حياة النحل.. إبداعٌ يفوق تصور البشر

نحلة

يغيب عن معظم الناس أن هذه الحشرة لها فائدة كبيرة جداً في تلقيح النباتات، لكننا نتصور أنها خلقت من أجل صنع العسل فقط

الدكتور/ محمد راتب النابلسي

إن النحل آية من آيات الله الباهرة الدالة على عظمة الله تعالى، فهو القائل: “وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ”(النحل:68﴾

وأول شيء يلفت النظر أن هذه الياء في قوله تعالى:﴿اتَّخِذِي﴾.. هي ياء المؤنثة المخاطبة، وكأن الآية منصبة على الإناث حصراً دون الذكور، قال تعالى: “وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (النحل: 68،69).

ولعلك إن أردت التفكر فلن تجد أنسب من هذه الآية؛ فالنحلة هي الحشرة الوحيدة التي تستطيع تخزين رحيق الأزهار من أجل الغذاء، وهي فضلاً عن بناء خلاياها وتصنيعها للشمع والعسل فهي تقوم بعمل جليل، وهو تلقيح الأزهار، ويغيب عن معظم الناس أن هذه الحشرة لها فائدة كبيرة جداً في تلقيح النباتات، لكننا نتصور أنها خلقت من أجل صنع العسل فقط، غير أن صنع العسل هو أحد وظائفها، ومن دون تدخل النحل فإن عدداً كبيراً من النباتات لا يثمر، والنحل من الحشرات ذات النظام الاجتماعي الدقيق المحكم، وهو من أرقى الحشرات الاجتماعية، في خلقها، وعملها، ودقائق صنعها، هذا النظام الاجتماعي تعجز عن تقليده أرقى المجتمعات البشرية، لذلك علينا أن ندرك أن هذا النظام الاجتماعي البالغ التعقيد ليس أمراً تكليفياً من الله كما هي حال البشر، بل هو أمر تكويني من صنع الله وحده.

جني الرحيق

الغريزة في الحيوان عمل معقد جداً، ولكن ليس كسبياً، إنه عمل وهبي كما يقولون، تزور النحلة ما يزيد على ألف زهرة لكي تحصل على قطرة من الرحيق!

من أجل توفير الوقت والجهد حينما تقع النحلة على زهرة، وتمتص رحيقها تترك علامة أن هذه الزهرة مصّ رحيقها لتوفر على أخواتها وقتاً وجهداً في مص رحيق زهرة قد مصّ رحيقها، وتحتاج القطرة الواحدة من الرحيق إلى أن تحط النحلة على ألف زهرة أو أكثر، ومن أجل أن تجمع النحلة مئة غرام من الرحيق تحتاج إلى مليون زهرة، ومن أجل أن تصنع نحلة واحدة كيلو عسل تحتاج لأن تطير مائة ألف كيلو متر، تدور حول الأرض عشر مرات! لو أننا كلفنا نحلة واحدة أن تصنع كيلو من العسل لاحتاجت إلى أن تطير أربعمائة ألف كيلو متر، أي ما يعادل عشرة أضعاف محيط الأرض.

إن سرعة النحلة في طيرانها تزيد على خمسة وستين كيلو مترًا في الساعة في حالة طيرانها من دون حمولة، هذه السرعة تقترب من سرعة السيارة، فإذا كانت محملة بالرحيق تهبط سرعتها إلى ثلاثين كيلو مترًا، حمولة النحلة من رحيق الأزهار يعادل ثلثي وزنها، السيارة وزنها ألف كيلو تحمل ثلاثمائة تقريباً، ويحتاج كيلو من العسل كما قلت قبل قليل إلى طيران ما يعادل أربعمائة ألف كيلو متر تقريباً، أي يحتاج الكيلو الواحد من العسل إلى عشر دورات حول الأرض إلى خط الاستواء، طبعاً إن بعض الدول المتقدمة في الصناعة تأخذ المواد الأولية من قارة، وفي طريقها إلى المصانع تجري على هذه المواد عمليات كثيرة معقدة في الباخرة نفسها.

قرأت مرة مقالة عن اليابان أنه ليس عندهم مواد أولية إطلاقاً، وهم من كبار مصدري الاستانلس، صنعوا بواخر تصل إلى أواخر أستراليا، تأخذ المواد الأولية، وفي الطريق إلى الشرق الأوسط تصنع هذه المواد الأولية في الباخرة، وتسلِّمها مصنَّعة جاهزة، هذا تفعله النحلة، في طريقها الذي قد يصل إلى عشرة كيلو مترات من مكان رحيق الأزهار إلى خلاياها.

في الطريق تجري عمليات كيماوية معقدة جداً، تحويل الرحيق إلى عسل، ويتم هذا في الطريق كما تفعل بعض البواخر اليوم في صنع الاستانلس، ريثما تصل إلى مكان التسليم، إذا كان موسم الأزهار غزيراً فإنها تعطي حمولتها لنحلة أخرى، وتعود سريعاً لكسب الوقت، وجني رحيق الأزهار، يوجد نحلات ضعيفة لا تكلف بالسفر إلى مكان بعيد، هذه تأخذ الحمولة من أختها في مدخل الخلية، وتنطلق إلى الداخل كي تضع الحمولة في المكان المناسب، وتعود النحلة إلى مكان رحيق الأزهار إذا كان الموسم جيِّدًا.

النحلةُ الملكة

عسل النحل

هناك نحلات وصيفات يقمن على خدمة الملكة، وتأمين الغذاء المناسب لها، ويباع في الأسواق باسم “عسل الملكة”، وهو أغلى أنواع العسل.

الملكة هي أكبر النحل حجماً، هي تضع كل يوم في فصل الربيع تقريباً من ألف إلى ألفي بيضة، والذي يأخذ بالألباب أن هذه الملكة تضع الملكات في مكان، والذكور في مكان، والإناث في مكان، وكأنها تعلم مسبقاً أنها ستلد ملكة، أو أنثى، أو ذكرًا، هذا فوق طاقة البشر! طبعاً تضع الملكات في مكان كي تتلقى غذاء خاصًّا مناسباً لها، والذكور في مكان، لأن لهم غذاء خاصًّا مناسبًا لها.

إن العاملات من إناث النحل منهن من يأتين بالطعام الخاص للملكة، ويسمى هذا النحل الوصيفات، هناك نحلات وصيفات يقمن على خدمة الملكة، وتأمين الغذاء المناسب لها، ويباع في الأسواق باسم “عسل الملكة”، وهو غالٍ جداً، وهو أفضل ما عند النحل، بعض النحلات العاملات يجمعن غبار الطلع ليكون غذاء ملكيًّا لملكتهم! إذا ماتت الملكة اضطربت الخلية، ويلاحظ الإنسان هذا التبدل، بل ملكة أخرى تنافسها على منصبها، لذلك كانت مهمة الذكور تلقيح الملكات، ومهمة الإناث العمل، والملكة مهمتها الولادة.

هذه آية من آيات الله الدالة على عظمته، لقد شاءت حكمة الله جل جلاله أن يخلق مجتمعاً قائماً على أعلى مستويات التعاون والتكامل، والاختصاص والعمل الدؤوب المنتج، والتنظيم المعجز، بأمر تكويني لا بأمر تكليفي، لذلك لا يمكن أن تجد في مجتمع النحل خللاً ولا فساداً، إنه كمال خلقي مطلق، لأن أمره هذا تكويني لا تكليفي، هذا ما نجده في مجتمع النحل، إنه مجتمع موحَّد متكامل، على رأسه ملكة واحدة لا تنازعها أخرى، تشعر كل نحلة في الخلية بوجود الملكة عن طريق مادة تفرزها الملكة، وتنقلها العاملات إلى كل أفراد الخلية، فإذا ماتت الملكة اضطرب النظام في الخلية، وعمت الفوضى، وشلّت الأعمال.

في وقت واحد لا تدير المملكة إلا ملكة واحدة، يوجد نائبة لها، أو كما يسمى وليّ العهد، إن إناث النحل تقوم بأعمال متنوعة كثيرة، توزع فيما بينها بحسب أعمارها واستعدادها الجسماني، وعند الضرورة والخطر، وفي المواسم الصعبة تعمل كل نحلة ما يفرض عليها، في أيام الرخاء هناك اختصاصات، أما في أيام الشدة فينبغي أن تقوم كل نحلة بكل هذه الأعمال.. الوصيفات كما قلت يقمن على خدمة الملكة، وجلب الطعام الملكي، وهناك حاضنات ومربيات يقمن برعاية الصغار، وجلب الغذاء المناسب، وهناك عاملات يحضرن الماء إلى الخلية، وهناك أخريات يقمن بتهوية الخلية صيفاً، وتدفئتها شتاء، وترطيبها في وقت الجفاف، وغيرهن يقمن بتنظيف الخلية، وجعل جدرانها ملساء لامعة ناعمة عن طريق مواد خاصة، وهناك حارسات يقمن بحراسة الخلية من الأعداء، ولا يسمحن لنحلة أن تدخل الخلية ما لم تذكر كلمة السر، وإلا قُتلت، وتبدل كلمة السر عند الضرورة، وهناك من النحلات من يقمن بصنع أقراص الشمع ذات الشكل السداسي، الذي تنعدم فيه الفراغات البينية بأسلوب، وتصميم يعجز عن تقليده كبار المهندسين.

مثلاً، هل يستطيع إنسان بالغ ذروة العقل والمهارة أن يبدأ بتبليط صالة كبيرة، إنسان من اليمين، وإنسان من اليسار، وإنسان من الشمال، وإنسان من الجنوب، وأن يجتمع هؤلاء الأربعة على بلاطة نظامية بمقياس دقيق، هذا فوق طاقة البشر! إن قرص الشمع تبدأ به النحلات من أطرافه، وتصل إلى الوسط بأشكال سداسية لا تتغير عن بعضها، ولا بعشر الميليمتر، هذا شيء فوق طاقة البشر.

وهناك رائدات يقمن بمهمة استكشاف مواقع الأزهار، فإذا عثرن عليها عُدنَ إلى الخلية، ورقصنَ رقصة خاصة تحدد هذه الرقصة لبقية النحلات العاملات الموقع من حيث المسافة والاتجاه، وغزارة الإنتاج، وإذا كانت الوتيرة سريعة جداً والإنتاج كثيف جداً، تنطلق الجمهرة الكبيرة من العاملات إلى مكان الأزهار لجني رحيقها، لأنها المادة الأولية للعسل، وقد تبتعد هذه المواقع عن الخلية أكثر من عشر كيلو مترات، وتعود النحل للخلية بعد أخذ الرحيق بطريقة لا تزال مجهولة حتى الآن، والنحل أكفأ الحشرات بنقل وتخزين أكبر قدر ممكن من رحيق الأزهار في أقصر وقت ممكن، وأقل مجهود ممكن، وهي أكفأ الحشرات في تلقيح النباتات كي تساعدها على إنتاج البذور والثمار.

المصدر: موسوعة النابلسي

مواضيع ذات صلة