من هو الخالق؟.. عقلُك يدُلك عليه

جعفر شيخ إدريس

الله

أوصلنا الدليل العقلي إلى وجود خالق للكون؛ فمن هو هذا الخالق؟

أوصلنا الدليل العقلي إلى وجود خالق للكون؛ فمن هو هذا الخالق؟ إنه لا يمكن عقلاً أن يكون شيئاً غير الإله الحق الذي تدركه الفطرة والتي دعت إلى عبادته رسل الله، أي أن الخالق الذي أوصلنا إليه الدليل العقلي هو الخالق نفسه الذي يحدثنا عنه النص الديني، ولا غرابة في ذلك؛ لأن الله الذي خلق الكون وجعله دليلاً على وجوده، هو الذي أنزل الكتاب مصدقاً لشهادة الكون ومفصلاً لها.

وإليك أدلة ذلك:

لقد استنتجنا من وجود الأشياء الحادثة وجود خالق لها وبعض صفات هذا الخالق، ويمكن أن نستنتج من تلك الصفات صفات أخرى هي صفات الخالق الحق سبحانه، من هذه الصفات:

أولاً: صفة الخالقية نفسها، وهي التي وردت في مثل قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (الزمر: 62

(هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ) (الحشر: 24).

ثانياً: كونه أزلياً.

لكن هناك صفات أخرى يمكن استنتاجها عقلياً من هاتين الصفتين، وصفات يمكن استنتاجها من تلك الصفات المستنتجة، نذكر بعضها فيما يلي:

ثالثاً: صفة الأبدية.

وما أسميناه بالأزلية والأبدية هما الصفتان الواردتان في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (الحديد:3)

فالله تعالى سابق في وجوده لكل موجود سواه فهو بهذا المعنى أول، وباق بعد زوال كل مخلوق زائل فهو بهذا المعنى آخر. و إلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ.وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) (الرحمن: 26-27)

وإليه يشير قول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) (رواه مسلم).

رابعاً: وإذا كان كل ما في الوجود –ما عدا الموجود الأزلي– حادثاً، وكان هو سبباً لكل حادث؛ فلا حادث يعتمد اعتماداً كلياً على حادث غيره، لا في مجيئه إلى عالم الوجود، ولا في استمراره موجوداً. وإذا فكما أن الموجود الأزلي خالق الحوادث وموجدها، فهو حافظها وراعيها؛ وهذا هو معنى الربوبية. فالله -تعالى- خالق بمعنى أنه يكوِّن الأشياء ويوجدها، وهو أيضاً ربٌّ وحافظ ومقيت .. إلخ، بمعنى أنه الذي تعتمد عليه المخلوقات في استمرار وجودها.

وهذا هو المعني بآيات مثل قوله تعالى: “وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ (الحج:65)، “وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ” (البقرة: 255)، “وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا (هود:6)

وإذا كان كل شيء سواه مخلوقاً له، فهو معتمد في استمرار وجوده عليه.

وهذا معنى صفة القيُّومية التي وردت في مثل قوله تعالى: “اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ” (البقرة:255)، “وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ” (طه:111)

لأن القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره.

خامساً: الأحدية. الخالق الأزلي الأبدي القيوم لا بد وأن يكون واحداَ، واحداً في ذاته وصفاته، فلا ثاني له يماثله، وواحداَ في أفعاله، لا يشركه في فعلها شيء، لأنه لو أشركه: فإما أن يكون الأثر معتمداً عليهما معاً، بحيث إن أحدهما لا يستطيع الاستقلال به، وفي هذه الحال يكون كل منهما عاجزاً معتمداً في فعله على غيره؛ لأن كلا منهما ما كان ليستطيع الفعل لولا موافقة الآخر أو مساعدته، لكن الدليل ساقنا من قبل إلى أن ما كان أزلياً لابد أن يكون قائماً بنفسه مستقلاً عن غيره، وإذن فالذي يعتمد في فعله على غيره لا يكون أزلياً بل يلزم أن يكون حادثاً.

وإما أن يضاد عمل أحدهما عمل الآخر، وبذلك، ومن باب أولى، تنتفي عنهما صفة الأزلية. هذا الدليل هو الذي كان يسميه نظار المسلمين دليل (التمانع).

وأيضاً فلا بد أن يعلو بعضهم على بعض؛ فإن ما ذكرناه من جواز تمانعهما، إنما هو مبني على جواز اختلاف إرادتهما، وذلك أمر لازم من لوازم كون كل منهما قادراً؛ فإن كانا قادرين، لزم جواز اختلاف الإرادة.

بين الخلق والخالق

ننتقل الآن إلى الحديث عن الخلق فنقول: الأمور التي نتحدث عنها نوعان: نوع له وجود خارجي مستقل عن أذهاننا، فهو موجود سواء علم الناس أو غيرهم من المخلوقات بوجوده أم لم يعلموا، ونوع لا وجود له إلا في أذهاننا؛ فهو لا يوجد إلا إذا وجدت الأذهان. وليس هنالك من نوع ثالث، وإنما هو العدم المحض.

مثال النوع الأول: هذه المخلوقات التي نشاهدها من أناس وحيوانات وبحار وأنهار، وما لا نشاهده كالمخلوقات التي تسكن قاع البحار، وكالمخلوقات التي أخبرنا عنها ربنا ولم نرها من ملائكة وجن، وجنة ونار.

ومثال النوع الثاني: ما يتعاورنا من أحوال نفسية من سرور وحزن، وحب وكراهية، ورجاء ويأس؛ وما نستحدثه بخيالنا من كائنات كالغول والعنقاء؛ وما نتصوره معان مجردة كالزيادة والنقصان؛ وما نجرده من الموجودات كجنس المادة وجنس الإنسان، أعني المادة التي لا تتصف بصفة من الصفات، والإنسان الذي يشار إليه ببنان.

الموجودات كلها- سواء ما كان منها له وجود حقيقي موضوعي أو وجود ذهني- لها خصائص تميزها عن المعدومات. أهم هذه الخصائص كونها توصف بصفات ثبوتية؛ فالنهر عميق أو ضحل، طويل أو قصير، كثير التعرج أو قليله، والفكرة التي في الذهن واضحة أو غامضة، معقدة أو بسيطة، حسنة أو خبيثة.

فالموجودات كلها تتميز إذن عن المعدومات بكون الأخيرة لا يمكن أن توصف بصفة ثبوتية، ويمكن أن توصف بما لا نهاية له من الصفات السلبية. فإذا لم يكن الشيء موجوداً، بل كان معدوماً، أمكن بأن نقول عنه إنه ليس بطويل ولا قصير، ولا فوق ولا تحت، ولا في هذه الجهة ولا تلك، ولا مادة ولا روح، ولا تراه الأعين ولا تسمعه الآذان، ولا تلمسه الأيدي ولا تشمه الأنوف، ولا يتحرك

ولا يسكن، وهكذا وهكذا إلى ما لا نهاية له من هذه السلوب.

وللموجودات الخارجية الموضوعية خصائص تميزها ليس عن المعدومات فحسب، بل عن الموجودات الذهنية – إن صحت تسميتها بالموجودات. مما يميزها كونها لها ذوات تَحْمِل صفاتها، ولها صور تميز كلاً منها عن غيره من الموجودات. ومن أهم خصائصها كونها مما يمكن -من حيث المبدأ- مشاهدته والإشارة إليه؛ فهي بهذه الصفة كلها محسوسات، وما لا يمكن مشاهدته على الإطلاق، وتحت أي ظرف من الظروف، وبأي موجود من الموجودات؛ فلا وجود حقيقي له، بل إما أن يكون عدمًا أو يكون أمراً ذهنياً مجرداً.

والآن ماذا نقول عن الخالق؟

إنه لا يمكن أن يكون عدماً؛ هذا أمر بديهي. وإذا لم يكن عدماَ فلا بد أن يوصف بصفات ثبوتية، ولا يمكن أن يكون ذا وجود ذهني مجرد؛ لأنه هو خالق الأذهان فوجوده سابق لوجودها.

لم يبق إذن إلا أن نقول إنه ذو وجود خارجي حقيقي موضوعي. وإذا قلنا ذلك لزمنا القول بأنه شيء، وأن له ذاتاً تحمل صفاته، وأن له شخصاً، وأن له صورة، وأن له كيفاً يتميز به عن مخلوقاته. وإذا كان كذلك لزم إمكان رؤيته، والإشارة إليه؛ لماذا؟

لأن هذه صفات لازمة لكل موجود، خالقاً كان أم مخلوقاً، فما لا يتصف بها لا يكون موجوداً حقيقياً ودعك أن يكون خالقاً.

أعلم أن بعض الناس سيقف شعرهم مما قلت؛ لأن بعض الأفكار الفلسفية المادية وجدت طريقها مع الأسف الشديد إلى الفكر الإسلامي منذ زمن بعيد فأفسدت على الناس فطرتهم، ثم أفسدت عليهم عقولهم فجعلتهم يأنسون إلى ما تنفر منه الطباع الفطرية، ويقررون ما تنكره العقول السوية.

أصل هذه الفلسفة المادية التي تأثرت بها بعض الفرق، أن الموجود حقيقة هو هذه المخلوقات المادية المشاهدة، فإذا كان الشيء موجوداً فلا بد أن يكون مثلها وإلا فما هو بموجود.

أليس من حق الملحد المنكر لوجود الخالق أن يقول لأمثال هؤلاء: ما الفرق الحقيقي بيني وبينكم؟! إنكم تصفون هذا المعدوم بكونه خالقاً، وأنا أقول مادام معدوماً فليس هناك من خالق. لكن إذا اتفقنا على الحقائق فلا مشاحة في الألفاظ.

أما وقد بيَّنا أن هذا الموقف التعطيلي من صفات الخالق ليس موقفاً عقلانياً، فقد آن أن نبيِّن أنه -أيضاً- ليس موقفاً إسلامياً؛ لأنه يخالف صريح النصوص القرآنية والسنِّية، ولأن تأويلاته تخالف قواعد اللغة التي نزلت بها تلك النصوص.

كيف؟

الصفات التي دللنا عليها بالعقل والشرع يلزم أن تكون ثبوتية حقيقية.

العلاقة بين الذوات وبعض الصفات علاقة ضرورية؛ أي أنه إذا كانت هنالك ذات أو ذوات فلا جرم أن تكون لها صفات، وإذا كانت هنالك صفات وجودية فلا جرم تحملها ذات؛ فالصفات لا تكون مجردة عن الذوات ولا الذوات مجردة عن الصفات إلا في الأذهان. أما الواقع المعاين فلا يعرف صفات مجردة ولا ذوات مجردة.

_________________________

المصدر: بتصرف يسير عن كتاب “الفيزياء ووجود الخالق” للكاتب

مواضيع ذات صلة