تركتُ الصلاة لاهيا.. وعدت لها متلهفا!

حسام مصطفى إبراهيم

حيرة

شعرتُ فجأة أني أحتاج الله، ضاقت عليّ نفسي بما رحبت، وانقطع رجائي في الدنيا.

انقطعتُ عن الصلاة شهورا.

لم أعد أشعر بشوق لها، لم أعد أفهمها، أو أعرف لماذا أفعلها إلا لأني ورثتها من ضمن ما ورثت!

كنت أؤدّيها دونما إحساس، ليس حبًا وشوقًا. إنما خوفا من وعيد الله.

وتوقّفت عندما لم أعد أخاف. عندما استوتْ الجنة والنار في ناظري. فلم أعد أعرف فارقا بينهما.

واليوم خِفتُ.

شعرتُ فجأة أني أحتاج الله، ضاقت عليّ نفسي بما رحبت، وانقطع رجائي في الدنيا.

غاب نَفَسي في صدري ودوّت دقات قلبي كطبول إفريقية ترتفع على غير هدى.

لم أكن أعاني نقصًا في المال، وصحّتي جيّدة للغاية، وأحبابي بخير، والدنيا تفرش لي بساط نعمتها.

لم أكن أحتاج الله ليرفع عني ضيقًا، أو يلبّي لي طلبًا من طلبات الدنيا كالعادة.. كنت أحتاج الله الطبيب، الذي يداوي جرحًا غير مرئي، لا يراه سواه، ولا يشعر به غيره، ولا يدري علّته إلاه.

توضّأت، فأسبغت الوضوء، كما لم أفعل.

رأيت رأس الجمل!

كنت أرى أمام عيني مشهدًا واحدا فقط يلف ويدور ويتكرر كأبد. يرتسم مرة على مرآة الحمام، ومرة في قطرات المياه التي تجري كأنما لن تتوقف ليومِ ألقاه: شرايين طينية طويلة عجفاء ميتة، مليئة بحفر قبيحة. تجري فيها مادة منيرة مشرقة.

ثم رأيت رأس الجمل التي رآها أبو لهب يوم أكل حق الأعرابي، فذهب لرسول الله يستصرخه، فطمأنه، وقال له اذهب لأبي لهب واطلب منه مالك، وسوف يعطيه لك صاغرا، وذهب الأعرابي، ودون كلمة أعطاه أبو لهب ماله، بعد أن رأى رأس جمل توشك أن تلتهمه لو لم يفعل!

رأيت رأس الجمل؛ فأنهيت الوضوء أسرع من البرق!  لم أكن أنوي الصلاة.. توضأت دون نيّة الصلاة، دون أي إحساس.. كنت فقط أريد أن أفعلها.

بدأتْ المرئيات تغيب عن عيني فجأة، لم أعد أسمع صوت زوجتي الذي اشتبك بأصوات بعيدة لزملاء رحلوا في ريعان الشباب. مصطفى وملك يتقافزان حولي ولا أراهما، أمي تدعوني للطعام، فتعرض الكاميرا في رأسي مشهدا لها وهي تبتعد تماما حتى تغيب عن الكادر، وتصبح نقطة بيضاء في فضاء سرمدي يتقدم مني ببطء ليبتلعني أنا الآخر فألحق بها.

لقد تركوني وحدي جميعا، كيوم خلقتُ وحدي، ويوم أموتُ وحدي، ويوم أبعثُ وحدي.

لذتُ بغرفتي.. أغلقتُ البابَ عليّ بالمفتاح.

انهرتُ أرضًا فجأة وأنا أردّد في هستيريا يا رب.. يا رب.. يا رب.. لم أجد كلمات أخرى على لساني.

ضاعت مأثورات الصلاة، التي عكفتُ أردّدها خمسة وثلاثين عاما، لأنها لم تكن من القلب. أبدًا لم تكن من القلب.. كانت لهم، وليست له.

للغارسين أقدامهم في وحل الدنيا، لا المتلفّع بنوره فوق عرش الأراضين السبع والسموات السبع.

قالوا لي الصلاة صلة بين العبد ووربه. فلم أحسّها.. قالوا أنني إذا وقفتُ بين يدي الله خمس مرات يوميا لن يصيبني عطب، كمن يذهب إلى نهر قريب من بيته فيغتسل خمس مرات.. لكنني أصبحتُ معطوبًا أغلب أيام حياتي، لا أفهم حكمة شيء، ولا أعرف لماذا خُلقت، أو ما قيمتي في كون بهذه الضخامة حتى يدين لي، ويكون في خدمتي!

أطلقتُ لحيتي وحلقتها، لبستُ الجلباب القصير وخلعته، وبعتُ رأسي أحيانًا للشيوخ الذين أخذوا شيكا على بياض من الله، ليتحدثوا باسمه. ويُدخلوا من يريدون الجنّة، ويحرّموا ريحها على من يريدون. فكفرتُ بهم.

من أنا؟

لماذا لم أعد أجد طعمًا لأي شيء، مهما اجتهدتُ وحققتُ ووصلتُ؟ لماذا لا أتوق لا لدنيا ولا لجنة، ولا أهاب نارًا وقودها الناس والحجارة؟

لماذا لا يرقّ قلبي إذا رددت آيات الله التي خاض الرسول وصحابته والرعيل الأول مئات المعارك كي تصلني؟!

أمِن  صخر قٌدَّ هذا اللعين بين جنبيّ؟!

لماذا لم أعد أشعر بتأنيب ضمير إذا ارتكبت المعاصي والذنوب، أعرف يقينا أنها ستُعرض على ملك الملوك؟! ما هذا الفراغ الذي أكاد إذا لمستُ قلبي أقبض عليه، وأجد له طولا وعرضا وارتفاعا؟!

لماذا خلقتني يا رب؟ هل حقًا خيرتني في بدء الكون، بما سألاقي وأجد، وقلت لك نعم أريد؟

أنا قلتُ فعلا لك إنني أريد هذه الحياة الدنيئة؟

أريد دليلا يا رب، ليطمئن قلبي؟ حتى إذا حاسبتني وأدخلتني جهنم لم أبالِ.

ألم يطلبها منك إبراهيم، وهو النبي؟

ألم يقل لك: أرني كيف تحيي الموتى، فلم تسخطه قردا، ولم تُحله حجرا أصم، ورددتَ عليه، عالمًا ببواطن الأمور، وخبيرا بالطين الذي نفختَ فيه من روحك، فاستوى بشرا ضعيفا عاجزا عن فهم حكمتك الكلية: أولم تؤمن؟

فقال لك خَجِلا، مُحَاذرا أن يغضبك، طامعا في كرمك، آملا في الفهم: بلى، ولكن ليطمئن قلبي؟

فطمأنت قلبه.

بلى ليطمئن قلبي يا رب.

بلى ليطمئن قلبي يا رب.

رأيته بقلبي!

اليوم صلّيتُ لك يا إلهي أرجى ركعة في حياتي، ورددت بيقين وفهم وتبتل: يارب يارب

اليوم رأيتكُ بقلبي رأي العين.. رأيتك وعرفتك.

وكلما كانت قامتي ترتفع لألتزم بحركات الصلاة وأركانها، كنت أنهار إلى الأرض، في مزيد من السجود، أمام النور الذي تجلّى، فأخذني مني، وجعلني منك.

وفهمت –لأول مرة- معنى قول الحلاج: “فما في الجُبّة غير الله”!

كنتَ هنا.. أمامي، بجلالِك، ونورك الحقيقي الذي أخفوه عني سنوات وراء المحظورات والممنوعات الذي ملئوا به عقولنا، وحشوا به قلوبنا، فاحتجبتَ، واحتجبنا، ولم نعد نفهم شيئا!!

كنتُ أبكي وأبكي ثم أضحك.. ضحكتُ يا ربي بصوت مسموع.

كطفل بين يدي ملائكة! كإبليس، إذ وصله الخبر منك أن قد عفوتَ عنه، وباتت جنتك مفتوحة أمامه، ليدخل من أي أبوابها شاء! ثم غابت الرؤية.. وسقطتُ مغشيا عليَّ.

أنا أحبك.. دون شيوخ ووسطاء.. .. دون ذقن وجلابية قصيرة

ما زلتُ لا أفهم شيئا.. لكنني اليوم أبصرت طريقي..

لم أعد أريد أن أفهم..وسأصلّي لك ..وأعلم أنك ستتقبلني كما أنا، بعيوبي وسقطاتي، وجهلي، وبشريتي، ورغبتي في الفهم والاكتشاف..

لكن..

بحق كل الأنبياء والمرسلين، بحق كتبك ورسالاتك ورحماتك التي وسعت كل شيء. تجلى على عبادك، وأظهر لهم نورك الذي أظهرتَ لي؛ فقد ابتعدوا.. ابتعدوا كثيرا..

__________________________

المصدر: بتصرف عن موقع اليوم الجديد

http://elyomnew.com/articles/17465

مواضيع ذات صلة