة الشرعية

** موقع نداء الإيمان

مواضيع ذات صلة