أنكروا وجود الخالق.. ولو اعترفوا لاطمأنت قلوبهم! (3-3)

 تُعدّ الأم الطّعام لأبنائها على أي حال، إن كانت مُؤمنة أو غير مُؤمنة، لكنّ الُمؤمنة تجُدد نِيّتها وتَهب أعمالها لله، وتنتظر مِنه الجَزاء، فبذلك لن تَحزَن أبداً إذا لم يُقدّر أبناءها مَجهودها، فهي تنتظر ثوابها من الخالق. فبذلك نَجد أمامنا امرأة لا تُحبَط من خِذلان أبناء، ولا تَخاف من رئيس في العمل، ولا تخشَ من تنمر صديق، لأنها قالت بأعلى صوتها: حياتي كُلّها لله…

(مقتطف من المقال)

بقلم/ فاتن صبري **

لماذا نحن هُنا:

الخالق

إن عبادة الله لا تقتصر على توجهنا له وحده بالصلاة والصوم فقط، بل إن عبادة الله تعني أيضًا حُبَّهُ وطاعَتَهُ ومَعرِفَتَه ُأكثر. عِبادة الله يَجب أن تَكون هي الهدف النِّهائي لوُجودنا. إنها تُحرّرُنا من “العُبودية” للآخرين والمُجتمع.

أذكر سيدة بريطانية كُنت قد قابلتها في نيجيريا، وسألتني: لماذا خَلَقنا الله؟

قلتُ لها: تخيلي نفسكِ غنية جداً وكريمة للغاية، ماذا كُنتِ ستفعلين؟

قالت: كُنت سوف أدعو أصدقائي وأحبابي إلى الطعام والشراب.

قلتُ لها: صفاتنا هذه ما هي إلا جُزء بسيط ممًا عند الله، فالله الخالق له صِفات جلال وَجمال، هو الرحمن الرحيم، المُعطي الكريم، لقد خلقنا ليرحمنا وُيسعدنا ويعُطينا. وكل الصّفات البشرية الجميلة مُشتقة من صِفاته.

وقُلت مُعقبةً: إنه خَلَقَنا وَمنحنا القُدرة على الاختيار، فإما أن نختار طريق الطاعة والعِبادة، وإما أن نُنكر وُجوده ونختار طريق التَمرد والمَعصية.

قالت: لماذا لم يُجبرنا على عِبادته؟

قلتُ لها: كان بإمكانه أن يجعلنا مُكرَهين على الطاعة والعِبادة، لكن الإكراه لا يُحقق الهَدف المَرجو مِن خَلق الإنسان.

فالحكمة الإلهية تَمثلت في خلق آدم وتَميّزه بالعلم.

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ“.. (البقرة:31).

وَمَنَحَه ُالقُدرة على الاختيار.

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ“. (البقرة:35).

 وَفَتح باب التوبة والإنابة له، كون أَنّ الاختيار لا بُدّ وأن يُوقِع في الخطأ والزّلل والمَعصية.

فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ“. (البقرة:37)

 وكُل ذلك التجهيز ليَجعَلَهُ خليفةً في الأرض.

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ“. (البقرة:30)

فالإرادة والقدرة على الاختيار في حد ذاتها نِعمة، إذا تمّ استخدامها وتوجيهُها بصورة سليمة وصحيحة، وتكون نقمة إذا تم استغلالها لمَقاصد ومآرب فاسدة.

إن الإرادة والاختيار، لا بُد أن تكون مَحفوفة بالمَخاطر والفِتن والكِّفاح وجِهاد النفس، وهي بلا شَكّ أعظم درجةً وتكريماً للإنسان من الخُنوع المُؤدي للسّعادة المُزيفة.

لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا“. (النساء: 95)

فما فائدة الثَّواب والعِقاب إن لم يكن هناك اختيار نَستحق عليه الجَزاء؟

وهذا كُلّه مع العِلم أن مساحة الاختيار المَمنوحة للإنسان فِعلياً مَحدودة في هذه الدنيا. والله سبحانه وتعالى سوف يُحاسبنا فقط على ما أعطانا فيه حُرية الاختيار. فالظُروف والبيئة التي نشأنا فيها لم يكن لنا خيار فيها. كما أننا لم نختر آباءنا، كما أننا لا نملك التَحكّم في أشكالنا وألواننا.

عِزّ العِبادة وَلا ذُلّ المَعصِية:

إن عبادة الله لا تقتصر على توجهنا له وحده بالصلاة والصوم فقط، بل إن عبادة الله تعني أيضًا حُبَّهُ وطاعَتَهُ ومَعرِفَتَه ُأكثر. عِبادة الله يَجب أن تَكون هي الهدف النِّهائي لوُجودنا. إنها تُحرّرُنا من “العُبودية” للآخرين والمُجتمع.

إن التسليم لله رب العالمين وَحده يَحفظ كَرامة الإنسان من التذلّل لغيره. ومن كان يبتغي العزة فإنه يَجِدُها في التَقَرّب لرب العالمين بالكلام الطيّب والعمل الصالح.

مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ“. (فاطر:10)

وكُلّما تواضع الإنسان لِرَبّهِ، كُلّما زاده رِفعةً وشأناً.

وأتذكر هنا دعاءً أُردده كثيراً وَهو “ربي كفى بي عزاً أن أكون لك عبدا، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربا، أنت كما أُحب فاجعلني كما تُحب”.

ويستشعر الإنسان بالراحة والطمأنينة في كلمات الرسول عليه السلام:

(وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ).

وليس كما يَظُن البعض أنّ المُؤمن مأسور بالعبادة. فالإنسان لا بُدَّ أن يكون قَلبُه ُمُتعلق بهدف يسعى لتحقيقه.

وإننا حتمًا، إذا لم نَعبد الله، ينتهي بنا المطاف بعبادة “آلهة” أُخرى. فالقلب إما أن يتعلق بأمر مِن أمور الدنيا يسعى لتحقيقه ويجري ورائه للحصول عليه، أو يتعلق بخالقه وأصل وُجوده، وبالتالي فإن رَغَباتُنا وأهوائَنا قد تستَعبدنا دون أن نشعر. في حين أن ربط قُلوبنا بالله عزّ وجَل وبالآخرة، تُخِرجُنا مِن حَلَقة الاستعباد لغيره، وربّ العالمين هو خالقنا وهو أحق من نلجأ إليه ونستعين به.

كثيراً من الناس ينجذبون إلى الشُهرة والمُوضة. كما أن الإعلانات ووسائط التواصل الاجتماعي، تَشدّ اهتمام الناس بشَكل مُفرِط، ولها دَوْر كبير في بَث مَفاهيم قاصرة، تدعو للاهتمام بالجُزيئات وتشتيت الأولويات، وهذا كُلّهُ يُسهِم في مُعاناتنا، ويَجعَلَنا نعيش حياةً مُضطّربةً وغير سعيدة.

كما أن بعض المعايير الاجتماعية وغيرها من الضُغوط العائلية، التي قد تفرض علينا مُراعاة تقاليد ومفاهيم مَوروثة، تَشدّنا بعيداً عن المَطلوب مِنّا في هذه الحياة وواجبنا تجاه الدين.

الأم مثلا تُعدّ الطّعام لأبنائها على أي حال، إن كانت مُؤمنة أو غير مُؤمنة، لكنّ الُمؤمنة تجُدد نِيّتها وتَهب أعمالها لله، وتنتظر مِنه الجَزاء، فبذلك لن تَحزَن أبداً إذا لم يُقدّر أبناءها مَجهودها، فهي تنتظر ثوابها من الخالق. فبذلك نَجد أمامنا امرأة لا تُحبَط من خِذلان أبناء، ولا تَخاف من رئيس في العمل، ولا تخشَ من تنمر صديق، لأنها قالت بأعلى صوتها: حياتي كُلّها لله.

فنحن لا نملك في هذه الحياة إلا أن نقبل دعوة الله للإيمان به والتسليم له، لنكسب خيري الدُّنيا والأخرة، أو نرضى بالدنيا فتُهلِكنا، ويكون مَصرينا الجحيم.

وإنني أذكر تعليق لمُلحدة بُرتغالية، حاصلة على درجة الدُكتوراة في الفلسفة، عندما قُلتُ لها هذا الكلام، قالت: أنتم مَحظوظون بهذا الإيمان وهذه الطريقة في التفكير. أنا لم أجد هذا الجمال في التفكير في كُتب الفلسفة وَوَجدتُه لديكم أنتم المُسلمون.


** فاتن صبري (1973) مفكرة إسلامية، تعمل في مجال الدعوة للتوحيد وتصحيح المفهوم الخاطئ عن الخالق، عُرفت بنشاطاتها في التواصل مع مختلف الثقافات والديانات، تتحدث خمس لغات، درست مقارنة الأديان، ونشرت العديد من الكتب، وتُرجمت بعض كتبها لأكثر من 14 لغة.

مواضيع ذات صلة