لا يمكن تصنيف شكوك الملحدين على أنها مجرد مكر أو استعلاء أو استعراض لمعلومات علمية مبتورة أو عضلات فكرية خاوية؛ فبعض الشكوك قد تكون بحثا صادقا عن الحقيقة في أسئلة تَعرض للبشر جميعا يتجاوزها البعض، ويتوقف أمامها الباقون محاولون الفهم.[1]
د. مصطفى محمود
-
قال صاحبي: تقول أن القرآن لا يتناقض مع نفسه فما بالك بهذه الآية :“فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” (الكهف:39) و الآية الأخرى التي تنقضها : “وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ” (الإنسان:30)
- ثم نجد القرآن يقول عن حساب المذنبين إنهم سوف يسألون: “سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ“(الزخرف:19)، ومرة أخرى يقول:”وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ” (القصص:78)
- وأنهم سوف يُعرفون بسيماهم: “يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ” (الرحمن:41)
- ومرة يقول إنه لا أحد سوف يشد وثاق المجرم. “وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ” (الفجر:26).
** قلت له: هذه ليست تناقضات.. و لنفكر فيها معاً، فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر.. آية صريحة تشير إلى حرية العبد و اختياره.. و لكن هذه الحرية لم نأخذها من الله غصباً و غلاباً.. و إنما أعطاها إيانا بمشيئته.. فتأتي الآية الثانية لتشرح ذلك فتقول: وما تشاءون إلا أن يشاء الله؛ أي أن حرية العبد “ضمن” مشيئة الرب و ليست ضدها..
أي أن حرية العبد يمكن أن تناقض الرضا الإلهي فتختار المعصية ولكنها لا يمكن أن تناقض المشيئة.. فهي تظل دائماً ضمن المشيئة، ولو خالفت الرضا.. و هي نقطة دقيقة.. و قلنا إن التسيير الإلهي هو عين التخيير؛ لأن الله يختار للعبد من جنس نيته و قلبه.. و معنى ذلك أنه يريد للعبد نفس ما أراد العبد لنفسه بنيته و اختيار قلبه… أي أن العبد مسير إلى ما اختار.. و معنى ذلك أنه لا إكراه و أنه لا ثنائية و لا تناقض.. و أن التسيير هو عين التخيير.. و هي مسألة من أدق المسائل في فهم لغز المخير و المسير.. و ما تسميه أنت تناقضاً هو في الحقيقة جلاء ذلك السر.
أما الآيات الواردة عن الحساب فإن كل آية تعنى طائفة مختلفة، فهناك من سوف يُسأل و تطلب شهادته، وهناك من ستكون ذنوبه من الكثرة بحيث تطفح على وجهه، و هؤلاء هم الذين سوف يعرفون بسيماهم فيؤخذون بالنواصي و الأقدام، و هناك المعاند المنكر الذي سوف تشهد عليه يداه ورجلاه :”الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ“(يس:65).
وهناك من سيكون حسيباً على نفسه يعذبها بالندم ويشد وثاقها بالحسرة.. و هو الذي لا يوثق وثاقه أحد.. وهناك أكابر المجرمين الجبارين الذين سوف يكذبون على الله، و هم يواجهونه ويحلفون الكذب وهم في الموقف العظيم: “يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ” (المجادلة:18) وهؤلاء هم الذين سوف يسحبون على وجوههم و يوثقون في السلاسل.. وأبو حامد الغزالي يفسر هذه السلاسل بأنها سلاسل الأسباب.
شكوك الملحدين.. سلسلة لا تنتهي حلقاتها
-
وما رأيك في كلام القرآن عن العلم الإلهي؟ :“إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ“(لقمان:34)
يقول القرآن إن الله اختص نفسه بهذا العلم لا يعلمه غيره:”وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ“(الأنعام:51)
فما بالك الآن بالطبيب الذي يستطيع أن يعلم ما بالأرحام، ويستطيع أن يتنبأ إن كان ذكراً أم أنثى .. و ما بالك بالعلماء الذين أنزلوا المطر الصناعي بالأساليب الكيماوية؟
** أقول: لم يتكلم القرآن عن إنزال المطر وإنما عن إنزال الغيث، و هو المطر الغزير الكثيف الذي ينزل بكميات تكفى لتغيير مصير أمة وإغاثتها و نقلها من حال الجدب إلى حال الخصب و الرخاء.. و المطر بهذه الكميات لا يمكن إنزاله بتجربة .
أما علم الله لما في الأرحام فهو علم كلي محيط و ليس فقط علماً بجنس المولود هل هو ذكر أو أنثى، و إنما علم بمن يكون ذلك المولود و ما شأنه و ماذا سيفعل في الدنيا، و ما تاريخه من يوم يولد إلى يوم يموت، وهو أمر لا يستطيع أن يعلمه طبيب.
- و ما حكاية كرسي الله الذي تقولون أنه وسع السموات والأرض.. و عرش الله الذي يحمله ثمانية؟
** إن عقلك يسع السموات والأرض و أنت البشر الذي لا تُذكر.. فكيف لا يسعها كرسي الله.. والأرض والشمس والكواكب والنجوم والمجرات محمولة بقوة الله في الفضاء.. فكيف تعجب لحمل عرش!.
- وما هو الكرسي وما العرش؟
** قل لي ماهية الإلكترون أقل لك ماهية الكرسي؟ قل لي ما الكهرباء؟ قل لي ما الجاذبية؟ قل لي ما الزمان؟ إنك لا تعرف ماهية أي شيء لتسألني ما الكرسي وما العرش؟! إن العالم مملوء بالأسرار وهذه بعض أسراره.
- والنملة التي تكلمت في القرآن وحذرت بقية النمل من قدوم سليمان وجيشه؟! “حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ” (النمل:18).
** لو قرأت القليل عن علم الحشرات الآن لما سألت هذا السؤال.. إن علم الحشرات حافل بدراسات مستفيضة عن لغة النمل و لغة النحل، و لغة النمل الآن حقيقة مؤكدة.. فما كان من الممكن أن تتوزع الوظائف في خلية من مئات الألوف و يتم التنظيم و تنقل الأوامر و التعليمات بين هذا الحشد الحاشد لولا أن هناك لغة للتفاهم، و لا محل للعجب في أن نملة عرفت سليمان.. ألم يعرف الإنسان الله ؟
- وكيف يمحو الله ما يكتب في لوح قضائه “يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ” (الرعد:39).
أيخطيء ربكم كما نخطئ في الحساب فنمحو و نثبت.. أم يراجع نفسه كما نراجع أنفسنا؟!
** الله يمحو السيئة بأن يلهمك بالحسنة ويقول في كتابه: “إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ” (114:هود).
و يقول عن عباده الصالحين: “وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ” (الأنبياء:73)
و بذلك يمحو الله دون أن يمحو وهذا سر الآية 39 من سورة الرعد التي ذكرتها.
الهامش:
[1] – إضافة المحررة
__________________________________
المصدر: بتصرف يسير عن كتاب “حوار مع صديقي الملحد”، الفصل الثالث عشر