روجيه جارودي.. عندما أسلم فيلسوف القرن العشرين الفرنسي (2-2)

كان جارودي يبحث عن إيديولوجيا توفر السلام والأمن للبشرية، وتمنح الانسجام بين الأخلاق والسياسة، بين الروح والمادة، بين الفرد والمجتمع، بين الثقافات الغربية وغير الغربية؛ أي أيديولوجيا عالمية تضم كل البشر…دين يسمو فوق القومية والوطن واللغة والمستوى الاقتصادي للحياة.. دين يمنح الحياة الإنسانية معناها الحقيقي، وقد وجد جارودي في الإسلام النموذج لنوع من الحوار التوفيقي الذي كان مشغولا به طوال ثلاثين عاما…

(مقتطف من المقال السابق)

سلمان بو نعمان

جارودي

جاء إسلام جارودي بعد رحلة طويلة من الأسئلة المقلقة والبحث الطويل في حضارات وديانات العالم كله.

شرع غارودي منذ 1956 في تأسيس حوار فكري مع الماركسية الجامدة التي تحجرت في قوالبها وأصبحت خارج الاستجابة لروح العصر.

وفي سنة 1966 أصدر غارودي كتابه”ماركسية القرن العشرين”، مؤسسا بذلك موقفا نقديا من مسلمات الماركسية الثابتة، متهما الماركسية بالتحول إلى دين رسمي ذي طقوس وأتباع، ومبرزا أن هذه المقولة مخالفة لقول انجلز: (نظريتنا ليست ناموسا إلهيا، ناموسا يجب حفظه عن ظهر قلب وترديده بصورة آلية، بل هي دليل عمل)، كما انتقد فيه الفهم الخاطئ لمقولة: “الدين أفيون الشعوب”، فالادعاء بأن الدين في كل زمان ومكان يصرف الإنسان عن العمل والكفاح متناقض تناقضا صارخا مع الواقع التاريخي.

يطرح غارودي في سياق مراجعاته للماركسية الجامدة، مقولة: “لا دين أفيون للشعوب ولا إلحاد وضعي”، حيث يؤكد أن الحياة الأبدية -فيما وراء التاريخ ووراء هذه الحياة الدنيا- هي الأساسية.

فلا دين أفيون يجري فيه تصور العلاقة بين الإنسان والله على نحو لا ينادي معه الإنسان الله ولا يلاقيه إلا في التخوم لا في المركز. ولا دين أفيون للشعوب: يتلبس شكل إيديولوجية، وشكل ميتافيزياء، لا شكل فعل وقرار وطريقة خلاقة للحياة.

 ولكن البديل عن دين أفيون للشعب ليس إلحادا وضعي النزعة؛ لأن الوضعية ليس هي العالم بدون الله فحسب، بل أيضا العالم بدون الإنسان. إن البديل الحقيقي هو إيمان مناضل وخلاق، لا يقصر الواقع على ما هو كائن فحسب، بل يضمنه أيضا جميع ممكنات مستقبل يبدو على الدوام مستحيلا في نظر من لا يملك قوة التأمل. فالإيمان يعني الأمل، مع ما يحمله من استكشاف الإمكانيات الكامنة وراء الواقع المباشر.

ويبرز ذلك جارودي بعمق وتفصيل أكثر في كتابه: “نحو حرب دينية” في سياق مراجعته للماركسية، حيث اعتبر أن الإلحاد لم يكن مكوّنا ضروريا من مكونات الاشتراكية. كما أكد أن ماركس لم يقم بنقد فلسفي للدين، بل قام بنقد سياسي، مفسرا ذلك بقوله: (ففي نضاله من أجل الطبقات المستغلَّة والمضطهدة، اصطدم [ماركس] في أوروبا التي سيطرت عليها روح “الحلف المقدس” (بين كبار رجال الدين والأمراء ضد كل حركة ديموقراطية أو اشتراكية)، بدين يلعب، فعلا، دور أفيون الشعب).

يقول جارودي في أول أيام المحاكمة متوجها لقاضيه وللجمهور الحاضر في قاعة المحكمة: “إنني أستاذ جامعي متقاعد، وكاتب ألفت 54 كتابا وترجمت كتبي إلى 29 لغة وقدمت عني 22 أطروحة جامعية، وقد قاومت النازية في أثناء الاحتلال، ونفيت طيلة 33 شهرا في الجزائر، وكنت عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، لكنني فصلت من الحزب عام 1970؛ لأنني قلت إن الاتحاد السوفيتي ليس بلدا اشتراكيا، كما عملت 14عاما كنائب في الجمعية الوطنية (البرلمان) ثم اعتنقت الإسلام”.

لخص جارودي في هذه الأسطر رحلة حوالي ثمانين عاما من البحث الفكري والعمل النضالي وفي قضية “المحاكمة بالذات” والتي انتهت بالقضاء على الصورة الإعلامية لجارودي واتهامه بمعاداة السامية. فقد تميزت حياته ومسيرته الفكرية بالانتقال من أكثر من مدرسة وأكثر من منظومة فكرية إلى أخرى ومن نسق عقائدي إلى آخر، فجارودي الشاب الذي اعتنق البروتستانية في أول أيام حياته سرعان ما تخلى عن جزء منها ليعتنق الفكر الشيوعي وليصبح أحد أبرز المنظرين والمترجمين لأفكار كبار منظري الماركسية، لكنه عاد لينقلب على الشيوعية، ويتحول إلى اعتناق المسيحية الكاثوليكية لينتهي به المطاف إلى الإسلام.

وتمثل مؤلفاته ثلاث مراحل مهمة من حياته، فكُتب مثل “الإنسانية والماركسية “، و”أسئلة إلى سارتر”، و”كارل ماركس”، و”من أجل نموذج فرنسي للاشتراكية”، و”فكر هيجل”، و”ما هي الأخلاق الماركسية”.. تشكل المرحلة الأولى لفكره الماركسي الشيوعي.

أما المرحلة الثانية من المؤلفات فهي ما يمكن أن نسميها فترة الخروج من القمقم الشيوعي والتمرد على الماركسية نموذجها على سبيل المثال كتب عديدة مثل “الحقيقة كلها”، و”البديل”، وكتابه ذائع الصيت “نداء إلى الأحياء”، و”كيف أصبح الإنسان إنسانيا”.

في حين أن المرحلة الثالثة من المؤلفات يمكن أن نسميها المرحلة الإسلامية وأهم معالمها كتب من أمثال “وعود الإسلام”، و”الإسلام دين المستقبل”، و”الإسلام وأزمة الغرب”، و”هل نحن بحاجة إلى الله”، وطبعا كتابه الذي أدى به إلى المحاكمة “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”، و”الأصوليات المعاصرة”.

أساس انجذاب جارودي للإسلام…

إن أساس انجذاب جارودي للإسلام كان فكريا بالدرجة الأولى فالفيلسوف الذي تخلى عن المادية الجدلية ومن التفسيرات الأرسطية والهيجيلية والماركسية للمجتمع وللاقتصاد والثقافة والفن وللكون بشكل أشمل والذي مر بتجارب دينية من البروتستانتية إلى الكاثوليكية وجد طريقا فلسفيا للإسلام وبنى اعتناقه للإسلام على رؤية نقدية للإنتاج الفكري الإنساني عامة، حيث يقول في حوار له مع المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري: (الخطيئة الكبرى في الحضارة الغربية أنها اعتمدت صيغة النمو المادي التراكمي.. نمو الإنتاج ونمو الاستهلاك كمعيار أوحد للتقدم وللسعادة وللعمل الإنساني ولكن ماذا بعد؟ ماذا بعد المزيد والمزيد من إنتاج السيارات والماكينات وأجهزة الكومبيوتر؟ ماذا بعد المزيد والمزيد من البنوك والأرباح المالية؟ ماذا بعد المزيد والمزيد من المدن والطرق والمصانع؟ إلى أين سنصل بعد ذلك.. وأين النمو في القيم والأخلاق والمعاملات والسعادة الحقيقية؟)( مجلة الدوحة ديسمبر 1982 محمد جابر الأنصاري).

لقد وجد “روجيه جارودي” في الإسلام ما لم يجده في غيره من الإيديولوجيات والمعتقدات والأفكار والنظريات الفكرية التي تفرقت بين الكتب والمجلدات وبكلمات أكثر بساطة وفي حوار آخر له في مجلة الأمة القطرية يلخص جارودي أسباب انجذابه للإسلام قائلا: (إذا حكمت على الأمور في ضوء تجربتي الشخصية فإنني أقول: إن ما كان يشغلني هو البحث عن النقطة التي يلتقي فيها الوجدان بالعقل أو الإبداع الفني والشعري بالعمل السياسي العقيدي وقد مكنني الإسلام والحمد لله من بلوغ نقطة التوحيد بينهما ففي حين أن الأحداث في عالمنا تبدو عمياء متطاحنة وقائمة على النمو الكمي والعنف يروضنا القرآن الكريم على اعتبار الكون والبشرية وحدة واحدة يكتسب فيها الدور الذي يسهم به الإنسان معنى)( مجلة الأمة العدد 29السنة الثالثة – فيفري 1983).

جاء إسلام جارودي بعد رحلة طويلة من الأسئلة المقلقة والبحث الطويل في حضارات وديانات العالم كله، يقول: (أحب أن أقول إن انتمائي للإسلام لم يأت بمحض الصدفة، بل جاء بعد رحلة عناء وبحث، ورحلة طويلة تخللتها منعطفات كثيرة، حتى وصلت إلى مرحلة اليقين الكامل، والخلود إلى العقيدة أو الديانة التي تمثل الاستقرار، والإسلام في نظري هو الاستقرار…بدا لي الإسلام حامل إجابة على أسئلة حياتي).

وفي ظل غياب الغاية الإنسانية والإلهية يمكن للإسلام أن يقدم إلى العالم ما ينقصه، وهو إضفاء معنى للحياة، فالإسلام دين التوحيد.

في حين أن العالم المعاصر عالم المنافسة والنمو الكمي والعنف تبدو فيه الأحداث حصيلة القوى العمياء المتصارعة، لكن يعلمنا القرآن الكريم النظر إلى الكون والبشر على أنهما كلّ واحد، ويعلمنا الله عز وجل   أن نرى في كل شيء وفي كل حدث آية من آيات الله رمزا لحقيقة أسمى هي حقيقة النظام الواحد للطبيعة والمجتمع ولأنفسنا؛ فكل شيء في العالم خاضع لإرادة الله؛ فالحجر في سقوطه والنبات في نموه والحيوان في غرائزه كلها خاضعة؛ غير أن هذا الخضوع لا ينبع من إرادتها فهي لا تستطيع الإفلات من القوانين التي تحكمها.

وقد بين جارودي تكريم الله للإنسان بإعطائه العقل مع الإيمان لنميز الخير والشر، فيقول: (إن الإنسان مسؤول مسؤولية كاملة عن مصيره، إذ في مقدروه أن يعطي شريعة الله أو أن يستسلم لها”، وينتقل جارودي إلى أن الإسلام لا يفصل بين الإيمان والعلم والتقنية، بل يجمع بينها في كل لا يتجزأ، ولا يفصل بين البحث عن القوانين والأسباب وبين البحث عن الغايات والمعاني).

إن رجلا في حجم “روجي جارودي” وهو الفيلسوف الذي سمي عقل فرنسا، بل عقل العالم الكبير الذي كتب عن نفسه بنفسه في سيرته، “سيرة شاهد القرن العشرين”، كيف يختصر مدخل القرآن بعيدا عن العقلية التجزيئية والتقزيمية، بعد تأملاته العميقة في القرآن الكريم وسياحته الفكرية والفلسفية فيه يقول: (قوام النظرية السياسية في الإسلام، الحكم لله وحده، وقوام النظرية الاقتصادية في الإسلام، الملك لله وحده. وقوام نظرية المعرفة في الإسلام، العلم لله وحده).

 وهو معرض الرد على هذا النزوع الإلحادي المتعجرف، الذي أوكس الغرب، طيلة قرنين، إذ اعتمدوا على أنفسهم، وأنكروا الحاجة إلى الغيب، والحاجة إلى سند ومدد فوقي خارج ذات الإنسان وعقله، وهو يشرح ضعف إنسان اليوم وانتكاسته. وعند سؤاله عن أسباب نجاح الإسلام، اعتبر جارودي أن ذلك يعود إلى ثلاثة عوامل هي: التجديد الروحي والثورة الاجتماعية والتغيير الثقافي.

___________________________________

المصدر: مركز نماء للدراسات والأبحاث

http://nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?id=113

مواضيع ذات صلة