أفي النبوءة شك؟!!

العلاقة بين مسألة النبوءة وأدلتها مع مسائل الدين الأخرى، لا تنفك، وهذه هي القراءة الشمولية المُتكاملة التي تفتقر إليها الساحة، وكثيراً ما نجدها في قراءة المُخالف، فلا يُمكن أن تكون القراءة العِضين لمسائل الدين الإسلامي وأدلته والتي منها النبوءة والتي تُفقدها شموليتها، ولا يُمكن أن تكون القراءة المَبتورة للسياقات والمَقاصد، والتي تُذهب كمالها، ولا يُمكن أن تكون القراءة المُتجزئة لمجموعها التي تُضعف قوتها، فتجعلها مهترئة مُتجزرة…

(مقتطف من المقال)

د. سامية بنت ياسين البدري

النبوءة

الاعتناء بكتب السيرة النبوية ودلائل النبوءة وتنقيتها من الروايات الضعيفة ففي الروايات الصحيحة غُنية، لكمال الدين بأدلته الصحيحة.. من أبرز توصيات الدراسة.

الحمد لله أولاً وآخراً، ظاهراً وباطناً، فها هي رحلة البحث والتنقيب في مسألة عظيمة يدور عليها مَدار الدين في تجلية أدلة صدق نبوءة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم؛ فإن ثبوت صدق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بالأدلة والبراهين يعني التسليم التام لكل ما جاء به للعمل به تعبداً لله وحده، فإن الناظر في المُماحكات العقلية في الواقع، والمُشاهد لجدال الفكر العَلموي في الساحة، يدرك مدى أهمية دراسة مسائل النبوءة وضرورتها، لأن التذبذب في قبول أحكام الشريعة، ورد شيء منها بإملاءات العقل، والريب الذي يتلجلج في النفس فيخفت حيناً صوته، ويعلو حيناً قلمه، يوحي بأن ثمة خللاً في الإيمان بالنبوءة، وهذا الخلل لا بد من إصلاحه بدراسة دلائل صدق النبوءة، لترسيخ اليقين، وبيان الحق، وإحقاقه، لتفعيل الدين والشريعة التي بلغها النبي عن رب العالمين.

إنّ الراكض خلف سراب التنوير العقلاني والحداثة والكشف العرفاني لن يروي ظمأ المعرفة، حتى وإن جدَّ سيره وجاء عنده لم يجده شيئاً، ومَن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور.
لقد أدركت من خلال دراستي هذه ضرورة دراسة مسائل النبوءة وأدلتها، لإقامة دين الله وشرعه الذي ارتضاه الله لنا، فأكمله، وأتم نعمته علينا.

كما أني خلُصت ببعض النتائج، والتي منها:

1. اكتفاء الشريعة الإسلامية وكمالها في المسائل والدلائل، وهو سمة من سمات هذه الأمة التي أنعم الله بها على هذه الأمة.

2. الإيمان بالنبوءة لا بد أن يُبنى على دلائل يقينية توجب التسليم بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى لا يكون للشك مجالٌ، فيؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم إيماناً ليس مشروطاً بعدم المُعارض.

3. المقصود من بيان أدلة صدق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم التصديق بمضمون أخباره، فإن مَن لم يُصدق بمضمون أخباره كان بمنزلة مَن آمن بالوسيلة، ولم يحصل له المقصود.

4. دلائل النبوءة متنوعة ومتعددة فهي من جنس أدلة الربوبية وهذا لأهميتها، وعليه لا يمكن حصر دلالتها في دليل دون غيره، ومنها ما يُستدل به على مُنكري جنس النبوءة، ومنها ما يُستدل به على مُنكري نوع النبوءة.

5. يتفاوت الناس في التصديق بالآيات المُتنوعة، وما حدث الخلل في منهج الاستدلال على قضية النبوءة إلا من جهة الاستدلال عليها بدليل واحد لا يرى المُستدل به غيره، ويريد أن يحمل الناس كلهم عليه تكلفاً، ويهمل أو يضعف باقي الأدلة، والمنهج الاستدلالي لا يقف عند دليل واحد دون آخر لأنه يبحث عن الحق.

6. الاكتفاء المنهجي الشرعي بما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة لتجلية مسائل الدين ودلائله، والتي منها دلالة القرآن على نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن الاكتفاء المنهجي الشرعي يكون في باب المُصطلحات الشرعية فالآية والبرهان والحُجة والسلطان والصدق واردة في القرآن، بخلاف المُعجزة، والإعجاز والعصمة.

7. نشأ كثير من المُصطلحات الوافدة والدخيلة إبان حركة الترجمة، والتأثر بفلاسفة اليونان، لذا كان لا بد من ضبطها وفق منهجية شرعية لتأصيل كثير من مسائلها، فهو بابٌ مهمٌّ جدّاً، تغير على إثره كثيرٌ من المفاهيم الشرعية، وتُركت لأجله مُصطلحات شرعية واردة في الكتاب والسُّنَّة الصحيحة، وتسببت في حدوث خلط كثير من المسائل والدلائل كمصطلح (المُعجزة والإعجاز)، فـ (الإعجاز) أعمّ من التحدي، إذ التحدي كان في نظم القرآن وأسلوبه فقط، وهو باقٍ إلى أن يشاء الله تعالى.

8. العلاقة بين مسألة النبوءة وأدلتها مع مسائل الدين الأخرى، لا تنفك، وهذه هي القراءة الشمولية المُتكاملة التي تفتقر إليها الساحة، وكثيراً ما نجدها في قراءة المُخالف، فلا يُمكن أن تكون القراءة العِضين لمسائل الدين الإسلامي وأدلته والتي منها النبوءة والتي تُفقدها شموليتها، ولا يُمكن أن تكون القراءة المَبتورة للسياقات والمَقاصد، والتي تُذهب كمالها، ولا يُمكن أن تكون القراءة المُتجزئة لمجموعها التي تُضعف قوتها، فتجعلها مهترئة مُتجزرة.

9. اتصاف النبي صلى الله عليه وسلم بالكمال الأخلاقي، لينتفي عنه ضده، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يتصف بكمال الصدق ينتفي عنه الكذب ويستحيل عليه.

10. معنى أمية النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقرأ من كتاب ولا يكتب بيديه، ووجه دلالة أمية النبي صلى الله عليه وسلم على صدق نبوءته ليست مُستقلة، بل هي مع ما أخبر به من أمور هذا الدين.

11. إنّ عدم مناقضة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم للعقل والفطرة لا يعني استغناءهما عمّا جاء به، لأن معرفة العقل والفطرة بشرية محدودة، تدرك الكليات بعمومها، ولا تحيط بالجزئيات، ولا بمقاصد الشريعة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم.

12. الأدلة العقلية برهنت على إمكان النبوءة، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وبرهنت على أن العقل وحده لا يكفي لإصلاح جميع شؤون الحياة، بل لا بد للناس من كتاب مُنزل يحكم حياتهم.

13. المُكذبون بنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم لا يمتلكون حُجة بينة واضحة، وإنما هي ادعاءات مُجردة من الأدلة والبراهين القطعية لصدّ الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.

14. ليس هناك تأثرٌ بَيْن النبوءات السابقة ونبوءة النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي دلالة على وحدة مصدرها الإلهي، ولا يعني الاتفاق في أصول المسائل التأثر والأخذ ممَن سبق، لانتفاء شرطيّ التأثر، ولأنه يُفضي للتسلسل المُمتنع.

15. صححت الدراسة بعض الأخطاء المنهجية التي أحدثت خللاً في قضية الاستدلال على النبوءة، والتي منها الاستدلال بالمُكتشفات الحديثة، فهي تدل على الربوبية من جهة خلق الله لها، وتدل على النبوءة من جهة أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يتعارض مع الحقائق العلمية، وليس لأن النبي صلى الله عليه وسلم سبق بالإخبار بها، إذ الكتب السابقة أخبرت بحقائق الكون.

16. دلالة الإخبار بالمُغيبات دلالة مُشتركة بين الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم.

17. دللت الدراسة بأقوال صناديد كفار قريش على أنَّ القرآن ليس هو من جنس كلام الإنس والجن، وجلت المُفارقة بين القرآن وغيره، إلا أنَّ اعترافهم لم ينفعهم، لأنهم لم يُقروا بنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم، كاعترافهم بتوحيد الربوبية مع عدم الاعتراف بتوحيد الإلهية.

18. القرآن الكريم من أوله إلى آخره لم يتحدث عن شخص النبي صلى الله عليه وسلم وحياته، فلم يذكر أبرز حدث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفاة زوجه خديجة رضي الله عنها، وعمه أبي طالب، بل كانت آيات عِتابه تتجلى للملأ، وتُقرأ في علن ويُخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم لتُدرك أن القرآن لم يكن من لدن محمد صلى الله عليه وسلم.

19. ورد ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن أربع مرات، وورد ذكر عيسى ست عشرة مرة، وموسى أربعاً وعشرين ومئة مرة، ولو كان القرآن من عند النبي صلى الله عليه وسلم لأكثر من ذكر اسمه كما هي عادة كثير من المؤلفين.

20. يتبين من أسلوب ونظم القرآن الكريم أن هناك جهة أخرى تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: (قل).

21. القرآن الكريم كان يَتنزَّل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم وقت نزوله، ففي الأوقات التي تتجلى الحاجة لنزوله يتأخر الوحي، وهذا يُسفر عن حقيقة مُهمة بأنَّ دور النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو التبليغ عن الله تعالى بكل ما يوحيه إليه.

22. دلالة القرآن على صدق نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم اشتملت على الدليل والمدلول، فهي دلالة تضمنية وهي من أقوى الأدلة وأظهرها وأبينها، ولا يعني هذا الاستغناء عن غيرها.

23. مسائل الدين ودلائله خاصة النبوءة تعتمد على الغيب المَبني على البراهين القطعية اليقينية النقلية العقلية، فينبني التسليم عليها، وزحزحة هذا المفهوم تكون بالمفهوم المادي وغيره هو هدم للدين برمته.

24. جلَّت الدراسة أن الشبهات التي أثارها مُنكرو النبوءات قديماً ما زالت تثار حديثاً، مع تباينٍ في المُنطلقات الفكرية.

25. أسفرت الدراسة عن أنَّ التكذيب لنبوءة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن لذات النبي صلى الله عليه وسلم، وإنَّما لِـمَا جاء به من حق مُخالفٍ لكثير من عادات وتقاليد الآباء، إضافة إلى الحسد على المناصب ظنّاً منهم أنَّ النبوءة تُكتسب للرياسة كالرفادة والسقاية.

26. الخطاب الليبرالي والعلماني والعقلاني مُضطرب في تقديم حاجات النفس والروح والعقل الفطرية لذا وقع التناقض الصارخ في الأدبيات الغربية.

27. ليس من هدف الدراسة حصر أدلة القرآن، بل الإشارة إلى أهمها، لتحريك العقل في التفكير والتأمل والتدبر، ولن تقف الدلائل عند هذه الصفحات، فقد يفتح الله على غيري بدلائل أخرى.
وما حصرته في هذه النقاط مبسوط في مكانه، ومظانِّه من هذه الدراسة.

وأمَّا عن أبرز التوصيات التي تفتقت من رحلة هذا البحث، فهي كالآتي:

28. الاهتمام بتأصيل مسائل الدين وأدلتها، فهو بابٌ مهمٌّ للبناء المعرفي وفق تكوين منهجي، واكتفاء شرعي مستمد من مشكاة الوحيين.

29. الاعتناء بكتب السيرة النبوية ودلائل النبوءة وتنقيتها من الروايات الضعيفة ففي الروايات الصحيحة غُنية، لكمال الدين بأدلته الصحيحة.

30. القراءة الشاملة والكاملة لمسائل الدين ودلائله فهي كتلة واحدة لا يمكن أن تدرس بمَعزل عن بقيتها، وهي القراءة الإسلامية الصحيحة، والاستفادة من هذه القراءة لنقد القراءات العضين المُجتزأة.

31. يتوجب على الهيئات المَعنية بالإعجاز العلمي أن تضم نخبة من الشرعيين المُتخصصين في العقيدة والكتاب والسنَّة لتصحيح مسار الاستدلال بالمُكتشفات العلمية على مسائل الدين.

32. السعي الجاد بالتوصية لترجمة كثير من البحوث العلمية التي تُعنى بالتأصيل لمسائل العقيدة وأدلتها، خاصة مسألة النبوءة وأدلتها من القرآن الكريم لتقديمها للغرب، لأنهم بنوا معظم دراساتهم على أصول مُحرفة، وليتعرف الغرب على النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن.

33. عقد الدورات التدريبية العلمية وورش العمل حول الأدلة على أصول الدين، للبرهنة على صدق ويقين المسائل وأدلتها مما لا يحتمل الشك، وفي هذا صد لتيار الإلحاد الذي يطرق أبواب العقول! وفتح لمجالات الحوار مع الشبيبة وغيرهم ممَن لديهم تساؤلات وجودية كبرى.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


المصدر: (خاتمة كتاب أفي النبوءة شك: الأدلة العقلية النقلية على نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم، د. سامية بنت ياسين البدري – مركز دلائل – الطبعة الأول 1437هـ/2016م)

مواضيع ذات صلة