الأخلاق.. دراسة وتحليل لأسباب التراجع والانحدار (31)

استطاع محمد صلاح أن يجيب على أسئلة كبرى مؤرقة للعقل العربي المسلم منذ قرون، وهي: سؤال الهوية وسؤال الأخلاق وسؤال النهضة وسؤال الاستقلال، حيث استطاع أن يجيب بسلوكه والتزامه وجديته الصارمة في عمله على الأسئلة جميعًا، بل ويكشف بجلاء دور كل منهما وحدوده في اللحاق بالعصر والتفوق فيه على الآخرين…

(مقتطف من المقال)

د. حازم علي ماهر* (تنشر السلسلة بالتزامن مع نشرها في جريدة السياسة الكويتية)

الأخلاق

المفكر الجزائري/ مالك بن نبي

أستكمل اليوم ما بدأته في المقال السابق من استعراض لبعض النماذج التي نالت مصداقية كبيرة في عصرنا الراهن، حيث يأتي الدور على بعض رواد الفكر والنهضة، وعلى رأسهم المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905-1973)، الذي سبق أن تحدثنا عنه وعن مشروعه الفكري الرائد في هذه السلسلة من قبل، فهو من أهم النماذج الدالة على الصدق في عصرنا الحاضر، حيث نحسب أنه صدق الله في هدفه وفي سعيه، حين ظل يدعو طوال حياته بهذا الدعاء: (إلهي، إني لا أريد نصيبي في هذه الدنيا، بل أريده في الآخرة)، فاستجاب الله سبحانه لدعائه على ما يبدو، فلم يلق ما يستحق من اهتمام وتكريم في الدنيا إلا بعد أن رحل عنها بعشرات السنين، ونسأل الله عز وجل أن يجازيه في آخرته خير الجزاء عما قدمه في حياته من فكر نافع وعمل صالح.

 ويكفي أنه في الوقت الذي كان يعرض فيه البعض مشكلة العالم الإسلامي على أنها تنحصر في خلع الحجاب وحلق اللحى وإطالة الثياب، ويصورها البعض الآخر في أنها تكمن في عدم تمكن المصلحين –المزعومين- من اعتلاء السلطة، حيث كانت تغدق على هؤلاء وهؤلاء الأموال من المستدمرين (الذين قالوا: إنا مستعمرون)، كان بن نبي يقضي حياته فقيرا يبحث عن عمل يقتات منه هو وزوجته وأولاده، دافعًا ثمن أنه يعرض مشكلة العالم الإسلامي على حقيقتها، وهي مشكلة غياب حضارته، ويحدد عَدُوَّا الحضارة الإسلامية المعاصرة بوضوح لا لبس فيه (وهما: القابلية للاستعمار والاستعمار، على النحو السالف بيانه من قبل)، ويرسم الطريق المستقيم للمقاومة والنهوض وتغيير ما بالنفس من تخلف وفقر وجهل ومرض وتبعية، حتى مات ثابتًا من غير جمود، وكان آخر ما كتب أنه سيعود بعد ثلاثين عاماً، فإذا به يعود بعد أربعين عاما، ويصبح مشروعه الفكري –عند الحكماء- هو مشروع نهضة المسلمين في القرن الخامس عشر الهجري (الواحد والعشرين الميلادي)!

الشيخ/ محمد الغزالي

محمد الغزالي

الشيخ/ محمد الغزالي

ومن نماذج الشخصيات الصادقة في عالمنا المعاصر كذلك الشيخ محمد الغزالي رحمه الله (1917-1996م)، الذي يُذكرِّنا بسلطان العلماء العز بن عبد السلام في عزة نفسه وفي شجاعته في قول الحق وفي ثباته على مبادئه طوال عمره، فضلا عن عفويته الشديدة وإيمانه العميق، فقد كانت كلماته في دفاعه عن دينه وأمته كالرصاص في صدور المعتدين عليهما عمدًا أو جهلا وغباءً، وكان ﻻ يخشى سلطانًا جائرًا ولا مخالفًا فاجرًا، فدخل المعارك على كل الجبهات والثغور معتصمًا بربه وحده، وقد روى لي أستاذنا الدكتور أحمد كمال أبو المجد أنه صلى مأمومًا وراء الشيخ محمد الغزالي شهر رمضان كاملا “فلم تمر ركعة في صلاته إلا وقد بكى رحمه الله خشوعًا عند تلاوته للقرآن”. ويكفي أن تقرأ له كتابًا أو مقالا لتلمس بنفسك مدى صدق هذا الرجل، وقد حدث أن سمعت له تسجيلا يبكي فيه وهو يعلن أن أمنيته أن يلقى ربه وهو يتصبب عرقا في خدمة دينه، وقد كان؛ فمات في مهرجان الجنادرية الثقافي بالرياض بعد أن طلب التعقيب -غير مرة- على أحد المحاضرين ليبين موقف الإسلام مما يطرح من آراء لم ترق للشيخ رحمه الله.

وأخبرني المستشار الجليل طارق البشري أنه كان مع الشيخ محمد الغزالي لحظة وفاته ثم في السيارة التي نقلته إلى المستشفى، وأنهم وجدوا في ملابسه ورقة يوصي فيها أن يُدفن في البقيع إذا مات فأبلغوا المسؤولين، فأمر ولي العهد حينها (خادم الحرمين الشريفين بعد ذلك) عبد الله بن عبد العزيز –رحمه الله- بنقل جثمان الشيخ إلى البقيع بطائرة خاصة، فدفنوه حيث أراد، وكأنه –بذلك- اختار طريقة موته والمكان الذي سيوارى فيه جسده وتسمو حوله روحه.. صدق الله فصدقه!

البشري و أبو المجد

وعلى ذكر الدكتور أحمد كمال أبو المجد والمستشار طارق البشري فقد عرفتهما عن قرب وأدركت أنهما من كبار مفكرينا الحريصين دوما على تحري الصدق في قولهما وفي فعلهما، حتى أنني سألت مرة الدكتور كمال أبو المجد قائلا: (ذهبت إلى الكويت والتقيت بالكثيرين هناك فوجدت الجميع يثني عليك ويذكرك بخير، وهكذا رأيت الوضع نفسه في مصر، ومن كافة الأطياف، سواء كانوا إسلاميين أم علمانيين، حكامًا أم محكومين، فما السر في ذلك؟)، فأجاب بكلمة واحدة: “الصدق”، ثم شرح بصيغة النصح الأبوي: (اصدق مع الناس جميًعا، وهو أمر سيضايق البعض منك في البداية، ولكنهم مع الوقت سيتقبلون ذلك ويضعون ثقتهم فيك، حين يلمسون استواءً بين ظاهرك وباطنك)!

والأمر غير قاصر على السياسيين والمفكرين، أو على الأمراء والعلماء، فقط، بل يمتد حتى إلى المجالات التي يراها البعض ترفيهية أو لا قيمة لها، مثل كرة القدم، التي باتت منظومة كاملة تؤثر على السياسة والاقتصاد وتتأثر بهما، وتتصدر أخبارها الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، فأصبح لاعبوها –عند الكثيرين- هم القدوة والمثال واجب الاحتذاء، ومن هنا تأتي أهمية الاستشهاد بأحد النماذج الواعدة التي تتصدر حاليًا الاهتمام العالمي، لا العربي أو المصري فقط، وهو نموذج اللاعب الخلوق محمد صلاح، الذي حصل مؤخرًا على لقب أحسن لاعب في الدوري الإنجليزي، أقوى دوريات العالم الكروي.

أكبر من مجرد موهبة

الأخلاق

اللاعب المصري/ محمد صلاح

والحقيقة أن الأمر أكبر بكثير من مجرد موهبة كروية، فنحن أمام ظاهرة حقيقية ينبغي أن تدرس بعناية، تتعلق بلاعب بلغ القمة في مهنته وفي أخلاقه وفي تدينه، وفي بره لوالديه ولقريته الصغيرة، وفي انتمائه الوطني، وهو رغم وصوله للقمة في كل ذلك لا يزال يحافظ على تواضعه وبساطته، مما أكسبه حب مشجعي كرة القدم وغير مشجعيها على السواء.

ولقد استطاع محمد صلاح -ببساطة كذلك- أن يجيب على أسئلة كبرى مؤرقة للعقل العربي المسلم منذ قرون، وهي: سؤال الهوية وسؤال الأخلاق وسؤال النهضة وسؤال الاستقلال، حيث استطاع أن يجيب بسلوكه والتزامه وجديته الصارمة في عمله على الأسئلة جميعًا، بل ويكشف بجلاء دور كل منهما وحدوده في اللحاق بالعصر والتفوق فيه على الآخرين، ماديًا ومعنويًا، دون أن يصطدم مع أحد، بل وتمكن كذلك من أن يفضح في الوقت نفسه ظاهرة مرضية، وهي ظاهرة الإسلاموفوبيا، فإذا به يكشف زيفها دون أن يهاجمها قط، فقد اكتفى فقط بأن يسقطها عمليًا بتطهير قلبه من الأمراض، وتركيز جوارحه على تحقيق الإتقان والسبق الحضاري في عقر دار الحضارة التي تزعم أنها تمثل نهاية التاريخ وقمته!

هذه مجرد إشارات فقط تبرهن على أن الصادقين لم يغادروا الكون، وأن اكتساب المصداقية لن يتحقق أبدًا بالكذب والخديعة، بل بتنقية النفس من عللها، وترويضها لصالح قيم وأخلاق سامية، مع عدم الانحراف عن الطريق المستقيم المؤدي للقمة لا محالة… ولكنكم تستعجلون!

لمطالعة بقية أجزاء السلسلة يمكن للقارئ الكريم زيارة العناوين التالية:

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (1)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (2)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (3)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (4)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (5)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (6)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (7)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (8)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (9)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (10)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (11)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (12)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (13)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (14)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (15)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (16)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (17)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (18)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (19)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (20)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (21)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (22)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (23)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (24)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (25)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (26)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (27)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (28)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (29)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (30)

________________________________

مواضيع ذات صلة