إلى مدى يمكن أن تتسبب عدم إجابة الدعاء السريعة في تشكك البعض في وجود الإله من عدمه، وفي وجود محرك للكون ينقذ من فيه من مصائرهم السيئة؟!.. تجارب واقعية في سياق المقال التالي…
أ.د/ خالد بن منصور الدريس
من الحقائق البديهية أن لكل شيء في هذه الدنيا نقطة بداية، ولكي نُحقق الفهم العميق لأي مشكلة إنسانية علينا أن نعرف جذورها، وتحديداً متى تكونت وبدأت؟
ومما يندرج في ذلك من الحالات المعاصرة ما يمكن تسميته بمشكلة (التشكيك في الدين) والتي هي منطلق إلحاد كثير من الشباب والشابات.
وقد شد انتباهي أثناء متابعتي لهذا الملف الشائك المدة السابقة، أن هناك أشخاصاً قد تحدثوا عن بدايات تشككهم في تعاليم الدين، فاجتهدتُ في حصر تلك الأمور؛ لما للتفطن إليها من أهمية في دراسة مكونات الإلحاد الأولى في المجتمعات الإسلامية المعاصرة.
كما أن دراسة تلك المنطلقات يُسهم في ترتيب أولوياتنا عند مناقشة مشكلة الإلحاد المعاصر في مجتمعاتنا، وكي لا ننساق خلف أطروحات الإلحاد الجديد في الغرب، حيث من الملفت للنظر أن بدايات التشكك الديني في مجتمعاتنا الإسلامية لا يلزم أن تكون مشابهة للظروف الغربية.
وعليه سنجد أن كثيراً من المساهمات المباركة تركز بصورة واضحة على مسألتين:
الأولى: إثبات وجود الله بأدلة متنوعة تستند على علماء الطبيعة والكونيات المعاصرين.
الثانية: دحض نظرية داروين في التطور.
ولا شك أن هاتين المسألتين في غاية الأهمية، لكن ظهر لي من خلال تجربة شخصية في الحوارات مع بعض الشباب والشابات أن مسألة وجود الله ليست هي القضية الكبرى في تشككهم، وحتى نظرية داروين يجدونها ليست حتمية علمية غير قابلة للنقاش، ولذا وجدت لديهم انصرافاً عما يطرحه كثير من الفضلاء في مناقشة الإلحاد الجديد في مجتمعاتنا، ويرونها لا تلبي حاجاتهم.
عدم إجابة الدعاء
ومن هنا أعدتُ النظر في جذور قصص الشباب المتشكك، وتوصلت إلى رسم خارطة أولية قابلة للتعديل والتطوير حول نقطة بداية التشكك في الدين، وبصورة مختصرة وجدت التالي:
أولاً: مسألة عدم إجابة الدعاء ، كانت هي نقطة البداية في التشكك في نصوص الوحي الإلهي عند كثير من الأشخاص، ولقد قرأت وسمعت هذا الأمر مراراً، سنبدأ بنص عباس عبدالنور وسنفترض أنه صادق في دعواه، يقول في “محنتي مع القرآن” ص: 26 – 30
” فقد وقعتُ في أزمات وشدائد، وركبتني ديون وهموم وغموم لا مخرج منها، لقد أقفلت الدنيا في وجهي، وانسد أمامي كل أفق، فلم أترك باباً إلا قرعته، ولا طريقاً إلا سلكته… ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري، تذكرتُ قوله تعالى “أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ“ (النمل:62).
وهكذا أفرغتُ كل ما في جعبتي من أدعية وتضرع واستغاثة… يا إلهي استمع إلي من قلب الجوع، من قلب الحاجة، من قلب الحرمان، من قلب المعاناة أناديك، لقد تراكمت ديوني وعظمت كثيراً. إلهي لقد ادخرتك لهذه الساعات السوداء، كيف أقضي هذه الديون؟ هل أبيع بيتي وهو كل ما أملك؟ أين عساي أن أسكن أنا وعائلتي إذن؟
انتظرت ثم انتظرت عسى الله أن يأتي بالفرج، ولكن عبثاً، وأخذت الشكوك تستيقظ في نفسي بعد أن كانت هاجعة مقموعة… وما أنا حتى هب في نفسي الإعصار، وتداعى في متناول الإعصار كل ما كان في نفسي قائماً ثابتاً، وبقيت مدة أعاني من أعقد أزمات الفكر وأشدها وطأة…”.
وفي حالة أخرى موثقة كتب عنها الصحفي ناصر بن حسين في صحيفة الحياة بتاريخ الجمعة 2014/11/4 تحت عنوان “عائد عن الإلحاد” قال: “وذكر الشاب أن انتقاله من مسقط رأسه في جنوب المملكة إلى المنطقة الشرقية لإكمال دراسته في مجال الصحّة كان “بداية الانتكاسة”، وقال: “حينما بدأت الدراسة، كنت أطلب من الله النجاح دائماً، ورسبت في 3 مواد، ما جعلني أسهب في المقارنة بين حياتي وحياة كثيرين غيري، ممن ليس لديهم اهتمام بالصلاة والصيام وغيرها من الأمور الدينية، على رغم أنهم يعيشون حياة مستقرّة”، ومن هنا “بدأت الشكوك تدهم روحي وعقلي”.
فهمٌ أعوج
والملاحظ أن الكتابات المعاصرة المعمقة التي تعالج هذا الفهم الأعوج لمفهوم الدعاء قليلة، كما أننا نعاني من نُدرة الكتابات المُيسرة التي توضح مدى الارتباط بين الدعاء وحتمية مراعاة سُنن الله الكونية التي سيّر بها سبحانه هذا الكون، فلا يمكن لشخص مهما بلغت عبادته وتقواه وزهده وانقطاعه لفعل الطاعات أن يدعو الله مثلاً أن يُنبت أرضه وهو لم يزرعها ولم يسقها بل يُعد هذا من الاعتداء في الدعاء، أو يسأل الله بإلحاح أن يرزقه مالاً وهو لم يسلك سُبل الحصول عليه، إن تجاهل تلك السُنن الربانية الكونية هو الذي أوقع عباس عبد النور في فهمه المقلوب بأن قضاء دينه يكفي فيه الدعاء دون السعي والعمل والمثابرة والجد في دفع ذلك القضاء بقضاء من نوع آخر، يريدون حلولاً كسولة بلا مثابرة أو عمل دؤوب لدفع الضرر والشر. وكذلك ذلك الطالب الذي لم يَجِدْ في دراسته ولم يعالج مشكلة غربته وتغير نمط الحياة عليه، فأدى تجاهله لهذه القوانين الحياتية إلى إخفاقه في المواد، وأخذ يسأل الله مُلحاً في دعائه كالمتمنن على المولى سبحانه بالصلاة والدعاء والعبادة، بدون مراعاة منه لسُنن الله في النجاح.
ومن أعظم المصائب الفكرية المنهجية ظن أمثال هؤلاء أن القرآن لا يلزم أن تأخذه كله كالجملة الواحدة التي يفسر بعضها بعضاً، ولذا يقعون في مزلق منهجي كبير وهو أنهم يعزلون آياته ويفهمونها بعد تلك التجزئة المتعسفة وفق رغباتهم وحاجاتهم الآنية. وفي خضم النقاش مع أحدهم سألته مرة هل تجد في آيات القرآن أصولاً منصوصاً عليها عن كيفية الفهم الصحيح لمعاني القرآن؟
فأجابني بأنه لم يفكر في هذا السؤال، وأنه يفهم الآيات بحسب ما يظهر له، وبدون بذل أي جهد منهجي، وهذا مما يؤكد أن قضية (منهجية فهم القرآن من خلال القرآن نفسه) غائبة تماماً عن فهمهم، ويجب التنبه لها في الكتابات المعالجة لهذه المشكلة التي تكاد تكون منبع كثير من مشكلات التشكك الديني لدى الشباب.
هذا فضلاً عن وجود مشكلة من نوع آخر وهي أن العبد في مثل تلك المواقف يريد أن (يختبر) خالقه ويمتحنه في مسألة عدم إجابة الدعاء لا العكس، كما نص عباس عبد النور صراحة على ذلك في كتابه ص 26، وهذا الفهم المعكوس يدل على تكبر متجذر لأن الشخص هنا كان يقدم طاعاته لله وعباداته وهو يتمنن على الله بذلك، فأنى يُستجاب لمثل هذا؟.
____________________________
المصدر: بتصرف يسير عن شبكة الألوكة الثقافية