هذه أنا اليوم ولست أدري كيف أكون غدا، لكنّني أكتب لأعطي رأيي في موضوع الإعجاز العلمي في القرآن الذي تشعبت حوله الآراء، بينما أجده في داخلي منظما في رأي واحد توصلت إليه بتجربتي الشخصية، فالله تعالى أمرنا بالتدبر، وكم من ملحد عرف الله بعد أن تدبّر في القرآن، ولنا في”جيفري لانغ” وغيره عبرة!
(مقتطف من المقال)
حياة بن بادة
مذ عرفت ذاتي، وآمنت بقيمة عقلي، تبنّيت مبدأ القطيعة الإبستمولوجية[1]، الذي تحدّث عنه “غاستون باشلار” في بعض مواضيع اختصاصي التي تحيّرني، ولا أجد إلّا من يحاول إقناعي بتقبل قواعدها، ونظرياتها كما هي. في مراهقتي، وعندما درست الفلسفة، أخبرتنا الأستاذة أنها أمّ العلوم، الفكرة التي رسّختها في أذهاننا هي أنّ الفلسفة اختصاص واسع تفرّعت عنه العلوم، لكنّ الفلسفة في نظري لم تكن إلّا مرادف كلمة “تأمّل”.
كم كان من الصعب على الناس إشباع عطشي للمعرفة، وعلى أساتذتي إطفاء نار أسئلتي، ووضع حدّ لتجاوزاتي على العلم التي مسّت نظريات علماء كبار، ولا زالت إلى اليوم تمثّل الحقيقة التي لا نقاش فيها، والقاعدة النفسية التي لا تبدّل ولا تعلّل! فلفتني ما نُقل عن باشلار “عندما يدخل العالم إلى المختبر ينبغي أن ينسى كل الآراء التي تلقاها من بيئته، أو مجتمعه، أو محيطه، فالعالم الذي نعيش فيه ليس هو العالم الذي نفكر فيه!”.
منذ سنوات قررت أن أبدأ أنا، وأضع بعض الكتب والنظريات جانبا، وأعود لكتاب الله وسنة نبيّه. ولست بما رزقت من عقل ممّن يساندون رأيا، لأن جماعة أصدرتها، ولا ممن يقاطعون فكرة، لأن جماعة تبنّتها. ولست أيضا ممّن يفصلون العقل عن القلب، فمذ بدأت التدبّر في القرآن، آمنت أنّ القلب مركز العقل، وما العقل إلّا محرّكه، تماما كما للسيارة محرّك، وأن القلب لا يعاني من مشكلة في الإبصار، إلّا إذا تعطلت أسلاك عقله، وأن انفعالاتي، وأفكاري، وقراراتي كلها تنبع من مركز واحد.
الإعجاز العلمي الذي تشعبت حوله الآراء…
هذه أنا اليوم ولست أدري كيف أكون غدا، لكنّني أكتب لأعطي رأيي في موضوع الإعجاز العلمي في القرآن الذي تشعبت حوله الآراء، بينما أجده في داخلي منظما في رأي واحد توصلت إليه بتجربتي الشخصية، فالله تعالى أمرنا بالتدبر، وكم من ملحد عرف الله بعد أن تدبّر في القرآن، ولنا في”جيفري لانغ” وغيره عبرة!
كان الطفل في بيئتي يلتحق بالمسجد لحفظ القرآن قبل أن يبلغ الرابعة من عمره، وتلّقنه الأمّ السور القرآنية مع أوّل مناغاة. كان القرآن هويّتنا وحفظه الكامل شرفا عظيما؛ يؤهّل الطفل لتكريم ضخم في المسجد والبيت. كنت ألتحق بحلقة الحفظ بعد خروجي من المدرسة مساء؛ وفي العطل صباحا ومساء، وكانت أمّي تحرص حرصا على أن نحفظ كتاب الله، لكنها لم تكن تسألنا عن فهمنا له. ومع تقدمي العمري؛ صرت لا أرى أي جدوى من الالتحاق بالمسجد، فاكتفيت بقراءته في البيت مع تكاسل في الحفظ، في الوقت الذي كان فيه إخوتي الصغار يتقدمون في حفظه إلى أن أتمه أخي، وشارفت أختي على حفظه كاملا. وبقيت هكذا أقرؤه، وأرتّله بصوت لطالما وصفه الناس بالشجيّ، ومنحني فيما بعد شرف استفتاح حلقات القرآن بترتيلي.
نعم، لم أكن أتدبّر القرآن وكنت أتهرّب من حلقات الدين التي انضمّ إليها إخوتي كلما أمرتني أمّي بذلك، وكان همّي إتقان اللغات، حتى جاء “شون”؛ طالب الفيزياء الأمريكي الملحد الذي سأل إحدى صديقاتي عن قوله تعالى “فَلا أُقْسِمُ بالخُنَّسِ” (التكوير:15). يومها عجزت صديقتي عن إجابته، فاتّصلت لتستعين بي، اعتقادا منها أنني قد تحكمت في علوم الدين كتحكمي في التواصل باللغة، فاعتذرتُ وكلي أسف على حالي كمسلمة تجهل معاني القرآن الكريم، ولن تستطيع بذلك المستوى أن تجيب على تساؤلات ملحد يبحث عن الحقيقة، اتخذ القرآن كخطوة أخيرة في مساره هذا، علّه يؤمن بوجود إله.
وتكرّر معي الموقف، فتذكرت كيف كنت أتمنى إتقان اللغات وأسهم في نشر الإسلام، لكنّ الانجليزية وبكل ما أوتيت فيها لم تكن لتؤهلني لمهمة كهذه، فتهرّبت من كل من يدعوني لنقاش ملحد، وأخذت أنسحب من كل مجموعة على الفيسبوك يضيفني إليها أصدقائي المعجبين بنقاشاتي، ولغتي، وحدي كنت أعلم من أنا، أنا لم أكن أهلا للدفاع عن الإسلام.
قررت العودة لكتاب الله
بعد فترة قصيرة شاهدت مناظرة لمجموعة من الشباب المسلمين مع ملحدين في ركن الخطباء بحديقة هايد بارك بلندن، وأعجبت بهم كثيرا. كانوا مختلفين جدا عن أولئك الذين تعودت رؤيتهم في الحلقات الدينية، شكلا ومضمونا. شباب إذا رأيتهم لم تخش من الرفض بسبب شكلك، يشبهونك في طريقة اللباس، وفي المرح، لكنهم يختلفون عنك في درجة المعرفة، يختلفون كثيرا، ويسلم على أيديهم الناس، فقررت يومها العودة لكتاب الله، والتحقت بأقرب المساجد، وخصصت وقتا لحفظ القرآن من جديد، والتدبر في معانيه بعد صلاة الفجر، وقبل موعد الجامعة.
وبعدها تعمقنا في دراسة العلاجات، انتبهت أن هناك توافق بين ما قدّمه العلماء وبعض الآيات القرآنية، فتفجّر شغفي بالربط بين تلك التقنيات وما هو مذكور في القرآن، وأدركت أن هذه المعجزة تحتوي على العلوم يوم وجّهني العلم للتدبّر في إشاراتها، فسعيت لإيجاد تقنيات أخرى في العلاج النفسي من تلك الإشارات أدعّم بها العلم، وأطبّب بها النفوس، رغم أن بعض أساتذتي كانوا يعتبرونه كتاب دين فقط، فلم أكن أناقشهم في ذلك لأنّني اقتنعت أنه بالفعل ليس كتابا علميا، وإنّما أكبر من ذلك وأعظم! كتاب ديني سماوي فيه الحياة، بروحانيتها، وعلومها، ومناهجها، وقوانينها، هو كلام الله، ورسالته، وهو الهداية بمعانيها الواسعة وسندي، خاصة وأنّهم قالوا لي في الصغر “إذا أردت الحديث إلى الله فعليك بالصلاة والدعاء، وإن أردت أن تسمعيه فعليك بقراءة القرآن”.
ولا يعقل ألّا يوجّهني خالق الكون إلى كلّ صغيرة وكبيرة في حياتي وهو يخاطبني فقال سبحانه وتعالى “وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ” وقوله “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ” وقوله “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ“.
كان “شون” من المهتمين بالفضاء، والمتخصصين في الفيزياء، وأنا من عشاق علم الفلك، لكنّ هذا العشق لم يؤهلني للإجابة على سؤاله: “لديكم تفاسير كثيرة للقرآن، فالآية الواحدة قد تحمل معان كثيرة، وهذا لا يدلّ على صحة العلاقة بين العلم والقرآن”. لم يكن هدفه الوصول إلى إجابة علمية في سؤاله عن سورة التكوير، بقدر ما كان سعيا للتعرّف على منزّل القرآن، ولم يبحث عندنا عن إثبات علمي يجعلنا نقنعه باعتناق الإسلام، فهو يعلم مدى ضعف العرب العلمي مقارنة بالغرب، ولكن سؤاله كان موجها للذّي وضع هذه المعلومة في كتاب المسلمين الديني.
ولم أكن لأخبره أنّ العلم متغير، والقرآن ثابت، وأن كتاب الله لا يقارن بجزئية والدليل أن الله وضع عددا من الإشارات العلمية في آيات، وترك لنا مهمة التدبر. لم أكن لأناقشه في مفاهيم الفيزياء المتغيرة من نيوتن إلى أينشتاين، فقد كنت بعيدة عن عمق القرآن، وربما عاجزة عن التعريف بالله بشكل يجعله يعيد تفكيره، ولم أكن أفهم قوله تعالى “إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ“. لم أكن أعرف القرآن جيّدا، ولم أكن أدرك أن روحانيته تزداد بازدياد حجم التدبر فيه.
نفسي تحتاج لقراءة
كنت كلما قرأت قوله تعالى “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ” فهمت أن نفسي تحتاج لقراءة، والكون يحتاج لقراءة، وهذه القراءة تبدأ بالتأمل، وتمرّ بالإدراك، والتحليل، فالوعي، وتنتهي إلى الإيمان. وأتذكّر جيّدا يوم وقفت عند قوله تعالى: “يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” تساءلت أيعقل أن تكون تحت الجلد آلة تسجيل فيزيولوجية؟ حتى وجدت الإجابة في علم التحقيق الجنائي.
ووقفت عند قوله “أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا” أتأمّلها وكلي إيمان أنّ مع هذه البلاغة والإبداع في التصوير سرّ خارق، فأكّدت الأبحاث العلمية ما كان يدور في ذهني، وفهمت ماذا تعني “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ” كلّما رأيت العلماء يعتنقون الإسلام بعد اكتشاف.
وزادني صنع الله حبا لعلم الفلك، وتعلّقا بتلك الإشارات التي صرت أنقّب عنها بين الآيات البديعة بنهم، وغيرها من الآيات القرآنية والكونية، فالآية لغة ليست مجرد جملة منفصلة عن أخرى في القرآن، وإنما هي العلامة والعبرة والمعجزة!
وكلما تأمّلت في اجتهاد الغرب العلمي وتكاسلنا حتى صار الإسلام يهاجم بنا، تذكّرت قوله تعالى “إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا“، وقارنت بين علماء الغرب الذين عرفوا الله ببحثهم، فهداهم للعودة إليه، وأولئك الذين تكبّروا من المسلمين حتى ارتدّوا وألحدوا! فرأيت في الفئة الأولى نصرة للحق بمشيئة الله.
إنّ حديث “شون” عن كثرة التفاسير يعيدني إلى تفسير قوله تعالى “وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ“، وكيف تدرّجت التفاسير من مرحلة إلى أخرى، وكيف اعتقد المفسرون الأوائل أن القصد من الآية هو ضعف البيت ووهنه، بينما أثبت العلم قوة نسيجه، وكشف سرّا آخر، وهو أنّ بيت العنكبوت هنا هو البيت الأسري الذي يتّصف بضعف العلاقة المنتهية بعد المصلحة، حيث يتحول أفرادها إلى أعداء يأكل بعضهم بعضا. فهل كان “شون” يعلم أنّ كثرة التفاسير ناتجة عن الاجتهاد، وعن عظمة أسلوب الله العميق في الوصف، والتعبير، وأنّ الحقيقة العلمية لم تتنافَ مع القرآن، بل نحن من أوتينا من العلم القليل، وهذه الحقائق يمكن أن تتحول إلى أخرى أعمق بتدبّر أذكى.
حاشاه كتاب الله أن ينزل لمستوى يكون فيه كتابا علميا، بل ما أعظمه من معجزة تتجسّد فيها الحياة بكل ما فيها من عبادة، وروحانية، وعلوم، وقوانين، ومناهج، وتربية، وعبر، وحلول، وشفاء، وإبداع، وصناعة، ومتنفس، وأسرار تؤكّد وحدانية الأحد. وحاشاها عظمة الله أن تقاس بعقول القاصرين التي جعلتهم يشوّهون كل عملية تدبّر يقوم بها المؤمنون.
الهامش:
[1] – تعريف الابستمولوجية: (Epistemologies)
هو مصطلح جديد أو لون جديد من الدراسات التي تتخذ المعرفة موضوعا لها، وأن شيوع الوسع لهذا المصطلح دليل على وجود مشاكل جديدة أو نظرات جديدة إلى مشاكل قديمة تدعوا الحاجة إلى جعلها موضوعا لعلم جديد.
ويشتق هذا المصطلح من كلمتين يونانيتين (Episteme) ومعناها، (علم) و (Logos) معناها (علم، نقد، نظرية، دراسة) . فالابستمولوجية إذن من حيث الاشتقاق اللغوي وهى (علم العلوم) أو (دراسة النقدية للعلوم) .
ولهذا تعرف الابستمولوجية بأنها: “صفة جوهرية إي الدراسة النقدية للمبادى أو الفرضيات أو النتائج العلمية الهادفة إلى بيان أصلها المنطقى لا النفسي ، وقيمتها وأهميتها الموضوعية”.
إن مفهوم القطيعة الابستمولوجية، هو المفهوم الذي يعبر في نظر غاستون باشلار عن القفزات الكيفية في تطور العلوم ويكون من نتائجها تجاوز العوائق الابستمولوجية القائمة.
المصدر: بتصرف يسير عن مدونات الجزيرة