الواقع أن انهيار الأخلاق أشد خطرًا على المسلمين من احتلال الأرض، أو من الوقوع في براثن هيمنة القوى الدولية الكبرى، أو في شراك الاستبداد المحلي…
د. حازم علي ماهر* (تنشر السلسلة بالتزامن مع نشرها في جريدة السياسة الكويتية)
انتهت المقالة السابقة إلى اختيار المرجعية الأخلاقية الإسلامية معيارًا للحكم على السلوك الإنساني لمصدريتها الإلهية، ولشموليتها للإنسان دون تمييز، ولثباتها عبر الزمان والمكان، إلا أنه لم يشر قط إلى سلوك المسلمين المعاصرين ناهيك عن أن يدعو إلى الاقتداء بهم مطلقًا، إذ إن الدعوة إلى اقتدائهم واقتداء الإسلام في الوقت نفسه ستكون بمثابة دعوة للشيء ولنقيضه!
فالحقيقة أنه لا يمكن أن تخطئ عين مبصرة، أو تخفى على إنسان ذي بصيرة، تلك الفجوة الكبرى بين المسلمين والإسلام، رغم أن الإسلام كان ينبغي أن يكون هو قبلة الأخلاق لدى المسلمين، لا يبتعدون عنها ولا يسمحون لأحد أن يحجبهم عن ضيائها الذي يحول بينهم وبين ظلمات السقوط الأخلاقي، غير أن الذي نلمسه جميعًا أنهم لم يبتعدوا عنها فقط، بل ساروا عكس الاتجاه تمامًا، فلا يكادون يرون طريقًا مستقيمًا من شأنه أن يصل بهم إلى الفلاح إلا وانحرفوا إلى طريق آخر يسير بهم نحو الهلاك.
والفجوة التي نعنيها هنا لا تتمثل في الفروق الطبيعية والمقبولة بين المطلق والنسبي، أو بين الدين والتدين، مثلما كان في عهود الإسلام الأولى، حين كان بعض المسلمين يقولون ما لا يفعلون، أو كان بعضهم يريدون الدنيا وبعضهم يريدون الآخرة، وليست هي المسافة بين سلوك الصحابي الجليل حنظلة حين يكون في حضرة النبي “صلى الله عليه وسلم”، وسلوكه في بيته والتي شكاها للنبي العظيم فطمأنه وقال له «ساعة وساعة»، بل نحن نتحدث عن فجوة هائلة مميتة للأخلاق ومفسدة للضمير، تجر المسلمين إلى الهاوية والتخلف عن سمو الإسلام ومن ثم عن البشر ككل!
فجوة الأخلاق القاتلة!
والحقيقة أن الوصف الأدق لحالة كثير من المسلمين حالياً حيال الإسلام هو «الخيانة»، نعم؛ فالإسلام هو بمثابة أمانة كلفهم الله بحملها إلى الناس جميعًا وإبلاغهم بها بلاغًا مبينًا عبر أعمالهم الصالحات أولا، لكن هؤلاء اكتفوا بالإكثار من الأقوال المنمقة التي لا روح فيها ولا يصدقها عمل، رغم أن (السلوك) الأخلاقي هو الأساس في إقناع الناس: “وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ” (فصلت: 33).
لقد خان الكثير من المسلمين الإسلام حين قاموا بين الناس بالظلم والإسلام يأمرهم بالقيام بينهم بالعدل، وحين أساءوا والإسلام يطلب منهم الإحسان، وحين أصبحوا أعزة بينهم أذلة على الكافرين على عكس ما أمرهم به الإسلام، وحين لم يوفوا بعهودهم مع الله وبعقودهم مع الناس فخانوا العهود والعقود التي ألزمهم الإسلام بالوفاء بها، وحين باتوا مستضعفين تتكالب عليهم الأمم مناقضة لالتزامهم الأخلاقي بأن يكونوا أمة قوية مرهوبة الجانب… وحين وحين وحين!
وإذا بحثنا في جذور هذا النكوص عن الإسلام، عقائد ومقاصد، وقيمًا وأحكامًا، سنجد أن الأزمة هي أزمة فكر وضلال عقل في الأساس؛ فالمسلمون غاب عن الكثيرين منهم أن الإسلام هو قبل كل شيء يعني الخضوع لله والانقياد لأحكامه، وليس مجرد خانة في البطاقة يكتسبونها بالميراث ويخلدون بها في الجنة ولو عملوا طوال حياتهم بعمل أهل النار!
لقد غاب عن كثير من المسلمين أن ما من أمر ونهي في الإسلام إلا وله مقصد (أو مقاصد) أخلاقية تستهدف تحقيق العدل وتسويد الخير وإشاعة الرحمة بين الناس، ففصلوا الأحكام عن مقاصدها ووظائفها السامية، وظنوا –مثلا- أن عنايتهم بالقرآن تأتي على أكمل وجه حين يحفظون ألفاظه أو يتلونه في كل عام مرة أو مرتين لا في تدبره وتحويله إلى «خُلُق» عملي مثلما فعل نبيهم الخاتم الذي “كان خلقه القرآن”، فأثنى عليه ربه عز وجل بأنه “على خلق عظيم”!.
كما حسب الكثير من المسلمين أن التوحيد -الذي هو أساس عقيدة المسلمين- يقوم بمجرد التلفظ بالشهادتين لا بالعمل بمقتضياتهما كذلك، من تجنب الوقوع في الشرك بالله، جليًا أو خفيًا، وغفلوا عن أن التوحيد هو « مبدأ الأخلاق »؛ فغاية الخلق هي العبادة، وجوهرها هو استخلاف الإنسان في الأرض بعد أن حمل الأمانة الإلهية طواعية، وفحوى هذه الأمانة هي الوفاء بالشق الأخلاقي من المشيئة الإلهية (د. إسماعيل راجي الفاروقي: التوحيد- مضامينه على الفكر والحياة، 2014م، ص 125.
أما الشعائر فحصر أغلب المسلمين فيها مفهوم «العبادة» بغير حق، ثم ضلوا عن مقاصدها ووظائفها هي الأخرى؛ فالصلاة باتت مجرد حركة جسمانية يمارسها المسلم لإسكات ضميره الديني وإيهامه بأنه يقيم عمود الدين، بينما يخرج منها ليستطيل بها على غيره من الخلق ويرتكب الفحشاء والمنكر وغير ذلك مما استهدفت الصلاة النهي عنه!
وصوم رمضان هو شهر يشق الإنسان على نفسه فيه بالامتناع عن الأكل والشرب نهارًا (والتهامه ليلا بنهم شديد) والإكثار من صلاة النوافل وقيام ليلة القدر لتغفر له ذنوب ألف شهر، مع أن المولى عز وجل ذكر صراحة أن المقصد من صيام رمضان هو التحلي بالتقوى لا مجرد التطهر من الذنوب، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على الحج الذي بات مجرد وجاهة اجتماعية لا شعيرة مفروضة لذكر الله والتذكير بوحدة المسلمين وبعداء الشيطان للإنسان.
إن هدم تلك الفجوة القاتلة بين الإسلام والمسلمين لن يتأتى إلا بإعادة فهمه من جديد، وتفعيل عقيدته وأحكامه الكلية والجزئية ليتخلق المسلمون بها في حياتهم حتى يستحقون أن يكونوا شهداء على الناس لا مجرد ضحايا للظالمين منهم!
للعودة لبقية السلسلة يمكن للقارئ الكريم مطالعة المقالات التالية:
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (1)
الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (2)
*كاتب وباحث مصري