للإسلام نظرة مستقلة في النفس الإنسانية ، تختلف عن غيرها اختلافًا أساسيًّا، وإن كانت -في الفروع والتفصيلات- قد تلتقي في بعض الأحيان بغيرها من النظريات!
الكاتب/ أ. د. عمر بن عبدالعزيز قريشي
إن دراسة مقارنة لتاريخ الأديان لَتدلُّنا على أن الإسلام لم يكن في يوم من الأيام متعصبًا، كما يفتري عليه خصومُه، بل على العكس من ذلك، فلقد كان الإسلام أكبر عون لحرية الإنسانية وحضارتها، وإنه أوقَدَ شعلة العلم والمعرفة، وإنه أعطى الصدارة للعلم، وقدَّم للإنسان الفكرَ الحق، والمضمون الصادق للحرية والعدل والمساواة، وعلَّم الإنسان عظمة الحب والإخاء والتسامح، وليس شيء سوى القرآن الكريم هو الذي طلب من المسلمين ألاَّ يسفِّهوا عبادات غير المسلمين، وأن يحترموا مشاعر الآخرين، وهو ما يعتبر ركنًا من العقيدة الإسلامية، ويُلهِم الكتابُ والسنة المسلمين المُثُلَ الحقيقية للتسامح، ويحمل التاريخ الإسلامي من الأدلة الوفيرة على ذلك، وليس من الميسور هنا أن نُعدِّد طيات هذا التسامح وتاريخه الطويل، ووقائعه التي تجلُّ عن الحصر، ولكنا سنكتفي بسردِ تعاليم الإسلام، وما يؤيدها من السوابق التاريخية -كتطبيق نظرية التسامح في الإسلام- وسنعرض لشيءٍ من نظريات المؤرِّخين غير المسلمين، والذين لا يتعاطف معظمهم مع الإسلام، ولقد شهدوا -وهم خصوم الإسلام- بسماحته، والفضل ما شهدت به الأعداء.
النفس الإنسانية في الإسلام:
للإسلام نظرة مستقلة في النفس الإنسانية ، تختلف عن غيرها اختلافًا أساسيًّا، وإن كانت -في الفروع والتفصيلات- قد تلتقي في بعض الأحيان بغيرها من النظريات!
ونظرة الإسلام في تكاملها وتناسقها وشمولِها لكلِّ جوانب النفس الإنسانية وكل جوانب الحياة -غيرُ مسبوقةٍ من الوجهة التاريخية، وما تزال حتى اليوم- بعد كل ما ظهر من النظريات التي تنفردُ وحدَها بالشمول والعمق والاتزان.
أهم ما يتميَّز به الإسلام أنه يأخذ الكائن البشري على ما هو عليه، لا يحاول أن يقسرَه على ما ليس من طبيعته؛ كما تصنع النظم المثالية، وإن كان في الوقت ذاته يعمد إلى تهذيب هذه الطبيعة، إلى آخر مدى مستطاع، دون أن يكبت شيئًا من النوازع الفطرية، أو يمزق الفرد بين الضغط الواقع عليه من هذه النوازع، وبين المثل العليا التي يرسمها له.
فالإنسان في نظر الإسلام لا هو بالملاك ولا بالحيوان، وإن كان قادرًا في بعض حالات الهبوط أن يصبح أسوأ من الحيوان، وفي بعض حالات الارتفاع أن يسمو بروحه إلى مستوى الملائكة من الطهر، ولكنه في حالته الطبيعية شيء بين هذا وذاك، مشتمل على استعداد للخير، كما هو مشتمل على استعداد للشر، وليس أي العنصرين غريبًا عن الطبيعة، ولا مفروضًا عليه من خارج نفسه.
وهو يشتمل على نوازعَ فطريةٍ تربطه بالأرض؛ لأن الحياة -في أهدافها العليا- لا تتحقَّق بغير وجود هذه النوازع قويةً ملحة يتعذر الفكاك من عِقالها، ولكنه يشتمل في الوقت ذاته على نزعة -فطرية أيضًا- تهدف به إلى الارتفاع والسمو، ومحاولة الانطلاق -ولو قليلاً- من روابط الأرض.
والإنسان قابل -من طرفيه هذين- أن يهبط و أن يصعد بحسب التوجيه الذي يوجه إليه، وخاصة في فترتي الطفولة والمراهقة، ولكنه حين يهبط أو يرتفع، يكون في حدود طاقاته الطبيعية، وعناصره المكونة له، لا يفرض عليه شيء من الخارج، ولا يقسر على ما ليس في طبيعته.
والإغراء بالهبوط كالإغراء بالصعود، كلاهما يتلقى استجابة طبيعية من الفرد؛ لأن فيه استهواءً لهذا وذاك، وبعض الأفراد بطبيعة الحال استهواؤهم للشرِّ أكبر، وبعضهم يكون استهواؤهم للخير أشد، ولكن الغالبية العظمى تقع في الوسط، أو هي -لنكون أكثر واقعية- أَمْيَل إلى الهبوط والاستجابة لنوازعها الفطرية الأرضية، وإن كانت في ذات الوقت لا ترفض الاستجابة إلى دافع التسامي، حين يعرض لها أو توجَّه إليه.
والغاية العليا للإسلام، هي إيجاد التوازن في نفس الفرد، فيؤدِّي ذلك إلى إيجاد التوازن في المجتمع، وفي الإنسانية كلها بعد ذلك، بقدر ما يكون هذا في حدود الإمكان، ووسيلتُه في ذلك أن يمسكَ بالإنسان في خيط الصعود؛ ليساعده على موازنة الثقل الذي يجذبه إلى الأرض، ولكنه لا يعنف في جذبه إلى أعلى حتى يمزق أوصاله، أو يقطع ما بينه وبين الأرض من صلات؛ لأنه حين ذلك يفقده التوازن المنشود.
والإسلام يكره فقدان التوازن ولو كان إلى أعلى؛ لأنه يحرص على أهداف الحياة العليا، التي لا تتحقَّق بغير الاستجابة لنوازع الأرض، وكل ما يعمله ويهدف إليه هو تنظيفُ الوسائل التي يستجيب بها الفرد لنوازعه؛ حتى ترتفع الحياة كلها، وتُصبِح كريمة جميلة، خليقة بمعنى التكريم الذي أسبغه الله -سبحانه وتعالى- على الإنسان.
من هنا يقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-: (إن الرهبانية لم تُكتَبْ علينا)(2)؛ فالرهبانية -في نظر أصحابِها- ارتفاع بالحياة عن نوازع الجسد، وتطهير للرُّوح لتكون خليقةً بالدخول في ملكوت الله، ولكنه -في نظر الإسلام- اختلال غير متوازن، يعطِّل أهداف الحياة، ويعذِّب الفرد في سبيل هدف -مهما يكن نظيفًا في ذاته- فهو غير عادل بالنسبة للفرد والمجتمع والحياة، ومن هنا كذلك يتضح أن الإسلام يسعى إلى التوفيق الدائم بين أهداف الحياة وضرورات المجتمع ونوازع الفرد، دون أن يطغى هدف على هدف، ولا مصلحة على مصلحة؛ وإنما يسير الكل في توافق واتساق، يحقق -حين يتم- أقصى ما يمكن من السعادة على ظهر الأرض(3)، تلك نظرته العامة، ولا نجد مجالاً للتفصيل (4).
تلك نظرة الإسلام الوسطية، البعيدة عن التزمت والتسيب، والإفراط والتفريط، وهذا ما امتاز به الإسلام بين الرسالات، ترى فيه -لمن تأمل- من التسامح ما فيه، فليس في الإسلام ما يرهق الإنسان من مثالية الرهبنة، أو أن مَن ضربك على خدك الأيمن فأَدِر له الأيسر… إلخ، وليس فيه من جمود الأحكام، ولا عصبية القوانين ما في غيره، وليس فيه النظرة إلى الذاتية فقط شأن “الرأسمالية”، ولا النظرة إلى المجتمع فحسب شأن “الماركسية”؛ فالإسلام منهج وسط في كل شيء: في التصور والاعتقاد، والتعبد والتنسك، والأخلاق والسلوك، والمعاملة والتشريع.
وهذا المنهج هو الذي سماه الله -تعالى-: ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ هو منهج متميز عن طرق أصحاب الديانات والفلسفات الأخرى من ﴿ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾، ومن ﴿الضَّالِّينَ﴾، والذين لا تخلو مناهجهم من غلو أو تفريط.
——————————–
المصدر: من كتاب “سماحة الإسلام” للكاتب