حياتي كلها لله.. وحياتُك أنتَ لِمَن؟!

سمع الوالد طفلَه يدندن بصوتٍ منغّم مقطع، حاول أن يستبين الألفاظ دون جدوى، سأله بملامح يغزوها الفضول عما يقوله، فأجابه الطفل: حياتي كلها لله!..

د/ حسام الدين حامد  

«ألم يخطـر لـك يوماً أن تتسـاءل عن معـنـى حياتــك؟

فضحك الدكتور عالياً ثم قال: لا وقت عندي لذلـك!»[1]

الشحاذ.. نجيب محفوظ

حياتي كلها لله

الإيمان بالله فطرة مخزنة في خلايا البشر.. يولد الطفل وفي أعماقه إدراك بوجود خالق وإله، ثم تلونه التربية والوسط المحيط.

سمع الوالد طفلَه يدندن بصوتٍ منغّم مقطع، حاول أن يستبين الألفاظ دون جدوى، سأله بملامح يغزوها الفضول عما يقوله، فأجابه الطفل: حياتي كلُّها لله!.. وقعت الكلمة على الوالد كالقنبلة، فجَّرت مخاوفه الكامنة، واعتمل في داخلِه غضبٌ يغلي، من الذي لقَّن الطفل هذه الكلمات الجازمة؟! لقد أخبر المعلّمين في المدرسة الابتدائية أنه لا يريد نقاش أية مسائل دينية مع الطفل، حرص تمام الحرص على قطع علاقته بكل المتدينين في عائلته، اختار شقةً بعيدة عن المساجد ليسكن فيها، زوجته بدورها ملحدةٌ متعصبة، فمن أين أتى الولد بهذه الدندنة؟!

سأله بحذر «أين سمعت هذه الكلمات يا آدم؟!»، فأجاب الولد بعفوية «من أصحابي!»، تغيَّر وجه الوالد ولم يُطق أن يكظم ما في داخله، فزفر زفرةً محرقة، وأدار وجهه ناحية اليمين، كحركة يفعلها لاإراديّاً وقت الغضب! سأل آدم «أبي! هل هناك مشكلة؟!»، أجابه باقتضاب وشفقة «هناك مشاكل!؟»، تغيرت نبرة الولد وبدأ بالدفاع عن نفسه وزملائه، قاطعه الوالد قائلاً «المشكلة في الكلام نفسه يا آدم! حياتك ليست لله يا آدم!».. ارتفع حاجبا آدم وهو يقول «فلأيّ شيءٍ هي؟!».. حملق الوالد طويلاً في عيني ابنه المعلقة بشفتيه، لأي شيءٍ هي؟! لأي شيءٍ هي؟!

ديانتنا.. الإنسانية!

من الأخبار الطريفة التي تداولتها وكالات الأنباء، أن الملحدين في الجيش الأمريكي يطالبون أن يكون لهم نصيبٌ من «سلاح الشؤون المعنوية»، يريدون المساواة بزملائهم المتدينين، فيكون لهم مرشدين أسوةً بقساوسة النصارى وأحبار اليهود.

 في لقاءٍ لصحيفة النيويورك تايمز مع أحد الملحدين في الجيش الأمريكي يقول: «إنّ الإنسانية بالنسبة للملحد لها نفس دور المسيحية بالنسبة للمسيحي واليهودية بالنسبة لليهودي، إنّها تجيب أسئلةً ذات أهميةٍ قصوى، وتوجّه قيمنا»! أسئلةً ذات أهميةٍ قصوى!!

بعض رؤوس الإلحاد المعاصر يتخذ موقفاً رافضاً للأسئلة عن علة الوجود ومعنى الحياة وغايتها، ولذلك فكلامهم في جوابه وتناوله قليل، ريتشارد دوكنز – على سبيل المثال – يقول: إن السؤال عن الغاية من الحياة غير مناسب بل يراه سخيفاً؛ لأنّ معنى سؤال الغاية عنده هو معرفة ما يريده الصانع والمصمم من صنعته، فيصح أن تسأل عن الغاية من آلةٍ أو جهازٍ معين، تسأل مصممها وصانعها فيجيبك بالغاية؛ الجبل مثلاً لا معنى لأن تسأل عن الغاية من وجوده، كذلك الإنسان فإنّه ليس من صنعةِ أحد، وبالتالي لا معنى للسؤال عن الغاية من وجوده، بمعنى أنّك لو كنت تعتقد أن للإنسان خالقاً، فيمكن معرفة الغاية من وجوده إن أخبرك بها خالقه، أمّا في حال إن كنتَ لا تعتقد بأن الإنسان مخلوق، فلا معنى لأن يكون لحياته غاية!

هناك طريقةٌ أخرى غير طريقة الطعن في السؤال، وهي طريقة تغيير السؤال، فبدلاً من أن تجيب سؤال «لماذا» تغيّر السؤال إلى «كيف»، بدلاً من أن تجيب سؤال «لماذا وُجد العالم؟» تحاول إجابة سؤال «كيف وُجد العالم؟».

الطريقة الثالثة في التعامل مع أسئلة العلة والغاية، تتمثل في الإقرار بعدم التوصل لجواب هذه الأسئلة حتى الآن، يقول الفيزيائي الملحد ستيفين واينبرغ: «لماذا؟ لماذا كان العالم مصنوعاً من هذه الحقول بالذات: حقول الكواركات والإلكترون والفوتون وما إلى ذلك؟ و لماذا؟

كان لها الخصائص المفترضة في النموذج المعياري؟ وبهذا الخصوص لماذا تطيع الطبيعة مبادئ النسبية و ميكانيكا الكم؟ إن هذه الأسئلة ما تزال مع الأسف بدون جواب… إنّ الأمل في الإجابة عن هذه الأسئلة هو الذي يجعل فيزياء الجسيمات العنصرية مثيرة لهذه الدرجة».

لا زالت حياتي كلها لله!

ما زال والد الطفل آدم يبحث في طرائق الملحدين فلا يجد شيئاً يقوله لابنه، إنّ معنى الحياة في ظل هذه الطرائق هو اللاجدوى كما يصفها ألبر كامو، أو الشعور بالغثيان كما يصفه سارتر، وما زالت أسئلة المجنّدين الملحدين ذات الأهمية القصوى دون جواب، حتى لو عيّن لجوابها أشهر الملحدين وأكثرهم إنتاجاً، وما زالت الأسئلة توصف بالسخف وعدم المناسبة، أو تُحرّف لأسئلةٍ أخرى عن الكيفية، أو تُجابه بجهلٍ متواضع!

الطريقة الرابعة في التعامل مع أسئلة الغاية تتمثل في الإقرار بأنّ الغاية من الحياة ككل لا معنى لها في الإلحاد، لكن يمكن البحث عنها بعض الأعمال التي يأتيها الإنسان، ويتبع لهذه الطريقة شِعب قضاء الحياة بالانغماس في الشهوات ، كذلك سام هاريس يرى أن التعامل مع الحياة يشابه التعامل مع فيلم سينمائيٍّ، لا يمنعك من الاستمتاع به والحكم عليه بالجودة والرداءة كونه مؤقتاً، وبالتالي فيمكن للمرء أن يستشعر الغاية في أعماله المؤقتة دون أي إشكال!!

يُعجبني تمثيل سام هاريس لمعنى الحياة بجودة الفيلم السينمائي، ألا ينغّص عليك مشاهدة الفيلم الممتع إدراك أنّه سينتهي؟! ألا تنطوي «النهاية السعيدة» لأي فيلمٍ على الحسرة التي تلازم النهاية؟! ثمّ من أين تحكم على الفيلم بالجودة أو الرداءة، أليس من خلال ربطه بأثره عليك بعد انتهائه؟! هل تذكر مثلاً فيلماً تافهاً شاهدته منذ عشرين عاماً لقتل الفراغ أو لمجاملة الأصدقاء؟! ألا تتمنى لو خلت حياتك من مشاهدة كلِّ فيلمٍ لا يؤثر فيها بعد انتهائه؟! حسناً.. ألا تتمنى لو خلت حياتك من كلّ فعلٍ لا يؤثر فيها بعد انتهائه؟! حسناً.. فما معنى حياتك إن كانت أجزاؤها ومجموعها لا يؤثر بعد انتهائك؟!

يقول كافكا: «مرعبٌ أن ترى من الخارج موت فتى  بالغٍ أو إقدامه على قتل نفسه، المغادرة في لحظة ارتباكٍ شامل، من غير أملٍ أو بأملٍ يتيم، يمكن أن يكون له معنى في إطار تطورٍ لاحق»، فما لك ترى لحياتك معنى وليس بعدها تطورٌ لاحق؟!

ما زال والد آدم والمجندين الأمريكيين يبحثون دون جدوى، إنّ معنى الفعل كمعنى الكلمة، لا يكون مفيداً إلا إن كان ضمن جملةٍ يتحدد المعنى من خلال موضع الكلمة فيها، فكذلك معنى الفعل لا يتحدد إلا بالقيمة التي يبعثها والأثر الذي يتركه، وغاية الخلل أن يُخلط بين المعنى والاستمتاع بالفعل، وإلّا لكان السارق والكذّاب والمنافق من أهل المعاني لمجرد أنّهم يستمتعون بلذّة الخفاء! ولكان الموت دفاعاً عن الشرف بلا معنى لأنّه كُرهٌ لا لذة فيه!! وما بال الناس تنغمس في أفعال اللذة فلا تعرف لحياتهم معنى! ولا يكف سؤال الغاية والمعنى من الحياة يتردد عقب كلّ لذّةٍ مؤقتة!

تتنوع مواقف الملحدين وتتشتت بين الطرق الأربعة السابقة بين تسخيفٍ وتحريفٍ وجهلٍ وتخليط، ينتقل أحدهم من طريقةٍ إلى أخرى بحسب السؤال، ونطاق الغاية التي يبحث عنها السائل، فإن كان السؤال عن خلق الكون مثلاً استعمل التحريف أو الاعتراف بالجهل، وإن كان السؤال عن الغاية من الحياة استعملت طريقة التسخيف أو التخليط!! لكنّها كلها طرقٌ لا تقنع سائلاً، ولا تربّي طفلاً، ولا تبني نفساً، ولا تطفئ رغبة، ولا تُنهي بحثاً!

الطريقة الخامسة في تناول أسئلة الغاية، تكون باللجوء للدّين، باعتباره باعثاً للمعنى في الحياة وإن كان غير معترفٍ به كحقيقةٍ ثابتة، تقول أستاذة النقد الفني الملحدة كاميليا باجيلا: «إنني أريد أن تُعلّم الأديان الكبرى في كلّ مدرسة، إنّ العلمانية الإنسانية قد وصلت إلى طريقٍ مسدود، وأي ليبراليٍّ لا يدرك ذلك هو ببساطة يمكّن لرد الفعل المحافِظ للأصولية في المسيحية والإسلام، إنّ بحث الإنسان عن المعنى غريزيٌّ وغير قابلٍ للاستئصال، وعندما تسقط آلهةٌ ستُخترع أخرى»!!

وإذن.. وبعد طول عناء!

يبدو أنّ والد آدم سيضطر في النهاية أن ينشد مع طفله «حياتي كلها لله!»!

الهامش:

[1]  – نجيب محفوظ، رواية الشحاذ، مطبوعات مكتبة مصر، صفحة 10.

____________________________________

­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­ المصدر: بتصرف يسير عن كتاب الإلحاد.. وثوقية التوهم وخواء العدم، مركز تفكر للبحوث والدراسات، ط1، 2015.

 

مواضيع ذات صلة