موسى والعبد الصالح.. فقه “الانطلاق” إلى الواقع

على درب الالتحام بين الشريعة والحياة، تأخذنا قصة موسى والعبد الصالح ، من الرؤية الجزئية للنصوص، إلى الرؤية الشمولية لها، ومن الفهم “التبعيضي” إلى الفهم “الشمولي”، ومن الألواح الحجرية الجامدة التي نحتت عليها هذه النصوص، إلى واقع تشكله وتعيد بناءه النصوص…

د. أحمد خيري العمري

موسى والعبد الصالح

قصة موسى والعبد الصالح تفتح أعيننا على ذلك، فإذا بها تقدم لنا زاوية أكثر انفراجًا ننظر فيها ومن خلالها لكل من أحكام الشريعة وأحكام الحياة.

السرد القرآني لقصة موسى والعبد الصالح يمتلك عدة مستويات للقراءة، كل مستوى منها لا يلغي الآخر، بل يتكامل معه، ويتدرج معه إلى المستوى العام الشامل، وكل هذه المستويات بريئة تماماً مما رسب في الخيال الشعبي من القصة، التي حولت العبد الصالح (الخضر) إلى شخصية أسطورية لم تذق طعم الموت، ونسجت في ذلك القصص والحكايات، وجعلت له مقامًا يستحق النذور في كل بلد، وهذا كله هو النقيض تماماً، ليس من السرد القرآني لهذه القصة فحسب، بل من كل ما أراده لنا القرآن ومن كل مقاصده وأهدافه.

محور قصة موسى والعبد الصالح في جوهرها عندما نأخذها في إطار الشكل والأطوار المتعاقبة، هو النزول بالفكر والعقيدة إلى الواقع، إلى التفاعل الاجتماعي الحقيقي الذي يدخل هذا الفكر ليكون طرفًا في معادلة البناء الاجتماعي.

إنه النزول بالنظرية من إطار التنظير وتحديد الثوابت التي رأيناها في الطورين السابقين إلى إطار التطبيق، حيث المحك الحقيقي لمصداقيتها، فقوة أي نظرية، في النهاية، ليست في تماسكها ضمن إطارها الفكري وجدالها مع النظريات الأخرى، ولكن قوتها الحقيقية هي في صمودها عندما تتفاعل مع الواقع وتمكنها من الإثمار فيه والوصول إلى أهدافها عبره.. قوتها في قدرتها على تغيير الواقع وجعله يتلاءم مع طروحتها.

امتحان أي نظرية هو في تمكنها من إثبات أن ما تنادي به ليس مجرد شعارات برّاقة، بل هو حقيقة يمكن الوصول إليها.. و الانتقال من الإطار النظري إلى الإطار التطبيقي، والنجاح هناك أصعب بكثير من البقاء في أسر النظرية..

قصة موسى والعبد الصالح تفتح أعيننا على ذلك، فإذا بها تقدم لنا رؤية جديدة للعلاقة بين الشريعة والحياة، وتقدم لنا زاوية أكثر انفراجًا ننظر فيها ومن خلالها لكل من أحكام الشريعة وأحكام الحياة، فإذا بالاثنين يلتحمان معاً، بدلاً من انفصالهما المزعوم، وبدلاً من الهوة التي يشتكي منها الجميع، نجد ذلك التماهي بين الاثنين الذي يرفع مستوى الحياة، ويخرج الشريعة من رفوف الكتب وأطر التنظير..

على درب الالتحام بين الشريعة والحياة، تأخذنا قصة موسى والعبد الصالح، من الرؤية الجزئية للنصوص، إلى الرؤية الشمولية لها، ومن الفهم “التبعيضي” إلى الفهم “الشمولي”، ومن الألواح الحجرية الجامدة التي نحتت عليها هذه النصوص، إلى واقع تشكله وتعيد بناءه النصوص..

أول ما يلفت النظر في السياق القرآني هو أن موسى، كليم الله، صاحب المنزلة الرسولية المهمة، والأعلى قطعًا في زمانه، لم يتردد – على مكانته – في السفر لغرض التعلم وطلب العلم، ولكن فننتبه هنا أن هذا ليس مجرد تواضع طالب العلم، بل معرفته المسبقة أن النزول من المكتبة أو البرج العالي يتطلب علمًا إضافيًا، علم ما بين السطور، علم روحية النص ومقصده، وذلك لا يحدث إلا بالجمع بين النص والواقع، عبر رؤية شمولية لكل من النص والواقع، وهنا تأتي تلك الإشارة المذهلة إلى عزم موسى على الوصول إلى مجمع البحرين “وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ  لاَ  أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً” (الكهف:60)، فمجمع البحرين هنا يمكن أن يكون كناية عن ذلك التلاحم والالتقاء الفعال بين أمرين مهمين، بين النص – الذي سيظل مهمًا حتى في حرفيته ومباشرته – وبين فقهه وفهمه بشكل يجعل حروفه تثمر وتنتج واقعًا جديدًا..

شيء آخر يلفت النظر هنا، وهو أن موسى يحدد الرشد، مطلبًا أساسيًا، وليس العلم فحسب “قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً” (الكهف:66)، فليس العلم هو ما ينقص موسى، ولكنه يريد الرشد: أي كيف يكون هذا العلم الذي عنده ضمن منظومة موصلة إلى الحق.. إلى الرشاد.. أي إنه ليس العلم المجرد.. ليس العلم فحسب، بل العلم الموصل إلى بناء المجتمع من جديد. العلم الذي يسخر من أجل قيم هذا المجتمع وليس العكس..

يلفت النظر أيضًا هنا في ردّ العبد الصالح أمران اثنان، الأول: أنه طالب موسى بالصبر ابتداءً “قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرا” (الكهف:67)، وهذا يشير إلى صعوبة المهمة ووعورة الطريق الفاصل بين النقطتين، وهو أمر سنلاحظه في ثنايا القصة..

الثاني: هو أن الصعوبة تتحدد في (عدم الإحاطة) “وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً” (الكهف:68)، أي أن المشكلة هي في فهم تجزيئي، فهم تبعيضي، لا يرى من الأمور غير بعض الجزئيات التي تجعل من الإثمار ومن إنتاج الواقع الجديد أمرًا صعباً إن لم يكن مستحيلاً، أما “الإحاطة” التي أشار إليها العبد الصالح، فهي ذلك الفهم الشمولي الذي فيه الكل غير منفصل عن الجزء، والتفاصيل منتظمة داخل منظومتها الأوسع، بشكل يجعلها فاعلة ومتفاعلة.. كل ما علمه العبد الصالح لموسى كان يرتكز على إزالة الفهم الجزئي –للنص أو للواقع- وعلى إحلال رؤية شمولية تجمع النص بالواقع..

العالم برؤية موسى.. و العالم برؤية العبد الصالح

الرحلة فيها ثلاثة مواقف، يجعلنا السياق القرآني نمر فيها أولاً ونحن نرى بعدسة سيدنا موسى، فنكاد نهب معه معترضين على ما نرى، ثم يجعلنا السياق القرآني نمر على المواقف نفسها ولكن هذه المرة ونحن نرى بعين العبد الصالح، فنرى كل شيء مختلفًا، ونوافق على ما فعل كما لو أننا لم نعترض قبل قليل، والفرق بين موقفنا في الحالتين هو الفرق بين الحكم المبنى على الرؤية التجزيئية، والآخر المبنى على الرؤية الشمولية..

في الموقف الأول.. وعبر الرؤية التجزيئية نرى (السفينة)، ونرى الخرق الذي أحدثه العبد الصالح، فلا نرى غير النتيجة الآنية المباشرة لهذا، أي تخريب السفينة وإحداث ضرر فيها، ولذلك نقف مع اعتراض سيدنا موسى الذي سيبدو متناسقاً مع كل ما نعرفه من نصوص دينية تشدد على عدم إحداث الضرر بممتلكات الآخرين.. وسيبدو هذا كأنه القراءة الوحيدة الممكنة للنص وللواقع.. لكن هذه هي رؤية موسى الذي نزل بأمر الله سبحانه وتعالى إلى الواقع ليتعلم كيف ينزل قيم الألواح الحجرية إلى هذا الواقع.. ولكنها رؤية تنقصها الإحاطة، تنقصها شمولية النظر، وتسقط في كونها تبعيضية..

لكن عبر الرؤية الأخرى للعبد الصالح، عبر الرؤية الشمولية، تتسع زاوية الرؤية فنرى السفينة ضمن محيطها الاجتماعي الأوسع، فلا تبقى السفينة مجرد ألواح وخشب، مجرد وجود فيزيائي، بل تصير مرتبطة بالنسيج الاجتماعي الذي يرتبط بهذه السفينة، فإذا عليها مساكين يعملون في البحر، ووراءهم ملك يغتصب ما يحلو في عينه من الممتلكات ومن ضمنها السفن، وهكذا سيبدو أمر المحافظة على السفينة، ولو بعيب، ولو بتعرضها لخطر يستطيع عمالها إصلاحه لاحقًا، أهم من المحافظة على سلامة ألواحها وخشبها، مقابل اغتصاب المَلِك لها..

في الموقف الثاني.. نرى أولاً “الغلام”.. مجرد غلام لم يرتكب ما يستحق أن يقتل من أجله، لذلك سنرى موسى محقًا في اعتراضه، لكننا لاحقًا موسى والعبد الصالحنرى أن الغلام ليس معزولاً عن وسطه الاجتماعي، وأن له تأثيرا سلبيًا على أقرب المقربين له: أبويه “يرهقهما كفرًا”..

إنه ذلك “الابن” الذي تتبين ملامح عقوقه وجحوده مبكرًا، وتكون إزالته المبكرة، على ما في ذلك من ألم، أقل إيلامًا من الإبقاء عليه وعلى مشاكله وعلى ما سينتج عنه من سلبيات يكبر حجمها مع الوقت؛ لذلك فإن (قتله) هنا وفي هذه المرحلة، في وقت أبواه لا يزالان قادرين على الإنجاب، سيسبب لهما الألم حتمًا، لكنه سيدفعها على تكرار الإنجاب..

في الموقف الثالث.. نرى موسى والعبد الصالح وهما بحاجة إلى طعام وضيافة، وهنا سيكون من حق موسى المطالبة بأجر يقيم أودهما لقاء إقامة العبد الصالح جداراً كان آيلاً للسقوط، لكن الرؤية الأوسع، ستجعلنا نرى مجتمعًا آيلاً للسقوط، وليس فقط جدارًا متهاويًا، مجتمعًا بلغَ أفراده حدًا من الفردية والانغلاق لدرجة أن المجتمع مقبل على التشظي، الرؤية الأولى تجعلنا نرى جداراً يشرف على السقوط ومعدتين خاويتين، أما الرؤية الثانية فهي تجعلنا نرى بناءً اجتماعيًا يشرف على السقوط وفقداناً آتياً لكل قيم العدالة والتكافل الاجتماعيين..

“إقامة الجدار” هنا كان عملاً ترميميًا يمد في عمر البناء، دون أن يعني ذلك أن هذا هو الحل، فهذا المجتمع كان يحتاج إلى جيل جديد قادم (ممثلاً في الغلامين اليتيمين، النبتة الصالحة التي ذاقت معنى الظلم الاجتماعي) وهو جيل سيستطيع أن يستثمر الكنز الدفين عبر هدم واعٍ لأسس هذا البناء الاجتماعي، هدم بتخطيط مسبق، وليس مجرد انهيار عشوائي.. أي إن إقامة الجدار هنا كانت إطالة لعمره إلى حين الوقت الذي يجب أن يهدم فيه تماماً..

لكن لماذا لم يأخذ الخضر الأجر؟ ليس فقط لأن الاستثمار الأهم بعيد المدى كان في الكنز، ولكن لأن المطالبة بالأجر، بعد إقامة الجدار، قد تجعل صنفًا كهذا من الناس، يندفع إلى هدّ الجدار من أجل التهرب من دفع الأجر، وكان هذا سيكشف الكنز، لذا كان يجب تناسي الأمر، من أجل ذلك الاستثمار ربحًا، الذي سيأتي على يد جيل آخر، قادم لا محالة..

الخرق الذي أحدثه الخضر لم يكن في السفينة فقط، بل كان خرقًا في ذلك الفكر التجزيئي الذي يجعلنا نعجز عن رؤية ما هو أبعد من أطراف أنوفنا. إنه خرق يجعلنا نرى العالم من زاوية أوسع، زاوية أكثر شمولية وانفراجًا، فإذا بالنصوص تتمكن من المساهمة في إعادة بناء العالم، بدلاً من أن نجدها متخبطة وقد سلبت منها فاعليتها..

ما يلفت النظر هنا أن كل موقف من هذه المواقف الثلاثة، ابتدأ بـ(وانطلقا)، كما لو أن نقطة الانطلاق الحقيقي إلى الواقع، يجب أن تمتلك عدة الفهم الشمولي، لكي تتمكن من إعادة تشكيل الواقع.. لا الذوبان فيه مع الرؤية التجزيئية.. كما لو أن الانطلاق إلى النهضة الحقيقية لا يمكن إلا من هذه المنصة: منصة الفهم الشمولي..

وسيكون من المؤسف جدًا هنا، أن نرى كيف تحول هذا السرد الباعث للحياة إلى مادة أسطورية مليئة بالخرافات عن رجل لم يعرف الموت.. وله في كل بلد مقام تقدم له نذور هي بالتأكيد المثال العملي لكل ما هو ليس من الإسلام..

مقام الخضر الحقيقي ليسَ هناك، بل مقامه هنا، في هذا السرد القرآني لعملية النزول إلى الواقع.. وعندما نبث الحياة في الفهم الشمولي المنبعث من هذا السرد، فإن الواقع سيخضر ويثمر.. وستنهار تلك الهياكل الخرافية، التي كانت آيلة للسقوط طول هذه الفترة..

إسقاط معاصر على قصة موسى والعبد الصالح

طور العبد الصالح ومرحلة التشكل هذه التي يجب أن تمر بها النهضة من أخطر وأدق الأطوار..

كل أطوار النهضة تواجه أخطاراً لكن الأخطار السابقة كانت ناتجة عن خطر خارجي، عن مواجهة عنيفة مبكرة، عن تسلل قيم ومقاييس حضارية أخرى..

الخطر هنا داخلي لأنه ناتج عن “طريقة فهم معين” للنصوص، فهم تجزيئي تبعيضي لا يحيط بمجمل النصوص، ولا يحاول قراءة الواقع من خلالها.. والنتيجة هنا هي السقوط في النتائج الكارثية نفسها التي كان يمكن أن تحدث لو أن زمام الفعل والمبادرة ترك لسيدنا موسى.. وستكون هذه النتائج مبررة تحت ستار “تطبيق النصوص” دون محاولة قراءة هذه النصوص بشكل كلي..

الفهم التجزيئي يمكن أن يجهض النهضة، بالضبط كما سيحدث عند الأخطار السابقة، لكن هذا سيحدث هذه المرة على يد أصحاب النهضة أنفسهم.. عبر رؤية قاصرة تفصل النص عن مجمل النصوص وعن مقاصده.. وتعرقل مسيرة النهضة وتجهضها عبر إدخالها في متاهات ومعارك جانبية تفتح الثغرات في المسيرة ككل.. وتشوش الرؤية حتى على من يفترض أنهم حملة مشعل النهضة..

هل يعني هذا أن فقه النهضة عليه أن يعطّل النصوص؟

أبدًا..

تعطيل النص وإلغاؤه شيء ينادي به أولئك الذين تسللوا في الطور الثاني، أولئك الذين استوردوا مقاييس صاحب الجنتين سابقًا، أو صاحب ناطحات السحاب حالياً، ويريدون تمريرها تحت شعار الأسلمة أو تحديث الإسلام.. وسواء كان ذلك بوعي أو بلا وعي فإن من لا يملك الثوابت يمكن أن ينزلق بسهولة إلى هذا المطب..

لكن فقه النهضة لا يعطل النصوص، وإنما يعمل على ترتيب أولويات النصوص بطريقة قد تؤجل تطبيق بعض منها إلى أن يحين وقتها المناسب.. لكنه لن يلغي النص، ولن يقول قطعًا: إن وقته قد فات، بل ربما سيقول: إن وقته لم يحن بعد، بل سيعمل هذا الفقه على أن “يسرّع” مجيء الوقت الذي يمكن فيه تطبيق كل النصوص.. وهكذا كان التعامل “العمري” العملاق مع النصوص، فعمر بن الخطاب لم يعطل تنفيذ حد السرقة المنصوص في القرآن الكريم، وإنما أجّله فقط في عام الرمادة.. وبين التأجيل والتعطيل مسافة كبيرة وفرق دقيق لا يسبره إلا فقه تشرب بالقرآن بطريقة قرآنية، أي فهم مجمل نصوصه ومفصلها وفهم مقاصدها وروحها.. أي كما فعل عمر ذاته.

ولو أخذنا الأمثلة التي جاءت في سياق قصة موسى والعبد الصالح لوجدنا أن الحكم الشرعي قد تأجل ولم يتعطل.. فمما لا شك فيه أن إحداث خرق أو تخريب في سفينة أمر خاطئ ويستحق العقوبة، لكن هذا بالتأكيد أقل خطأ مما يفعله الملك الظالم.. لذا فالحكم الشرعي مؤجل لحين إزالة الظلم الأكبر: الملك الغاصب الذي يمتلك بالتأكيد امتدادات معاصرة ونسخًا مختلفة (محلية ودولية) والذي يجب على فقه النهضة التعامل بحذر مع وجوده بشكل لا يؤدي إلى مواجهة مبكرة ومجهضة للنهضة، وفي الوقت نفسه يجب على هذا التعامل الحذر ألا يتحول ليصير خادمًا لهذا الملك الظالم.. مثال ذلك ما فعله العبد الصالح في هذا السياق..

فقه النزول إلى الواقع هو “فقه تفاصيل”.. فبعد أن كان الطور السابق فقه ثوابت محددة ومجملة فإن هذا الطور الحساس والمهم هو فقه يرتبط حتمًا بالتفصيل، وهنا بالذات خطورته، فأي فقه لن يرتبط بالثوابت السابقة سيظل حتمًا، وأي فقه لم يدرك أنه في هذه المرحلة بالذات من أطوار التشكل فإنه يمكن له أن ينحرف عن مسار النهضة ويحولها إلى اتجاه معاكس تماماً..

ولن تكون مهمة هذا الفقه يسيرة على الإطلاق، ففقه الأولويات يتطلب انسلاخًا صعباً من منظومة “فقه” سكونية لا تعترف بوجود مراحل وأطوار، ولا تعترف – من ثم – بما كان ابن الخطاب سيفعله بحسم، كان سيؤجل تنفيذ الحكم من أجل أن يكون تفعيله أكثر إثماراً لاحقاً..

ولعل “تأصيل” فقه المقاصد وربطه بشكل محدد وواضح بالمنظومة الفقهية دون مطاطية وتفلت بدواعي المرونة، هو أهم خطوة على درب الوصول إلى ذلك الطور الحاسم.. طور الانطلاق إلى الواقع..

إسقاط معاصر آخر على “العبد الصالح”…

لا يمكنني هنا أن أفوّت إسقاطًا معاصرًا آخر على هذه القصة..

فالعبد الصالح في هذا السياق لا يشبه في شيء “العبد الصالح” في مخيلتنا التقليدية التي تجعل العبد الصالح منعزلاً متفرغًا للتعبد (بالمعنى الشعائري المباشر للتعبد) وتجعله زاهداً في الدنيا، يسير منحنيَ الرأسِ منكسرًا قرب أقرب حائط، لا يكاد يعيش في هذا العالم من شدة صلاحه.. أي إنه “درويش” بالمعنى العامّي للكلمة..

العبد الصالح هنا شيء مختلف تماماً، تعبده لم يجعله ينعزل ويزهد بالعمل في الدنيا، بل على العكس، لقد جعله “صلاح عبادته وعبوديته” يتفاعل مع الواقع من أجل تغييره، جعله ملتحمًا بالواقع، آخذاً بزمام مبادرة التغيير..

العبد الصالح إذن هو الذي يفعل.. ذلك هو الذي يقتحم الواقع مسلحًا بثوابته وبقيمه ويحاول أن يرفع “الواقع” ليكون بمستوى هذه القيم والثوابت.. يدخل في تفاصيل الواقع دون أن يضيّع ثوابته وقيمه.. ودون أن ينعزل عن محاولات التغيير والإصلاح بدواعي المحافظة على الثوابت..

إنه نموذج مختلف تماماً عمّا في أذهاننا: لكن لا مجال للمقارنة، فالنموذج قرآني، أمّا أذهاننا فقد شكلتها عصور فصل “الدين” عن “الدنيا”.

______________________________________________

المصدر: كتاب البوصلة القرآنية، أحمد خيري العمري، دار الفكر، دمشق، ط4، 2011

مواضيع ذات صلة