فقه الابتلاء وحقائق التمحيص ورفع الدرجات

يوضح المقال فقه الابتلاء وما فيه من حقائق ومعانٍ تتعلق باختبار صبر المؤمنين وتمحيصهم ورفع درجاتهم، وإمهال الظالمين…

د. راتب النابلسي

فقه الابتلاءقال تعالى: “أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ” (العنكبوت: 1-2)

 لقد جرت سنة الله في الحياة الدنيا أن تبنى على الابتلاء، فالإنسان يبتلى في دينه، ويبتلى في ماله، ويبتلى في أهله، وكل هذه الابتلاءات ما هي إلا امتحانات يمتحن الله بها عباده ليميز الخبيث من الطيب، وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين .

 وقد صدق من قال: إن الله تعالى يقوي أعداءه حتى يقول ضعفاء الإيمان: أين الله ؟! ثم إنه ليظهر آياته في الانتقام للمظلومين حتى يقول الملحدون: لا إله إلا الله.

 والفتن والابتلاءات التي يتعرض لها أهل الإيمان كثيرة:

 ومن بين هذه الفتن أن يتعرض المؤمن للأذى والاضطهاد من الباطل وأهله.. من أعدائنا أعداء الحق والخير والإنسانية ثم لا يجد النصير الذى يسانده ويدفع عنه الأذى، ولا يملك لنفسه النصرة أو المنعة ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان.

خمس حقائق من فقه الابتلاء 

 فما هي الحكمة من الابتلاءات التي يبتلى الله بها المؤمنين؟‍!

الحقيقة الأولى: الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة 

الحقيقة الأولى أن الله تعالى غني عن تعذيب عباده وحاشا له جل جلاله أن يكون هدفه من الابتلاء تعذيب عباده أو إيذائهم فهو جل جلاله الرحمن الرحيم خلق عباده ليرحمهم ويسعدهم بمعرفته وعبادته.

أما هدف الابتلاء فهو الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة الكبرى والمسؤولية العظمى، فحمل الأمانة لا يتم إلا بالمعاناة، وإلا بالاستعلاء الحقيقي على الشهوات، وإلا بالصبر الحقيقي على الآلام، وإلا بالثقة الحقيقية في نصر الله أو ثوابه على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء.

 فكما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به، كذلك تصنع الفتن بالنفوس تصهرها فتنفي عنها الخبث.

الحقيقة الثانية: الابتلاء يكفر الخطايا و الذنوب

 الحقيقة الثانية في فقه الابتلاء أن الابتلاء يكفر الخطايا والذنوب ويرفع عند الله الدرجة.

 ومن خلاله يشهد الله لأهله بأن في دينهم صلابة، وفي عقيدتهم قوة فهو سبحانه يختارهم للابتلاء

 وفي الحديث الشريف عن مصعب بن سعد رحمه الله، عن أبيه رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشَدُّ بلاء ؟ قال: (الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ على حَسْبِ دِينه، فإن كان دِينُهُ صُلْبا اشتَدَّ بلاؤه، وإن كان في دِينه رِقَّة على حَسبِ دِينه، فما يَبْرَحُ البلاءُ بالعبد حتى يتركَهُ يَمْشِي على الأرض وما عليه خطيئة). أخرجه الترمذي

وقد ورد في صحيح البخاري أن النبي قام يوماً يصلي في حجر الكعبة فأقبل عليه عقبة بن أبى معيط فوضع ثوبه في عنق النبي فخنقه خنقاً شديداً فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي وهو يقول أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله.

 ولقد ورد أيضاً في صحيح البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: أتيت النبي وهو متوسد بردة في ظل الكعبة –وقد لقينا من المشركين شدة– فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا، ألا تستنصر لنا، فقعد وهو مُحمرٌ وجهه فقال: (لقد كان من قبلكم ليمشط بأمشاط من الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتِمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله).

 وإذا كانت هذه الاعتداءات على النبي وله من الجلال والوقار في نفوس العامة والخاصة فكيف بالصحابة الكرام، لاسيما الضعفاء منهم، فأنتم تعلمون ما الذي كان يُفعل ببلال و خباب وآل ياسر وصهيب وابن مسعود وغيرهم ممن قالوا: لا إله إلا الله.

 فضربوا لنا أروع الأمثلة في الصبر على البلاء والتضحية لهذا الدين حتى ولو كانت بالأرواح والأبدان.

الحقيقة الثالثة: عملية الفرز

الحقيقة الثالثة في فقه الابتلاء أن الله تعالى يمحص الناس في الابتلاء ويفرزهم فيظهر نفاق المنافقين وينجلي كذب الكاذبين كما يظهر ثبات الثابتين ويتضح إيمان المؤمنين قال تعالى :”وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ” (آل عمران: 141).

 قال ابن القيم رحمه الله: إن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس، ويبتليها، فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها، ومن يصلح لموالاته وكرامته ومن لا يصلح، وليمحص النفوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان، إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية، فإن خرج في هذا الدار وإلا ففي كير جهنم، فإذا هذب العبد ونُقي أُذن له في دخول الجنة.

 ليس أحدٌ أغير على الحق وأهله من الله.. ولكنها سنة الله الجارية لامتحان القلوب وتمحيص الصفوف، قال تعالى: “وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين” (العنكبوت: 2).

الحقيقة الرابعة: إظهار آياته

 الحقيقة الرابعة في فقه الابتلاء أن الله تعالى من خلال الابتلاء يظهر للناس آياته ويبين لعباده عاقبة الظلم والظالمين ويستخلف عباده الصالحين مهما طالت مدة الابتلاء.

 فأين فرعون الذي قال لقومه: “مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي” (القصص: 38).. والذي قال لقومه: “أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى” (النازعات: 24)،  والذي قال :”أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي” (الزخرف: 51)

 فأجراها الله من فوقه! وأين هامان؟ وأين قارون؟ وأين عاد؟ وأين ثمود؟..

فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ” (العنكبوت: 40).

وصدق من قال:

 أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان؟

 وأين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلمٌ وطغيان؟

 أين الجبابرة الطاغون ويحهم؟ وأين من غرهم لهو وسلطان؟

 هل أبقى الموت ذا عزٍ لعزته؟ أو هل نجا منه بالأموال إنسان؟

 لا والذي خلق الأكوان من عدم.. الكل يفنى فلا إنس ولا جان.

 وفي الحديث الشريف: (اتَّقِ دعوةَ المَظْلومِ، فإنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا، وَبَينَ اللهِ حِجَابٌ) أخرجه الترمذي.

 وفي رواية أخرى: (دعوةُ المَظْلُومِ، يَرْفَعُها اللهُ فوقَ الغَمَامِ، وتُفْتَحُ لها أَبْوَابُ السماء، ويقول الرَّبُّ: وعِزَّتي لأنصُرَنَّكِ وَلَو بَعدَ حِينٍ) أخرجه أبو داود والترمذي.

الحقيقة الخامسة: الشوق لله تعالى

 الحقيقة الخامسة في فقه الابتلاء أن الابتلاء في الدنيا يجعلك في شوق للقاء الله تعالى.. فالدنيا لا تستقر لأحد ولا تدوم على حال فإذا ما اشتد الكرب وتعاظم الابتلاء اشتاق المؤمن للقاء مولاه وخرج حب الدنيا من قلبه وتعلق بالآخرة وعمل لها و سعى .

 اللهم ارحم شهداءنا وداوِ جرحانا وفك أسر المعتقلين واحقن دماء الأبرياء المظلومين في كل مكان.

للاستزادة حول هذا الموضوع يمكن للقارئ الكريم زيارة العناوين التالية:

الابتلاءات.. عقوبة للبشر أم اصطفاء لهم؟!

اللادينية.. لماذا لا يتدخل الإله لرفع الظلم عن البشر؟

_____________________________

المصدر: موسوعة النابلسي http://www.nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=11921

مواضيع ذات صلة