البرزخ المائي.. الحماية الإلهية لخصائص البحار والأنهار

مرج البحرين

تتضح ظاهرة البرزخ المائي في الأنهار أيضا.. توضع الصورة شريط التقاء نهري الأمازون ونيجرو في البرازيل

قال تعالى: “مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ. فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ. يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ” (الرحمن: 19-22)، وقال تعالى: “وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا” (النمل:61).

 لقد توصل علماء البحار بعد تقدم العلوم في هذا العصر إلى اكتشاف البرزخ المائي بين البحار أو ما يعرف بالحاجز بين البحرين، فوجدوا أن هناك برزخاً يفصل بين كل بحرين، ويتحرك بينهما ويسميه علماء البحار الجبهة تشبيهاً له بالجبهة التي تفصل بين جيشين. وبوجود هذا البرزخ يحافظ كل بحر على خصائصه التي قدرها الله له، ويكون مناسباً لما فيه من كائنات حية تعيش في تلك البيئة. ومع وجود هذا البرزخ فإن البحرين المتجاورين يختلطان اختلاطاً بطيئاً، يجعل القدر من المياه الذي يعبر من بحر إلى بحر آخر يكتسب خصائص البحر الذي ينتقل إليه عن طريق البرزخ الذي يقوم بعملية التقليب للمياه العابرة من بحرٍ على البحر، ليبقى كل بحرٍ محافظاً على خصائصه.

تدرج العلم البشري في اكتشاف هذا الحاجز المائي الخفي:

  • اكتشف علماء البحار أن هناك اختلافاً بين عينات مائية أخذت من البحار المختلفة في عام 1248هـ – 1873م، وكان ذلك على يد البعثة العلمية البحرية الإنجليزية في رحلة تشالنجر، فعرف الإنسان أن المياه في البحار تختلف في تركيبها عن بعضها البعض من حيث درجة الملوحة، ودرجة الحرارة، ومقادير الكثافة، وأنواع الأحياء المائية، ولقد كان اكتشاف هذه المعلومة بعد رحلة علمية استمرت ثلاثة أعوام، جابت جميع بحار العالم. وقد جمعت الرحلة معلومات من 362 محطة مخصصة لدراسة خصائص المحيطات. وملئت تقارير الرحلة 29500 صفحة في خمسين مجلداً استغرق إكمالها 23 عاماً. وإضافة إلى كون الرحلة أحد أعظم منجزات الاستكشاف العلمي فإنها أظهرت كذلك ضآلة ما كان يعرفه الإنسان عن البحر.
  • بعد عام 1933م قامت رحلة علمية أخرى أمريكية في خليج المكسيك، ونشرت مئات المحطات البحرية، لدراسة خصائص البحار، فوجدت أن عدداً كبيراً من هذه المحطات تعطي معلومات موحدة عن خصائص الماء في تلك المنطقة، من حيث الملوحة والكثافة والحرارة والأحياء المائية وقابلية ذوبان الأوكسجين في الماء، بينما أعطت بقية المحطات معلومات موحدة أخرى عن مناطق أخرى، مما جعل علماء البحار يستنبطون وجود بحرين متمايزين في الصفات لا مجرد عينات محدودة كما علم من رحلة تشالنجر.
  • وأقام الإنسان مئات المحطات البحرية لدراسة خصائص البحار المختلفة، فقرر العلماء أن الاختلاف في هذه الخصائص يميز مياه البحار المختلفة بعضها عن بعض، ولكن لماذا لا تمتزج البحار وتتجانس رغم تأثير قوتي المد والجزر التي تحرك مياه البحار مرتين كل يوم وتجعل البحار في حالة ذهاب وإياب، واختلاط واضطراب، على جانب العوامل الأخرى التي تجعل مياه البحر متحركة مضطربة على الدوام مثل الموجات السطحية والداخلية والتيارات المائية والبحرية؟

ولأول مرة يظهر الجواب على صفحات الكتب العلمية في عام 1361هـ 1942م . فقد أسفرت الدراسات الواسعة لخصائص البحار عن اكتشاف حواجز مائية تفصل بين البحار الملتقية، وتحافظ على الخصائص المميزة لكل بحر من حيث الكثافة والملوحة، والأحياء المائية، والحرارة ، وقابلية ذوبان الأوكسجين في الماء وبعد عام 1962م عرف دور الحواجز البحرية في تهذيب خصائص الكتل العابرة من بحر إلى بحر لمنع طغيان أحد البحرين على الآخرين فيحدث الاختلاط بين البحار الملحة، مع محافظة كل بحر على خصائصه وحدوده المحدودة بوجود تلك الحواجز.

  • وأخيراً تمكن الإنسان من تصوير هذه الحواجز المتحركة المتعرجة بين البحار الملحة عن طريق تقنية خاصة بالتصوير الحراري بواسطة الأقمار الصناعية، والتي تبين أن مياه البحار وإن بدت جسماً واحداً، إلا أن هناك فروقاً كبيرة بين الكتل المائية للبحار المختلفة، تظهر بألوان مختلفة تبعاً لاختلافها في درجة الحرارة.

وقد تطلب الوصول إلى حقيقة وجود الحواجز بين الكتل البحرية، وعملها في حفظ خصائص كل بحر قرابة مائة عام من البحث والدراسة، اشترك فيها المئات من الباحثين، واستخدم فيها الكثير من الأجهزة ووسائل البحث العلمي الدقيقة.

بينما جلى القرآن الكريم هذه الحقيقة قبل أربعة عشر قرناً، قال تعالى: “مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ. فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ” (الرحمن: 19-22)، وقال تعالى: “وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا” (النمل:61)

فمن الذي كان يعلم أن البحار الملحة تتمايز فيما بينها رغم اتحادها في الأوصاف الظاهرة التي تدركها الأبصار والحواس، فكلها ملحة، زرقاء، ذات أمواج ، وفيها الأسماك وغيرها، وكيف تتمايز وهي تلتقي مع بعضها؟.

والمعروف أن المياه إذا اختلطت في إناء واحد تجانست، فكيف وعوامل المزج في البحار كثيرة من مد وجزر وأمواج وتيارات وأعاصير؟ والآية تذكر اللقاء بين بحرين ملحين يختلف كل منهما عن الآخر، إذ لو كان البحران لا يختلف أحدهما عن الآخر لكانا بحراً واحداً، ولكن التفريق بينهما في اللفظ القرآني دال على اختلاف بينهما مع كونهما ملحين.

و”مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ” أي أن البحرين مختلطان، وهما في حالة ذهاب وإياب واختلاط واضطراب في منطقة الالتقاء، كما تدل اللغة على ذلك بلفظ  مرج، وهذا ما كشفه العلم من وصف لحال البرزخ الذي يكون متعرجاً ومتنقلاً في الفصول المختلفة بسبب المد والجزر والرياح. ومن يسمع هذه الآية فقط، يتصور أن امتزاجاً واختلاطاً كبيراً يحدث بين هذه البحار يفقدها خصائصها المميزة لها، ولكن العليم الخبير يقرر في الآية بعدها “بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ” أي ومع حالة الاختلاط والاضطراب هذه التي توجد في البحار، فإن حاجزاً يحجز بينهما يمنع كلاً منهما أن يطغى ويتجاوز حده.

      وهذا ما شاهده الإنسان بعدما تقدم في علومه وأجهزته، فقد وجد ماءً ثالثاً حاجزاً بين البحرين يختلف في خصائصه عن خصائص كل منهما. ومع وجود البرزخ فإن ماء البحرين المتجاورين يختلطان ببطء شديد، ولكن دون أن يبغي أحد البحرين على الآخر بخصائصه، لأن البرزخ منطقة تقلب فيها المياه العابرة من بحر إلى آخر لتكتسب المياه المتنقلة بالتدريج صفات البحر الذي ستدخل إليه، وتفقد صفات البحر الذي جاءت منه، وبهذا لا يبغي بحر على بحر آخر بخصائصه، مع أنهما يختلطان أثناء اللقاء.

وقد أشكل على بعض المفسرين الجمع بين اختلاط مياه البحار مع وجود البرزخ، إذ أن وجود البرزخ الحاجز يقتضي منع الاختلاط، وذكر الاختلاط يقتضي عدم وجود البرزخ، وقد زال الإشكال اليوم باكتشاف أسرار البحر على حقائقها.

أوجه الإعجاز في الآيات السابقة:

مما سبق يتبين:

  • أن القرآن الكريم الذي أنزل قبل أكثر من 1400 سنة قد تضمن معلومات دقيقة عن ظواهر بحرية لم تكتشف إلا حديثاً بواسطة الأجهزة المتطورة، ومن هذه المعلومات وجود حواجز مائية بين البحار.
  • يشهد التطور التاريخي في سير علوم البحار بعدم وجود معلومات دقيقة عن البحار وبخاصة  قبل رحلة  تشالنجر عام 1873م فضلاً عن وقت نزول القرآن  قبل ألف وأربعمائة سنة الذي نزل على نبي أمي عاش في بيئة صحراوية ولم يركب البحر.
  • كما أن علوم البحار لم تتقدم إلا في القرنين الأخيرين وخاصة في النصف الأخير من القرن العشرين. وقبل ذلك كان البحر مجهولاً تكثر عنه الأساطير والخرافات، وكل ما يهتم به راكبوه هو السلامة والاهتداء إلى الطريق الصحيح أثناء رحلاتهم الطويلة، وما عرف الإنسان أن البحار الملحة بحار مختلفة إلا في الثلاثينات من هذا القرن، بعد أن أقام الدارسون آلاف المحطات البحرية لتحليل عينات من مياه البحار، وقاسوا في كل منها الفروق في درجات الحرارة، ونسبة الملوحة، ومقدار الكثافة، ومقدار ذوبان الأوكسجين في مياه البحار في كل المحطات فأدركوا بعدئذ أن البحار الملحة متنوعة.
  • ما عرف الإنسان البرزخ الذي يفصل بين البحار الملحة، إلا بعد أن أقام محطات الدراسة البحرية المشار إليها، وبعد أن قضى وقتاً طويلاً في تتبع وجود هذا البرازخ المتعرجة المتحركة، التي تتغير في موقعها الجغرافي بتغير فصول العام.
  • وما عرف الإنسان أن مائي البحرين منفصلان عن بعضهما بالحاجز المائي، ومختلطان في نفس الوقت إلا بعد أن عكف يدرس بأجهزته وسفنه حركة المياه في مناطق الالتقاء بين البحار، وقام بتحليل تلك الكتل المائية في تلك المناطق.
  • وما قرر الإنسان هذه القاعدة على كل البحار التي تلتقي إلا بعد استقصاء ومسح علمي واسع لهذه الظاهرة التي تحدث بين كل بحرين في كل بحار الأرض.

فهل كان يملك رسول الله تلك المحطات البحرية، وأجهزة تحليل كتل المياه، والقدرة على تتبع حركة الكتل المائية المتنوعة؟!

وهل قام بعملية مسح شاملة، وهو الذي لم يركب البحر قط، وعاش في زمن كانت الأساطير هي الغالبة على تفكير الإنسان وخاصة في ميدان البحار؟!

وهل تيسر لرسول الله في زمنه من أبحاث وآلات ودراسات ما تيسر لعلماء البحار في عصرنا الذين اكتشفوا تلك الأسرار بالبحث والدراسة؟

إن هذا العلم الذي نزل به القرآن يتضمن وصفاً لأدق الأسرار في زمن يستحيل على البشر فيه معرفتها ليدل على مصدره الإلهي، كما قال تعالى، كما قال تعالى: “قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا” (الفرقان:6)

كما يدل على أن الذي أنزل عليه الكتاب رسول يوحى إليه وصدق الله القائل: “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (فصلت:53).

__________________________

المصدر: كتاب آيات الإعجاز العلمي من وحي الكتاب والسنة، عبد الرحمن سعد صبي الدين، دار المعرفة، بيروت، ط1، 2008، ص: 104 بتصرف

مواضيع ذات صلة