د. مصطفى محمود : لو أعفيت نفسي من الجدل لقادتني الفطرة إلى الله!

لكي نعرف حال د. مصطفى محمود نرجع إلى مقال له منشور في مجلة روز اليوسف سنة 1956 قال فيه بالنص: كل ما تبقى من الأديان هي الأيام المقدسة (أي الأعياد) التي تحوّلت في زماننا الآن إلى إجازات وأيام راحة، والأمل الوحيد الباقي للدين هو أن يقيم معبده في عالم الحقيقة الذي أنشأه كوبرنيك وداروين وفولتير وسبنسر وكانت، وبرنارد شو، ويحترم الصدق العلمي البسيط، إن شريعة هذا الدين بسيطة، وهي الولاء للحياة…

(مقتطف من المقال)

وليد فاروق محمد

مصطفى محمود

د. مصطفى محمود

المفكر الحقيقى لا يجب أن يؤمن بالأشياء على طول الخط أو يكفر بها على طول الخط، ولكنه بطبيعته يعيد النظر دائما في الأشياء.. وربما في الطريق نحو الإيمان تحدث عثرات.. لكنه سيصل في النهاية إلي الحقيقة مادام مخلصاً وواعياً للفارق بين المناقشة بالعقل والجدل بالهدم..

وهذا هو حال د. مصطفي محمود الذي تقلب كثيراً في الأفكار، وقبل وفاته بعدة أشهر قال وعمره يناهز 87 عاماً: لو سئلت بعد هذا المشوار الطويل من أكون؟! هل أنا الأديب القصاص أو المسرحي أو الفنان أو الطبيب؟ لقلت: كل ما أريده أن أكون مجرد خادم لكلمة لا إله إلا الله.

بدأت رحلة الدكتور مصطفى محمود مع الشك مع صدور مجموعته القصصية الأولي “أكل عيش” عام ١٩٥٤.. ومع تزايد التيار المادي في الستينات وظهور الفلسفة الوجودية بدأت رحلته من الشك في كل شيء حتى الوصول إلى اليقين بعبوديته لله رب العالمين، يقول: احتاج الأمر إلى 30 سنة من الغرق في الكتب، وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل مع النفس، وتقليب الفكر على كل وجه لأقطع الطرق الشائكة، من الله والإنسان إلى لغز الحياة والموت، وأنهي هذه الرحلة الطويلة من الشك بأروع كتبه وأعمقها (رحلتي من الشك إلى الإيمان).

وقتها قال عنه الشاعر الراحل كامل الشناوي: إذا كان مصطفى محمود قد ألحد.. فهو يلحد على سجادة الصلاة، كان يتصور أن العلم يمكن أن يجيب على كل شيء، وعندما خاب ظنه مع العلم أخذ يبحث في الأديان، بدء بالديانات السماوية وانتهي بالأديان الأرضية ولم يجد في النهاية سوى القرآن الكريم، وجاء في افتتاحية الكتاب: تقولون إن الله خلق الدنيا لأنه لابد لكل مخلوق من خالق، ولابد لكل صنعة من صانع، ولابد لكل وجود من مُوجِد، صدّقنا وآمنا، فلتقولوا لي إذن مَن خلق الله، أم أنه جاء بذاته، فإذا كان قد جاء بذاته وصحَّ في تصوركم أن يتم هذا الأمر، فلماذا لا يصحُّ في تصوركم أيضًا أن الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهي الإشكال.

وانتقل من مرحلة الأسئلة إلى الشك في كل شيء وقال: لقد رفضت عبادة الله لأني استغرقت في عبادة نفسي وأعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي، والملاحظ في رحلة د. مصطفي محمود أنه لم ينكر وجود الإله بقدر محاولة الوصول إليه بعقله.. فهو كان يقول: نظرة في السماء في منتصف ليل ساج إلى هذه العمارة الكونية الهائلة سوف تثير الذهول. إلى أين نسير؟ وما النهاية؟ ومن الذي خلق؟ واحتاج سنوات طويلة من السياحة الفكرية في صفحات الكتب العلمية والفلسفية والدينية القديمة والحديثة، وإلى فترات طويلة من الحوار الذاتي والتأمل حتى وصل لقناعات روحية غيّرت مجرى حياته كلها.

ولكي نعرف حال د. مصطفى محمود نرجع إلى مقال له منشور في مجلة روز اليوسف سنة 1956 قال فيه بالنص: كل ما تبقى من الأديان هي الأيام المقدسة (أي الأعياد) التي تحوّلت في زماننا الآن إلى إجازات وأيام راحة، والأمل الوحيد الباقي للدين هو أن يقيم معبده في عالم الحقيقة الذي أنشأه كوبرنيك وداروين وفولتير وسبنسر وكانت، وبرنارد شو، ويحترم الصدق العلمي البسيط، إن شريعة هذا الدين بسيطة، وهي الولاء للحياة.

لكن تبدّل هذا الخطاب تمامًا عندما بدأ في قراءة الإسلام قراءة جديدة واطلع على قصة الشك والإيمان عند الغزالي، وتعرف على الفكر الصوفي، خصوصًا عند النفري وابن عربي، فانفتحت أمامه فضاءات فكرية جديدة عبّر عنها بلغة مختلفة تمامًا عن تلك التي استعملها في مرحلة تفكيره العلمي والمادي، وقال في كتاب “رحلتي من الشك إلى اليقين“: الصورة المادية التي صوّرها العلم، اتضح أنها ناقصة وكاذبة، والتوصيف العلمي المادي للإنسان لا يفسر الإنسان.. والفلسفة المادية لا تفسر الحياة، والغيب حقيقة، ورب الغيب حقيقة لا يمكن تفسير أي شيء من دونه  .

صوت الفطرة!

ورغم تأكيد د. مصطفي محمود في البداية على أنه تعلم في كتب الطب أنه لا يصح إقامة حكم بدون حيثيات من الواقع وشواهد من الحس وأن الغيب لا حساب له في الحكم العلمي، لكنه قال: رغم ذلك لم أستطع أن أنفي أو أستبعد القوة الإلهية، وتوصل في النهاية إلي أن العلم الحقيقي لم يكن أبدًا مناقضًا للدين، بل يدل عليه ويؤكد معناه، بل وندم كثيراً علي السنوات التي ضاعت منه، يقول: و لو أني أصغيت إلى صوت الفطرة و تركت البداهة تقودني لأعفيت نفسي من عناء الجدل.. ولقادتني الفطرة إلى الله.. و لكنني جئت في زمن تعقد فيه كل شيء و ضعف صوت الفطرة حتى صار همسا و ارتفع صوت العقل حتى صار لجاجة و غرور.

حوار  د. مصطفى محمود مع صديقه الملحد!

  أما في كتاب “حوار مع صديقي المُلحد“.. فذكر د. مصطفي محمود علي لسان الملحد قائلاً: أنتم تقولون إن الله موجود، وعمدة براهينكم هو قانون السببية، الذي ينص على أن لكل صنعة صانعًا.. فمَن خلق الله الذي تحدثوننا عنه؟، فيجيب عليه صاحب “العلم والإيمان” قائلاً: سؤالك فاسد لأنك تسلّم بأن الله خالق ثم تقول مَن خلقه، فتجعلُ منه خالقًا ومخلوقًا في نفس الجملة وهذا تناقض، ويؤكد مصطفى محمود رده بحديث قدسي لله يقول “أنا يُستدل بي.. أنا لا يُستدل عليّ”.

 ثم سأله الملحد صاحبه: تقول أن القرآن لا يناقض نفسه فما بالك في بهذه الآيات “… فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ…” (الكهف:29). والآية الأخرى التي تناقضها “وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ” (التكوير:29).. أليس هذا بتناقض؟ فرد عليه: هذا دليل على الحرية، فالله يخبرنا بأن لنا الخيار بأن نكون مؤمنين أو كافرين، ولكنه يخبرنا أيضا ً أن هذه الحرية لمْ نأخذها غصبا ًمن الله بل هو من أعطانا إيّاها بمشيئته، أي أن حرية العبد ضمن مشيئة الرب وليست ضدها.

 فهو أراد لنا أن نكون مخلوقات مفكرة تختار بنفسها الإيمان أو الكفر، فالكفر يناقض رضا الرب ولكنه لا يتحدى مشيئته، ومفهوم العبودية البشري غير الإلهي، فالسيد هو المستفيد من عبده في عبودية البشر، أما بالعبودية الإلهية فالعبد هو المستفيد بعبوديته من سيده.

فالرب سبحانه لمْ يخلق الجن والإنس إلا ليعطيهم ويحبهم ويرحمهم ويكرمهم ويشرفهم بالخلافة على الأرض، فالله هو الغني سبحانه عن مخلوقاته كلها، فهو يخبرنا أنه لمْ يخلقنا لنعطيه شيئا ً بل لنأخذ منه؛ فالصلاة عبادة وهي تفيد المخلوق ولا تفيد الخالق سبحانه ولا تضره، والدعاء له عباده وهي تفيد العبد لا المعبود سبحانه، وطلب العلم عبادة وهي ككل الأشياء لا تفيد إلا العبد لا المعبود.

الحرية.. و الحساب !

كما تناول د. مصطفي محمود في حواره مع صديقه الملحد موضوعاً جدلياً آخر كان نصه (قال صديقي في شماتة وقد تصوّر أنه أمسكني من عنقي وأنه لا مهرب لي هذه المرة أنتم تقولون: إن الله يُجري كل شيء في مملكته بقضاء وقدر، وإن الله قدَّر علينا أفعالنا، فإذا كان هذا هو حالي، وأن أفعالي كلها مقدّرة عنده فلماذا يحاسبني عليها؟ لا تقل لي كعادتك.. أنا مخيَّـر.. فهل خُـيرت في ميلادي وجنسي وطولي وعرضي ولوني ووطني؟ هل باختياري تشرق الشمس ويغرب القمر؟ هل باختياري ينزل عليَّ القضاء ويفاجئني الموت وأقع في المأساة فلا أجد مخرجاً إلا الجريمة؟!!

 قلت له في هدوء: أنت واقع في عدة مغالطات.. فأفعالك معلومة عند الله في كتابه، ولكنها ليست مقدورة عليك بالإكراه.. إنها مقدَّرة في علمه فقط ..

كما تقدِّر أنت بعلمك أن ابنك سوف يزني.. ثم يحدث أن يزني بالفعل.. فهل أكرهته.. أو كان هذا تقديراً في العلم وقد أصاب علمك، أما كلامك عن الحرية بأنها فِريَة، وتدليلك على ذلك بأنك لم تخيَّر في ميلادك ولا في جنسك ولا في طولك ولا في لونك ولا في موطنك، هو تخليط آخر وسبب التخليط هذه المرة أنك تتصوَّر الحرية بالطريقة غير تلك التي نتصورها نحن المؤمنون أنت تتكلم عن حرية مطلقة.. حرية التصرف في الكون وهذه ملك لله وحده ..

نحن أيضاً لا نقول بهذه الحرية “وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ…” (القصص:68)، ليس لأحد الخيرة في مسألة الخلق، لأن الله هو الذي يخلق ما يشاء و يختار، ولن يحاسبك الله على قِصَرك ولن يعاتبك على طولك ولن يعاقبك لأنك لم توقف الشمس في مدارها، ولكن مجال المساءلة هو مجال التكليف ..

وأنت في هذا المجال حر.. وهذه هي الحدود التي نتكلم فيها، أنت حر في أن تقمع شهوتك وتلجم غضبك وتقاوم نفسك وتزجر نياتك الشريرة وتشجع ميولك الخيرة، أنت تستطيع أن تجود بمالك ونفسك، أنت تستطيع أن تصدق وأن تكذب، وتستطيع أن تكف يدك عن المال الحرام، وتستطيع أن تكف بصرك عن عورات الآخرين، وهذه الحرية حقيقة ودليلنا عليها هو شعورنا الفطري بها في داخلنا فنحن نشعر بالمسئولية وبالندم على الخطأ.

كانت تلك مقتطفات من مؤلفات عديدة للكاتب والمفكر الكبير د. مصطفى محمود .. مقتطفات لأفكار سبقت عصرها وعبرت بشكل صادق ودقيق عن خلجات النفس البشرية.. تلك النفس ذات الفطرة النقية.. القابلة للتحولات المختلفة.. والتقلبات الحادة.. لكنها في النهاية نفس سوية.. رجَّاعة للحق.. تنوب إلى ربها متى تسلل الإيمان إليها، ونفذ نور الحق إلى أغوارها[1].

لمزيد من المعلومات حول التطور الفكري لدى الدكتور مصطفى محمود يمكن للقارئ الكريم متابعة المقطع التالي:

الهامش:

[1] – إضافة المحررة


 المصدر: مجلة الشباب المصرية

مواضيع ذات صلة