العالمات المسلمات.. أسماء محفورة في ذاكرة الزمن!

قبل أيام قرأتُ إحدى المقالات التي تدَّعي نُصرة المرأة المسلمة، وبيان فضلها ومكانتها، لكن المُلاحظ في ثنايا المقال.. كان الإشارة إلى تعمد إغفال المؤرخين و كُتاب السير لذلك الدور، وعدم تسليط الضوء على كنوز المرأة المسلمة في مجالات العلوم والآداب المختلفة.. غير أن المقال التالي قدم لنا إنصافا واضحا لهم من خلال عرضه لما دُوِّن عن الشيخات والعالمات المسلمات في مجالات عديدة[1].

مصطفى عاشور

المسلمات

كان للمرأة المسلمة حضور بارز في المجتمع العلمي الإسلامي؛ فكانت تتعلم، وتعلم، وترحل لطلب العلم، ويقصدها الطلاب لأخذ العلم عنها، وتصنف الكتب، وتفتي، وتستشار في الأمور العامة، كان المجال مفتوحًا أمامها تظله الشريعة الغراء، ويرعاه العفاف والطهر.

كان للمرأة حضور في المجتمع منذ اللحظة الأولى لظهور الإسلام؛ فالسيدة خديجة بنت خويلد (رضي الله عنها) هي أول من آمن بالنبي (صلى الله عليه وسلم) على الإطلاق، وكانت ملاذًا وحصنًا منيعًا للدعوة الإسلامية حتى وفاتها في العام العاشر من البعثة، وهو العام الذي سماه النبي (صلى الله عليه وسلم) بعام الحزن.

كذلك كانت المرأة أول من ضحّت بنفسها في سبيل الله؛ فالسيدة سمية بنت خياط (رضي الله عنها) هي أول شهيدة في الإسلام.

كما كانت المرأة أول من هاجر في سبيل الله؛ فالسيدة رقية بنت محمد (صلى الله عليه وسلم)، هي أول من هاجرت إلى الله تعالى مع زوجها عثمان بن عفان (رضي الله عنه) بعد نبي الله “لوط” (عليه السلام)، كما أخبر الحديث الشريف.

ولم يقتصر عطاء المرأة المسلمة على الإيمان والهجرة والتضحية فقط، بل امتد هذا العطاء إلى المجال العلمي والتعليمي، فظهرت الفقيهة والمُحدثة والمفتية، التي يقصدها طلاب العلم، ويأخذ عنها بعض أساطين العلماء، وتُستفتى في بعض الأمور التي تخص عامة المسلمين، وظهر من العالمات المسلمات من تعقد مجالس العلم في كبريات المساجد الإسلامية، ويحضر لها الطلاب من الأقطار المختلفة، وعُرف عن بعض الفقيهات والمحدثات المسلمات أنهن أكثرن من الرحلة في طلب العلم إلى عدد من المراكز العلمية في مصر والشام والحجاز حتى صرن راسخات القدم في العلم والرواية، وكان لبعضهن مؤلفات وإسهامات في الإبداع الأدبي.

حجراتهن منارات

ففي صدر الإسلام كانت أمهات المؤمنين وعدد من كبار الصحابيات من رواد الحركة العلمية النسائية، وكانت حجرات عدد من أمهات المؤمنين الفضليات منارات للإشعاع العلمي والثقافي والأدبي، وتأتي أم المؤمنين عائشة (رضي الله عنها) في الذروة والمقدمة، فكانت من الفصيحات البليغات العالمات بالأنساب والأشعار، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يستمع منها إلى بعض ما ترويه من الشعر.

أما في مجال رواية الحديث النبوي الشريف فهي من المكثرات من الرواية عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وتأتي في المرتبة الثالثة من حيث الإكثار من الرواية؛ إذ روت حوالي (2210) حديثًا، وتروي بعض الآثار أن عائشة عندها نصف العلم؛ لذا كانت مقصد فقهاء الصحابة عندما تستعصي عليهم بعض المسائل العلمية والفقهية، خاصة فيما يتعلق بجوانب حياة النبي (صلى الله عليه وكانت عائشة توسلم)، حث سائلها ألا يستحي من عرض مسألته، وتقول له “سل فأنا أمك”.

وقد أخذ عنها العلم حوالي (299) من الصحابة والتابعين، منهم (67) امرأة.

أما أم سلمة (رضي الله عنها) فكانت كما وصفها الذهبي “من فقهاء الصحابيات”، وممن روى كثيرًا من الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم)، وروى عنها كثير من الصحابة والتابعين بلغوا حوالي (101)، منهم (23) امرأة.

وتتعدد أسماء الصحابيات والتابعيات اللاتي اشتهرن بالعلم وكثرة الرواية، وتحفل كتب الحديث والرواية والطبقات بالنساء اللاتي روين وروي عنهن الحديث الشريف، مثل: أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأسماء بنت عميس، وجويرية بنت الحارث، وحفصة بنت عمر، وزينب بنت جحش (رضي الله عنهن).

تصنع العلماء أيضًا

ولم يغفل كبار كتاب الطبقات الترجمة للمرأة المسلمة خاصة في الرواية، فمحمد بن سعد ذكر كثيرًا من الصحابيات والتابعيات الروايات في كتابه “الطبقات الكبرى”، و”ابن الأثير” خصص جزءًا كاملاً للنساء في كتابه “أسد الغابة”، وفي كتاب “تقريب التهذيب” لابن حجر العسقلاني ذكر أسماء (824) امرأة ممن اشتهرن بالرواية حتى مطلع القرن الثالث الهجري.

وقد ساهمت المرأة العاملة بأناملها الرقيقة في صناعة وتشكيل كثير من كبار العلماء؛ فالمؤرخ والمحدث الشهير “الخطيب البغدادي” صاحب كتاب “تاريخ بغداد” سمع من الفقيهة المحدثة “طاهرة بنت أحمد بن يوسف التنوخية” المتوفاة (436هـ). وكانت “أمة الواحد بنت الحسين بن إسماعيل” المتوفاة (377هـ) من أفقه الناس في المذهب الشافعي، وكانت على علم بالفرائض والحساب والنحو، وكانت تفتي ويكتب عنها الحديث، أما “جليلة بنت علي بن الحسن الشجري” في القرن الخامس الهجري، فكانت ممن رحلن في طلب الحديث في العراق والشام وسمع منها بعض كبار العلماء كالسمعاني، وكانت تعلم الصبيان القرآن الكريم.

وكانت “زينب بنت مكي بن علي بن كامل الحراني” المتوفاة سنة (688هـ) من النساء اللاتي قضين عمرهن كله في طلب الحديث والرواية، وازدحم الطلاب على باب بيتها في سفح جبل قاسيون بدمشق، فسمعوا منها الحديث، وقرأوا عليها كثيرًا من الكتب. أما “زينب بنت يحيى بن العز بن عبد السلام” المتوفاة (735هـ) فقد تفردت برواية المعجم الصغير بالسماع المتصل، وقال عنها مؤرخ الإسلام “شمس الدين الذهبي” إنه كان فيها خير وعبادة وحب للرواية بحيث أنه قُرئ عليها يوم موتها عدة أجزاء، وكانت “زينب بن أحمد بن عمر الدمشقية” المتوفاة (722هـ) من المحدثات البارعات ذات السند في الحديث، ورحل إليها كثير من الطلاب.

عالمات يتكسبن بالخياطة

ويحكي الرحالة العظيم “ابن بطوطة” أنه في رحلته زار المسجد الأموي بدمشق، وسمع فيه من عدد من محدثات ذلك العصر، مثل “زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم”، وكانت امرأة ذات قدم راسخ في العلم والحديث، و”عائشة بنت محمد بن المسلم الحرانية” التي كان لها مجلس علم بالمسجد، وكانت تتكسب بالخياطة، وقرأ عليها “ابن بطوطة” عددًا من الكتب.

وقد تفردت بعض المحدثات ببعض الروايات، مثل “زينب بنت سليمان بن إبراهيم” المتوفاة (705هـ)، والتي أخذ العلم عنها “تقي الدين السبكي”، كما أجازت بعض العالمات المحدثات لعدد من كبار العلماء، فزينب بنت عبد الله بن عبد الحليم بن تيمية المتوفاة (725هـ) أجازت “ابن حجر العسقلاني” الذي روى –أيضًا- عن “عائشة بنت محمد بن عبد الهادي” التي كانت ذات سند قويم في الحديث، وحدّث عنها خلق كثير، وكانت توصف بأنها سهلة الإسماع لينة الجانب، وروت عن محدثتين هما: “ست الفقهاء بنت الواسطي”، و”زينب بنت الكمال”.

وقد أورد “ابن حجر” في كتابه “المعجم المؤسس للمعجم المفهرس” كثيرًا من شيخاته اللاتي أخذ عنهن العلم، وعن اشتراكه في السماع عن الشيوخ مع بعضهن، ووصف بعضهن بأنها مصنفة وهي عائشة بن عبد الله الحلبية”. وأورد الإمام “الذهبي” قبله في كتابه “معجم شيوخ الذهبي” كثيرًا من شيخاته، وكان يقول عن بعضهن “توفيت شيختنا”.

وكان للنساء دور بارز في تثقيف وتربية الفقيه والعالم الجليل “ابن حزم الأندلسي”؛ حيث علمنه القرآن الكريم والقراءة والكتابة والشعر وظل في رعايتهن حتى مرحلة البلوغ، ويحكي تجربته فيقول: “ربيت في حجر النساء، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب.. وهن علمنني القرآن، وروينني كثيرًا من الأشعار، ودربنني في الخط”، وكان لهذه التربية والتثقيف أثرها الكبير في ذوقه وشخصيته.

زوجة فقيه

المسلمات

تولت بعض هؤلاء العالمات مشيخات بعض الأربطة، مثل “زين العرب بنت عبد الرحمن بن عمر” المتوفاة سنة (704هـ) التي تولّت مشيخة رباط السقلاطوني، ثم مشيخة رباط الحرمين.

وتأتي العالمة الجليلة “فاطمة بنت محمد بن أحمد السمرقندي” لتحتل المكانة العالية الرفيعة في الفقه والفتوى، وتصدرت للتدريس وألفت عددًا من الكتب، وكان الملك العادل “نور الدين محمود”، يستشيرها في بعض أمور الدولة الداخلية، ويسألها في بعض المسائل الفقهية، أما زوجها الفقيه الكبير “الكاساني” صاحب كتاب “البدائع” فربما هام في الفتيا فترده إلى الصواب وتعرفه وجه الخطأ فيرجع إلى قولها، وكانت تفتي ويحترم زوجها فتواها، وكانت الفتوى تخرج وعليها توقيعها وتوقيع أبيها وزوجها، فلما مات أبوها كانت توقع على الفتوى هي وزوجها “الكاساني” لرسوخها في العلم وفقهها الواسع. أورد “السخاوي” في موسوعته الضخمة “الضوء اللامع لأهل القرن التاسع” أكثر من (1070) ترجمة لنساء برزن في ذلك القرن، معظمهن من المحدثات الفقيهات.

أما العالم الموسوعي “جلال الدين السيوطي” فكان لشيخاته دور بارز في تكوينه العلمي، فأخذ عن “أم هانئ بنت الهوريني” التي لقّبها بالمسند، وكانت عالمة بالنحو، وأورد لها ترجمة في كتابه “بغية الوعاة في أخبار النحاة”، وأخذ –أيضًا- عن “أم الفضل بنت محمد المقدسي” و”خديجة بنت أبي الحسن المقن” و”نشوان بنت عبد الله الكناني” و”هاجر بنت محمد المصرية” و”أمة الخالق بنت عبد اللطيف العقبي”، وغيرهن كثير.

وعرفت تلك الفترة من التاريخ عالمة وأديبة عظيمة هي “عائشة الباعونية” التي كانت من الصوفيات والشاعرات المجيدات، وكانت تتبادل قصائد الشعر الصوفي مع أدباء عصرها، ووصفها الغزي في كتابه “الكواكب السائرة في أخبار المائة العاشرة” بقوله: “إنها العالمة العاملة الصوفية الدمشقية أحد أفراد الدهر، ونوادر الزمان، فضلاً وعلمًا وأدبًا وشعرًا وديانة وصيانة”، وكان لها عدد غير قليل من المصنفات والدواوين والقصائد الصوفية.

لم تكن حبيسة المنزل

وقد تولت بعض هؤلاء العالمات مشيخات بعض الأربطة، مثل “زين العرب بنت عبد الرحمن بن عمر” المتوفاة سنة (704هـ) التي تولّت مشيخة رباط السقلاطوني، ثم مشيخة رباط الحرمين.

ولم تكتف العالمة المسلمة بالعطاء العلمي في أوقات السلم والرخاء، ولكنها كان لها عطاء علمي بارز في أشد أوقات المحن والأزمات، فعندما سقطت قلاع الإسلام في الأندلس وفُرض على المسلمين التنصر، ومارست محاكم التحقيق أشد وأبشع أنواع التعذيب ضد المسلمين، اضطر بعض الناس إلى إظهار التنصر وإخفاء الإسلام، ورغم هذه السياسات الأسبانية القصرية، فإن المسلمين هناك كانوا يمارسون نشاطهم العلمي، وكانت هناك امرأتان يمثلان المرجعية العليا للمسلمين في علوم الشريعة حيث تخرج على أيديهن كثيرًا من الدعاة المسلمين الذين حفظوا وحملوا الإسلام سنوات، وهما “مسلمة أبده” و”مسلمة آبلة” حيث تخرج عليهما الفقيه “أبيرالو” المورسكي الذي ألف كثيرًا من كتب التفسير والسنة باللغة الألخميادية التي ابتدعها المسلمون هناك.

وبعد فالمرأة المسلمة كان لها حضور بارز في المجتمع العلمي الإسلامي، فكانت تتعلم، وتعلم، وترحل لطلب العلم، ويقصدها الطلاب لأخذ العلم عنها، وتصنف الكتب، وتفتي، وتستشار في الأمور العامة، ولم تكن حبيسة منزل أو حجرة، أو أسيرة في مهنة معينة، بل كان المجال مفتوحًا أمامها تظله الشريعة الغراء، ويرعاه العفاف والطهر.

الهامش:

[1] – أضافة المحررة


المصدر: منتدى أهل الحديث

مواضيع ذات صلة