تحرّوا حدود الله.. قوامة الرجل لا تعني القهر!

   إننا نريد أن نتفق أولاً على إقامة حدود الله، كما رسمها الكتاب الكريم، وشرحتها السنة المطهرة، وأرى أن ارتفاع المستوى الفقهي والخلقي والسلوكي لكلا الجنسين سيوطد أركان الإسلام داخل البيت وخارجه…

د. محمد الغزالي

حدود الله

هل قوامة الرجل على بيته تمنحه حق الاستبداد والقهر وإهدار الحقوق الإنسانية للزوجة؟

هل قوامة الرجل على بيته تعني منحه حق الاستبداد والقهر؟ بعض الناس يظن ذلك وهو مخطئ! فإن هناك داخل البيت المسلم ما يُسمى “حدود الله” وهي كلمة لاحظتُ في تلاوتي للقرآن الكريم أنها تكررت ست مرات في آيتين اثنتين!!!

  والآيتان في دعم البيت المسلم حتى لا يتصدع، وفي تدارك صدوعه حتى لا ينهار.. وهما قوله تعالى “الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” (البقرة: 229-230).

     ما هذه الحدود التي تكررت ست مرات خلال بضع سطور؟ إنها الضوابط التي تمنع الفوضى والاستخفاف والاستضعاف، ضوابط الفطرة والعقل والوحي التي تقيم الموازين القسط بين الناس، إن البيت ليس وجارا تسكنه الثعالب، أو غابا يضم بين جذوعه الوحوش.

        لقد وصف الله مكان المرأة من الرجل ومكان الرجل من المرأة بهذه الجملة الوجيزة “… هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ” (البقرة:187) إن هذا التمازج بين حياتين يكاد يجعلهما كياناً واحداً.

     وليست الغريزة هي الجامع المشترك، فالنزوة العابرة لا تصنع حياة دائمة! وقد عنى المفسرون الكبار بجوّ البيت المسلم وهم يشرحون حدود الله التي تكررت كثيراً فيما سقنا من آيات، وكان أهم ما حذروا منه الظلم! قال صاحب المنار رحمه الله: “… والظلم آفة العمران ومهلك الأمم، وإن ظلم الأزواج للأزواج أعرق الإفساد وأعجل في الإهلاك من ظلم الأمير للرعية، فإن رابطة الزوجية أمتن الروابط وأحكمها فتلاُ في الفطرة الإنسانية! فإذا فسدت الفطرة فساداً انتكث به هذا الفتل، وانقطع ذلك الحبل، فأي رجاء في الأمة من بعده يمنع غضب الله وسخطه.. إن هذا التجاوز لحدود الله  يشقي أصحابه في الدنيا كما يشقيهم في الآخرة وقد بلغ التراخي والانفصام في رابطة الزوجية مبلغاً لم يعهد في عصر من العصور الإسلامية، لفساد الفطرة في الزوجين، واعتداء حدود الله من الجانبين”.

إقامة حدود الله

     والواقع أن داخل البيت يتأثر بخارجه، وتيارات الميوعة والجهالة والإسراف إذا عصفت في الخارج تسللت إلى الداخل فلم ينج من بلائها إلا من عصم الله..!

     إننا نريد أن نتفق أولاً على إقامة حدود الله، كما رسمها الكتاب الكريم، وشرحتها السنة المطهرة، وأرى أن ارتفاع المستوى الفقهي والخلقي والسلوكي لكلا الجنسين سيوطد أركان الإسلام داخل البيت وخارجه، وسيجعل المرأة تبسط سلطانها في دائرتها كما تتيح للرجل أن يملك الزمام حيث لا يصلح غيره للعمل في زحام الحياة وعراكها الموصول..

     إذا كان البيت مؤسسة تربوية أو شركة اقتصادية فلا بد له من رئيس، والرياسة لا تلغي البتة الشورى والتفاهم وتبادل الرأي والبحث المخلص عن المصلحة.

إن هذا قانون مطرد في شئون الحياة كلها، فلماذا يستثنى منه البيت؟

     وقوله تعالى في صفة المسلمين “وأمرهم شورى بينهم” نزل في مكة قبل أن تكون هناك شئون عسكرية أو دستورية! وعموم الآية يتناول الأسرة والمجتمع، ويقول الأستاذ أحمد موسى سالم: إن القوامة للرجل لا تزيد عن أن له بحكم أعبائه الأساسية، وبحكم تفرغه للسعي على أسرته والدفاع عنها ومشاركته في كل ما سيصلحها.. أن تكون له الكلمة الأخيرة – بعد المشورة – ما لم يخالف بها شرعاً أو ينكر بها معروفاً أو يجحد بها حقاً أو يجنح إلى سفه أو إسراف، من حق الزوجة إذا انحرف أن تراجعه وألا تأخذ برأيه، وأن تحتكم في اعتراضها عليه بالحق إلى أهلها أو إلى سلطة المجتمع الذي له وعليه أن يقيم حدود الله”.

 وهذا كلام حسن، وأريد هنا إثبات بعض الملاحظات:

أولا:  أن النفقة معصوبة بجبين الرجل وحده، وأن إنفاق المرأة في البيت مسلك مؤقت وتطوّع غير ملزم، وعليها أن تجعل أثمن أوقاتها لتربية أولادها والإشراف العلمي والأدبي عليهم.

ثانيا: أن دور الحضانة مأوى موقوت تلجئ إليه ضرورات عابرة وأن الأساس في الإيواء والتربية هو البيت الأصلي ودفئ الأمومة وحنانها!

ثالثا: حرمات الله حولها في الإسلام أسوارٌ عالية يجهلها كل سكران أو ديوث، وتقاليد الغرب التي تتيح لأي امرئ أن يراقص أي امرأة بإذن أو بغير إذن من زوجها يرفضها ديننا كل الرفض، وليس لرجل أو امرأة أي حرية في انتهاك حدود الله واعتداء حرماته..

رابعا: الأسرة مملكة ذات حدود قائمة تشبه حدود الدول في عصرنا وطبيعة هذه الحدود الحماية والمحافظة، فليست البيوت مبنية على سطح بحر مائج التيارات، وليست بابا مفتوحاً لكل والج وخارج..

     و لعقد الزواج أبعاد فقهية واجتماعية وتربوية ينبغي أن تعرف وأن تعرف معها قوامة الرجال..

     وكان من السهل أن يتضح ذلك لو سارعنا إلى إنشاء “علم اجتماع” إسلامي، تلتقي فيه قضايا الأسرة كلها إلى جانب ضروب التعاون والتلاقي بين طوائف الناس المختلفة..  ولكننا ما نزال نحبو في هذا المجال مكتفين بالترجمة والتقليد، مع أن العلوم الإنسانية في برامجها الجديدة تمسّ كيان الأسرة من زوايا كثيرة، بل إن علوم التربية والأخلاق والاقتصاد والاجتماع – قبل علم القانون – تتصل بشئون الاسرة.

     و قد غضبت نسوة غيورات لما عرّف الفقهاء عقد الزواج بأنه “عقد يبيح حل المتعة بالمرأة”! وظاهره أن التعريف قاصر عن المعنى الكبير للعلاقة بين الزوجين!

إنه تناول الجانب الذي يدخل منه القانون، ولم يتناول الجوانب التي تدخل منها بقية العلوم الإنسانية، والزواج أكبر من أن يكون عقد ارتفاق بجسد امرأة..”وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ” (النحل:72

     قالت لي امرأة غاضبة: (إذا غضب مني زوجي في حوار، قد أكون فيه صاحبة حق حُرمتُ رضوان الله، ولعنتني الملائكة و..) فقاطعتها على عجل، وأفهمتها أن الحديث الوارد في شأن آخر بعيد عما تتوهمين.. الحديث ورد في امرأة عرَّضت زوجها للفتنة لأنها تمنعه نفسها، وهو لا يستغني عنها.. ذاك هو المراد!!.

     إن الإسلام يقوم على حقائق الفطرة والعقل، لأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها.

___________________________

المصدر: بتصرف يسير جدا عن كتاب/ قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة، د. محمد الغزالي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة التاسعة.

مواضيع ذات صلة