تاريخ جمع السنة وتدوينها بين الشبهات والردود (الجزء الرابع)

من أسباب تيسر حفظ السنة .. نزولها مفرقة حسب الوقائع والأحداث على قوم أميين اعتادوا الحفظ وصدق الحديث…

(مقتطف من المقال)

فهد مولاطو

السنةتناولت المقالات الثلاث السابقة الحديث عن المرحلة الأولى من بعثته صلى الله عليه و سلم إلى وفاته، و التي عنت بجهود النبي صلى الله عليه و سلم و صحابته في حفظ السنة و جمعها و العناية بها خلال هذه الفترة.

وعرضنا لما ميز هذه المرحلة من مظاهر حفظ السنة في ثلاثة أبواب كل مكمل للآخر.

أ. باب العناية النبوية بالسنة المحمدية

ب. باب صفات الصحابة و مظاهر عنايتهم بالسنة

وإلى الباب الأخير من هذه المرحلة الهامة من تاريخ جمع السنة النبوية المطهرة

ج- باب صفات السنة و خصائص الخطاب النبوي التي ساعدت على حفظه

1.الفصاحة

كان رسول الله أفصح العرب وأوتي جوامع الكلم حيث كان كلامه فصلا يفهمه كل من سمعه كما وصفته عائشة رضي الله عنها، يستعمل من الكلام أبينه ومن اللفظ أجزله. و إليك واقعة تدلك على مدى تأثير هذه الفصاحة على العرب آنذاك، فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أن ضمادا قدم مكة فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون إن محمدا مجنون فقال لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي قال فلقيه فقال يا محمد إني أرقي من هذه الريح وإن الله يشفي على يدي من شاء فهل لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أما بعد قال فقال أعد علي كلماتك هؤلاء فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال فقال لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء ولقد بلغن ناعوس (أي قعره من عمقهن و نفاذهن و حسنهن) البحر قال فقال هات يدك أبايعك على الإسلام.

2.التنجيم

لم ينزل الوحي كتابا و سنة جملة واحدة، و لكن نزل مفرقا و منجما خلال ثلاث و عشرين عاما، نزولا مفرقا كان بمثابة الدواء للسقام و الري للظمآن، مما جعل الصحابة يتشربونه جرعة جرعة حتى وعته القلوب و فقهته الأفئدة. و لا يخفى ما لهذا النزول المتأني من أثر في تسهيل الحفظ و الضبط.

3.النزول حسب الأحداث

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتيا قاضيا حاكما وقائدا مُدةَ لَبْثِهِ بين أصحابه، فما من حدث أو واقعة إلا علق عليها أو حكم فيها بحكمه، و هذه التعاليم حيث تأتي حسب الوقائع مما يساعد على التذكر و الحفظ و الضبط. فتدبر كيف ينسى عبد الله بن عمر حكم رسول الله فيمن طلق امرأته و هي حائض و قد أفتاه النبي حين وقع في ذلك، و كيف ينسى الصحابة صفة صلاة الخوف و قد فعلوها مع رسول الله مرارا، و لذلك رجح المحدثون رواية من باشر الواقعة على من لم يباشرها، و رجحوا رواية من كان سببا في نزول الحكم على غيره لأنه أولى بالحفظ و الضبط، و لذلك رجحوا رواية ميمونة في كون رسول الله تزوجها و هو حلال على رواية ابن عباس على أنه تزوجها و هو محرم.

فانظر يرحمك الله كيف هيأ الله كل هذه الأسباب لحفظ دينه و سنة نبيه التي تمثل الشرح التفصيلي و البيان العملي التطبيقي لكتابه عز و جل،، ثم اقرأ “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (الحجر:9) و اقرأ “… اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ…” (الأنعام:124).

خاتمة لما يتلخص من هذه المرحلة:

. رسوخ مكانة السنة وكونها مكملة للدين مبينة لكتاب رب العالمين

. حثه صلى الله عليه وسلم على تعلم السنن وتتبعها فعلية وقولية

. ظهور طريقة الحفظ والتحفيظ

. استعمال وسيلة التقييد بالكتابة

. ظهور وسيلة الرواية لتبليغ السنن

. أمره صلى الله عليه وسلم بتبليغ السنة

. من أسباب تيسر حفظ السنة، نزولها مفرقة حسب الوقائع والأحداث على قوم أميين اعتادوا الحفظ وصدق الحديث

هذا وقبل الانتهاء من هذه المرحلة وجب التطرق إلى توجيه نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه، جاء هذا النهي من رواية أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم، ورد العلماء دلالته على النهي المطلق من وجوه، فنقول:

أولا: أن الحديث معلول أي غير صحيح وقد ضعفه طائفة من كبار المحققين على رأسهم الامام أحمد والبخاري حيث حكموا عليه بالوقف، أي أنه من قول الصحابي وأن من نسب الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الرواة فقد أخطأ

ثانيا: أن الحديث معارض بكل ما سقناه من أمثلة أمره وإقراره وفعله صلى الله عليه وسلم لكتابة السنن فوجب تقديمها على ذاك الحديث الفرد

ثالثا: أن نقول أن كل من قال بصحته من العلماء فقد قال إما بنسخ حكمه أو أن ذلك النهي كان لحكم ظرفية منها عدم اختلاط السنن بالقرآن

وأما بالنسبة لنهي بعض الصحابة عن كتابة السنن فسيأتي توجيهه عند الحديث عن المرحلة الثانية في هذه السلسلة إن شاء الله عز وجل، والحمد لله أولا وآخرا.


المصدر: بتصرف عن موقع مركز يقين

مواضيع ذات صلة