الإلحاد في بلادنا.. غوص إلى العمق 6/4

تقف وراء ظاهرة الإلحاد التي ظهرت بين شبابنا (مفاهيم ونماذج معرفية) مختلفة، تختلف من مجموعة لأخرى، يمكن أن نطلق عليها جميعا اسم (الإلحاد السفسطائي)…

د. عمرو شريف

انفصال

استخرجتُ من أوراقي سبع حالات إلحاد، كان الأب والأم فيهما منفصلين، إما بالطلاق أو بالهجران، وكان الابن يحيا مع أحد الطرفين.

ويلاحظ المتأمل لهذه الأنماط أنها تنقسم إلى مجموعتين كبيرتين:

المجموعة الأولى، وتشمل الأسباب الحقيقية وراء إلحاد الملحدين، وهي الأسباب النفسية العميقة، التي تتخفى وراء أسباب موضوعية يعلنها شبابنا.

المجموعة الثانية، وتشمل الحجج العلمية والفلسفية المُعلنة، ويختلف مدى صدق مواقف الشباب الملاحدة من هذه المفاهيم، وإن كان نصيب معظمهم من خلفيات وتفاصيل ما كُتب في تفنيد هذه الحجج ضئيلا للغاية.

أولا: أنماط الإلحاد النفسية

3- إلحاد اضطراب الارتباط

ونقصد بالارتباط العلاقة بين أبنائنا و والديهم، وتقف وراءه نظريات اضطراب نموذج الأم والتقصير الأبوي.

عندما عرضت في كتابي “خرافة الإلحاد” مفهوم الإلحاد السفسطائي وأنماطه، لم أكن منتبها لخطورة دور الارتباط الأسري في تبني الإلحاد، وما أن تنبهت لأهمية هذا الدور حتى قَفَزت إلى ذهني بضع حالات إلحادية من فتياننا وشبابنا ممن حاورتهم، فرجعت إلى ما دونته عنهم في أوراقي، فإذا بها تدعم نظريات الارتباط بشكل مباشر.

استخرجتُ من أوراقي سبع حالات بالتحديد، كان الأب والأم منفصلين، إما بالطلاق أو بالهجران، وكان الابن يحيا مع أحد الطرفين، وفي حالتين كان يحيا وحده، وكانت علاقات السبعة بوالديهم أو بأحدهما (خاصة الأب) سيئة للغاية. وفي حالتين تزوج الأب زوجة أخرى وبرر ذلك باتباعه سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

وفي خمس من السبع حالات كان الآباء من المتشددين دينيا، الذين حرَّموا على أبنائهم متعا بريئة باسم الدين، وكانوا يضربونهم من أجل حفظ القرآن في صباهم.

وفي أربع حالات في المدرسة الثانوية شغل دور الأب مدرسٌ ملحدٌ، كان مثلا أعلى للفتى ودفعه للإلحاد دفعا. وأجهض كل محاولات الحوار والإقناع.

أما الارتباط بصديق أكبر ملحد تشرب منه الفتى التوجه الإلحادي فقد تجاوز العشرين حالة.

ولا شك أن الأعداد الحقيقية لمن شاركت تنشئة الوالدين في إلحادهم تفوق ذلك بكثير، لكني كما ذكرت لم أنتبه لخطورة هذا العامل النفسي إلى مؤخرا.

4- إلحاد عقدة النقص

عقب الحلقة الأولى من مناظرتي مع الملحد التي أُذيعت إعلاميا، اتصل بي صديق وأخبرني أن ابنه الذي سبق أن ألحد طلب منه أن يصلي معه العصر، وعندما سأله عن سر تصحيح موقفه بالرغم من أن المناظرة مازالت في بدايتها، قال الابن: عندما كنا نشاهد هذا الملحد وغيره في “النت” كانوا يشعروننا بأنهم هم الحكماء الذين يحتكرون العقل، ويتبنون العلم منهجا، أما الدين ورجاله فهم المتخلفون علميا والعاجزون عقليا وأنهم لا يحسنون إلا ترديد ما جاء في التراث، فأصبحوا خارج الزمان وخارج الحضارة (عوامل نفسية شخصية). وأضاف الفتى، أما وقد شاهدت الجزء الأول من المناظرة، وعاينت قوة حجج د. عمرو العلمية والفلسفية وعجز الملحد أن يدفعها، تأكد لي كم هم أقزام ومدعون، وأدركت أن الدين عظيم وأن حججه لا تُدفع بشرط أن يُحسن عرضها.

5– إلحاد الشهوات

يُبتعث الكثير من شبابنا إلى دول العالم الغربي والدول الشيوعية (سابقا)، ويعاينون نمطا من الحياة تحتل فيه العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج موضعا محوريا باسم الصداقة والحب.

كذلك فإن هذا النمط من الحياة يدخل بيوتنا عن طريق الإعلام والسماوات المفتوحة، كما تعرض المواقع الإباحية على الشباب كما كبيرا من المثيرات.

نتيجة لذلك، يَتوق بعض  شبابنا إلى هذا النمط من الحياة (عوامل نفسية شخصية)، وقد تُمثل التنشئة الدينية حاجزا أخلاقيا وعبئا نفسيا يؤرقهم، فيلجأ بعضهم للهروب من هذه المعاناة إلى إسقاط منظومة الإله والدين من حياتهم بالتنكر لها.

لذلك لا نجد هذا النمط من الإلحاد في العالم الغربي، فلا مشكلة عند شبابهم في الجمع بين الإيمان الديني وبين الحياة المتحررة أخلاقيا.

6– إلحاد الربوبية

يثبت هذا النمط من الإلحاد ما كان سائدا في مكة وقت البعثة المحمدية. فقد كان معظم القرشيين يؤمنون بوجود الإله لكنهم ينكرون أن يكون قد أرسل رسولا: “وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ” (العنكبوت:61).

فيقول هؤلاء: نقر بوجود الإله، أما الأديان فادعاءات سببت كل ما في الدنيا من شقاء، ولا حاجة لنا بها. ويضيف آخرون: ما دليلكم على أن الإله قد خلقنا لغاية، لم لا يكون قد خلقنا وتركنا؟ وكيف ينشغل بتفاهات مثلنا؟ هل هو في حاجة إلينا؟.

أجبت هؤلاء: أن الإنسان إذا أقدم على فعل شيء دون سبب عددناه أبله، فهل يُعقل أن يخلق الإله الوجود والإنسان دون حكمة أو غاية؟!.

وأضفت: أن الباحث عن الحقيقة يرحب بأي عون يأتيه، لذلك كان خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام (وغيره من الأنبياء والمرسلين) يتفرس في السماء باحثا عن الإله، وفي النهاية قال: “… لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ” (الأنعام:77).

وإذا كنا مخلوقين لغاية.. ألَا يكون من الظلم ألَّا نُوَجه إليها عن طريق الديانات السماوية؟!.

وحقيقة الأمر أن “القائلين بالربوبية المنكرين للديانات” وهم “الملاحدة” سواء بسواء، إذ إن إنكار الدين يُفرغ الألوهية من جوهرها؛ الذي هو تكليف الإنسان عن طريق الدين بأوامر ونواه، وما يعقب الموت من بعث وحساب وجزاء.

وقد تبنى معظم الربوبيين هذا التوجه تحررا من تكاليف الديانات (افعل ولا تفعل)، لذلك وضعنا هذا النمط ضمن العوامل النفسية الشخصية، وإن كان ظاهره يبدوا عقليا موضوعيا.

7– إلحاد الجبر والتسيير

قال بعضهم: كان ينبغي على الإله أن يأخذ رأيي قبل أن يخلقني! وبأي حق يحاسبني إن لم أعبده، ألست حُرَّا؟ “إزاي يحاسب واحد على لعبة هو مش عاوز يلعبها”؟

لهؤلاء قلت: لو مش عاجبك انسحب من اللعبة! قال: كيف؟ قلت: بالانتحار! وليس هناك عاقبة تخشاها فأنت لا تؤمن بالبعث ولا بالحساب. وأضفت: إن عدم إقدامك على الانتحار لهو أكبر دليل على رضائك عن خلقه لك، حتى إنك قبل أن تعبر الشارع تنظر يمنة ويسرة عدة مرات حفاظا على حياتك. فقال: ربما يكون هناك شيء مما تقول، عندها سيعذبني إلهك، إنه يعاملنا كالعبيد. قلت له: أخيرا وصلت إلى الحقيقة. فعلاقة الله بنا هي علاقة السيد بالعبد، وهذا ما تحاول التملص منه دائما بادعاء الندية.

والعدل يقتضي أن يكون الإله الرحمن الرحيم أيضا منتقما جبارا مُذِلا، وأضفت، إن الإسلام يتبنى هذا المفهوم الذي يجمع بين الجمال والجلال، ولا يكتفي بأن “الله محبة” كما يعتقد المسيحيون، أو أنه “غضوب” فقط كما يعتقد اليهود، فلله الأسماء الحسنى جميعا، جمالها وجلالها، ومن لم يعرف ذلك فمعرفته بالإله ناقصة.

وشكى بعضهم أن الإله يحاسبنا على اختياراتنا بالرغم من أنه فرض علينا أشياء، كالعائلة والبلد والمرض وأحداث كثيرة مما يمر بنا. قلت لهؤلاء: إن الله لا يحاسبنا على سبيل هذه الأشياء، الحساب لا يكون إلا على ما فيه مجالا للاختيار، ويرجع ذلك إلى أن حرية الإنسان مقيدة وليست مطلقة، ذلك لأن قدراته ليست مطلقة، فحرية الإرادة بقدرة المقدرة، لذلك تزداد حرية الإنسان في عمله بقدر ارتقائه في السلم الوظيفي، أليس كذلك؟!

ويتهم الملاحدةُ المؤمنين بأنهم جَبرِيون؛ إذ يؤمنون بأن الله دوَّن كل ما سيقع حتى يوم القيامة في لوح محفوظ وأننا ملزمون بأن نتبع ما دوَّنه، ويرى الملاحدة أن هذا جبرٌ محض وظلم بيِّن. قلت لهؤلاء: إن “العلم الإلهي” –الذي لا يحده الزمان- كاشف لما سيحدث وليس ملزِما.

ولنوضح ذلك نضرب مثالا: تصور إنسانا اخترع آلة الزمان، وتقدم بها مائتي عام في المستقبل، ورأى كل ما سيفعله أحفاده، ثم عاد لزمانه ودوَّن ما رأى، هل ما دوَّن الرجل مُلزم لهم أم أنه دوَّن ما صدر منهم بالفعل. هذا هو حال العلم الإلهي الكاشف. ولا يتعارض ذلك مع إرادة الله عز وجل المطلقة، فقد أراد الله أن تكون لما إرادة.

مثل النمط السابق، بالرغم من الظاهر العقلاني لإلحاد الجبر والتسيير، فإن أنصاره يحتجون به لأنه يُسقط عنهم المسئولية الأخلاقية والدينية عن أفعالهم المنحرفة أحيانا، لذا استحق أن نصنفه مع عوامل الإلحاد النفسية الشخصية.

للمزيد عن أنماط الإلحاد النفسية.. طالع أيضا:

الإلحاد في بلادنا.. غوص إلى العمق 6/1

الإلحاد في بلادنا.. غوص إلى العمق 6/2

الإلحاد في بلادنا.. غوص إلى العمق 6/3

ثانيا: الأنماط المُعلنة للإلحاد >>> يُتبع

___________________________________________

المصدر: بتصرف يسير جدا من كتاب الإلحاد مشكلة نفسية، د. عمرو شريف، نيو بوك للنشر، الطبعة الثانية، 2016، ص: 338

مواضيع ذات صلة