لما كانت المجتمعات البشرية تحوي نقائض لهذه الصور ممن قست قلوبهم من الناس، وماتت ضمائرهم، وتمكنت نوازع الشر منهم حتى أصبحت العدوانية مكونا رئيسيا لطباعهم، وجزءا لا يتجزأ من تكوينهم كان لا بد من تشريعات حاسمة لمواجهتهم.
(مقتطف من المقال)
بقلم الدكتور/ زغلول النجار
قال تعالى: “مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً” (المائدة:32).
هذا النص القرآني الكريم جاء في بداية الربع الثاني من سورة المائدة، وهي سورة مدنية، وآياتها مائة وعشرون بعد البسملة، وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلى المائدة التي أنزلها الله ـ تعالي من السماء علي عبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم كرامة له واستجابة لدعائه.
ويدور المحور الرئيسي لسورة المائدة حول عدد من التشريعات الإسلامية – شأنها في ذلك شأن كل السور المدنية – ومنها التشريع بعدد من الأحكام اللازمة لإقامة الدولة الإسلامية، وتنظيم مجتمعاتها على أساس من الإيمان بوحدانية الخالق ـ سبحانه وتعالي وألوهيته، وربوبيته، وتفرده بالحاكمية المطلقة فوق جميع خلقه، ومن ثم كان تفرده بالحق بالتشريع لعباده، ومن ذلك تشريع القصاص الذي يعترض عليه كثير من الناس الذين لم يدرسوا واقع الحياة بشيء من العمق.
من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم
في هذا النص القرآني الكريم يقرر ربنا ـ تبارك وتعالي أن قتل إنسان واحد ـ بغير حق يمثل قتل الناس جميعا، وهذا الحق الذي يستوجب قتل النفس الإنسانية يقتصر علي أن يكون ذلك الإنسان قد قتل نفسا فيستحق القصاص من قبل الحاكم أو أن يكون قد قام بإفساد في الأرض يوجب إهدار الحاكم دمه ( كالحرابة وقطع الطريق، ومقاومة الحاكم الصالح) أو أن يكون قد اقترف الردة المعلنة وأثار الفتنة بها، مما يعتبر كبيرة من الكبائر. وهذه الكبيرة تخلد الواقع فيها في النار إن لم يقتص منه، وأن لم يكن قد تاب إلي الله توبة صادقة قبل تنفيذ القصاص فيه.
كذلك جعل النص الكريم العمل على إنقاذ نفس واحدة من الموت معادلا لإنقاذ حياة الناس جميعا، لأنه يكون بذلك قد عظم شأن الحياة، ودعا غيره إلى تعظيمها والمحافظة عليها وبذل أقصي الجهد لإنقاذها، لأن الحياة لا يأخذها إلا واهبها.
والحكم من الله لهذا التشريع الإلهي هي تعظيم حرمة قتل النفس الإنسانية في قلب العباد، فقتل نفس إنسانية واحدة ـفي غير قصاص لقتل، وفي غير دفع لفساد في الأرض ـ يعدل قتل الناس جميعا، وتعليل ذلك أن حياة كل فرد من بني آدم قد حددها رب العالمين الذي خلقها بقدرته، وقرر لها أجلها في الوقت الذي يعلمه بعلمه المحيط أن دور هذه النفس على الأرض قد انتهي.
لذلك لا يجوز لإنسان أن ينتزع الحياة من إنسان آخر إلا بأمر الله – سبحانه وتعالي- وحسب شريعته. فحق الحياة لا يملكه إلا الله الذي كتب أجل كل فرد من بني آدم وهو لايزال جنينا في بطن أمه، وبالتالي لا يجوز أن يتدخل غيره في هذه الآجال.
وفي المقابل، فإن الله – تعالي- يحمد للعبد من عباده أن يغيث مستغيثا أو أن يلبي حاجة مضطر أو أن ينقذ غارقا أو مصابا بإحدى مصائب الدنيا أو أن يدفع الموت عن نفس بشرية، في حالة من حالات الاضطرار، سواء كان ذلك بدفع الأذى عنها في حياتها أو بالقصاص لها في حالة وقوع الاعتداء عليها بالقتل بما يمنع المزيد من القتل، ويردع من تغرية نفسه بالوقوع فيه.
وينطبق هذا الحكم الإلهي على كل صاحب مهنة وحامل مسئولية في المجتمع الإنساني وهؤلاء جميعا يحفظون حياة الأفراد في مجتمعاتهم حتى يأتي أمر الله، ويشبههم النص الكريم بمن ينقذ حياة الناس جميعا إذا تمكن أحدهم من إنقاذ حياة فرد واحد من عباد الله.
ولما كانت المجتمعات البشرية تحوي نقائض لهذه الصور ممن قست قلوبهم من الناس، وماتت ضمائرهم، وتمكنت نوازع الشر منهم حتى أصبحت العدوانية مكونا رئيسيا لطباعهم، وجزءا لا يتجزأ من تكوينهم كان لا بد من تشريعات حاسمة لمواجهتهم.
فمن أجل حماية المجتمعات الإنسانية من أخطار هؤلاء جميعا نزل هذا التشريع الإلهي رادعا لهم، ومحجما لشرورهم، وذلك بالقصاص الرادع للقاتل بغير نفس أو فساد في الأرض، ووصم جريمته بأنها قتل الناس جميعا.
وهذا هو قضاء الله – تعالي- وهو أحكم الحاكمين ـ في قتل فرد واحد من بني آدم بغير حق، فما بال الذين أشعلوا ومازالوا يشعلون الحروب المحلية والعالمية، وتسببوا ـ ولا يزالون ـ في قتل وتشريد ونهب وتعذيب الملايين من البشر الأبرياء؟ وما بال الذين يتاجرون في الأعضاء البشرية من أجل بعض المكاسب المادية؟ وما بال تجار المخدرات والمسكرات والمفترات وغيرها من المحرمات التي أهلكت الملايين من بني آدم ومازالت تقضي على من خلفهم؟ وما بال الذين شيدوا المباني والمنشآت بغير الشروط اللازمة للسلامة فتسببوا في العديد من الكوارث الإنسانية؟ وما بال كل تاجر وصانع وموظف ومسئول خان الأمانة الملقاة على عاتقه فتسبب في قتل نفر من الأبرياء؟ وما بال أصحاب التارات يقتلون من يعرفون ومن لا يعرفون بالعشرات إن لم يكن بالمئات؟ وعلى هؤلاء جميعا أن يقرأوا قول الحق ـ تبارك وتعالي: “…مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً…” (المائدة:32).
المصدر: بتصرف يسير عن موقع الدكتور زغلول النجار