كانت المسألة من وجهة نظر عمر رضي الله عنه أو ما عُرف ب.. الفقه العمري مسألة استقراء عام لكل نصوص القرآن ومقاصده ومفاهيمه، وصولاً إلى حكم قد يجد نصاً قرآنياً يسنده، وقد لا يجد…
أحمد خيري العمري
إن ما هو معروف اليوم من موافقة عمر للقرآن قبل نزوله في ثلاثة مواضع أو أربعة، نابع من فهمه للمقاصد القرآنية ليس إلا، فقد ثبت في الصحاح أن عمر وافق الوحي قبل نزوله في مقترحات صادق عليها الخطاب القرآني فيما بعد: مثل إصراره على عدم الصلاة على المنافقين، واقتراحه احتجاب زوجات النبي، واقتراحه تطليق زوجات النبي بسبب مشاكل الغيرة والتنافس القائمة بينهن (وبينهن ابنته حفصة!) وكذلك اقتراحه بشأن أسرى بدر.
وكلها مقترحات صادق عليها بالإيجاب الوحي القرآني المنزل. فهل كان عمر يسترق السمع إلى الوحي قبل نزوله؟ هل كان يتجسس على الملائكة وهم ينقلون الوحي إليه عليه أفضل الصلاة والسلام؟ هل كان ملهماً محدثاً؛ بمعنى أن تلك الموافقات كانت تحدث بشكل خارق للمألوف؟.
في الحقيقة أن الأمر أبسط من ذلك بكثير وأعقد في الوقت ذاته. أبسط لأنه لم يحدث كشيء خارجي خارق للطبيعة البشرية وصادر عن قوى فوق طبيعية. وأعقد لأنه نتيجة لجهد بشري متواصل في سبر أعماق الخطاب القرآني وفهمه فهماً مترابطاً بالواقع. إنه نتيجة تفاعل العقل وإعماله باتجاهين في آن واحد “الخطاب القرآني والواقع”.
إن موافقات عمر الوحي هي من قبيل موافقات العقل للشريعة، وهي موافقات متجددة مفتوحة وممكنة الحدوث ما دام الواقع يظل يتغير ويتجدد ويتطلب الاستجابة لتحدياته واستفزازته، وهذه الموافقات قطعاً ليست قاصرة على عمر بن الخطاب وإن كان عمر قد قدم لنا بمواقفه (خصوصاً بعد وفاة النبي وانقطاع الوحي) نموذجاً لفهم متجدد للشريعة وللحدود عبر تطبيقها على مجتمع سريع التغير، خاصة وأن الدولة الإسلامية في عهد عمر قد تضاعف حجمها عدة مرات عما كانت عليه وقت نزول الوحي في حياته عليه أفضل الصلاة والسلام.
إن هاجس المقاصد وفهم المقاصد وفقه النسخ القرآني الساري في كل قانون وحد قرآنيين، هو الذي جعل عمر يتعامل بشكل مختلف مع حرفية النص متجاوزاً إياها إلى الغاية من النص وإلى المقصد منه.
مواقف من الفقه العمري…
يظهر هذا جلياً في إبطاله حد السرقة في عام “الرمادة”، وهو العام الذي عم به الجوع واشتد الفقر. أي فقيه آخر يتمسك بالنصوص، وما أكثرها، سيقوم بتطبيق الحد فوراً، وسيقول ضمن ما يقوله: “لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها” إلخ، لكن عمر الذي يفهم النصوص القرآنية بشكل متكامل مترابط بعضه ببعض يعي جيداً أن الله لم يبعث محمداً ليقطع أيدي الناس، ولكن ليجفف منابع الانحراف والجريمة، بعدها فقط يكون للحد معنى ومغزى. لذلك عندما نزلت بالناس كارثة طبيعية مثل المجاعة، فإن عمر تجاوز النص إلى مقصده وأبطل الحد إلى حين زوال الأزمة.
كذلك عندما قام بإبطال سهم (المؤلفة قلوبهم) الذي كان يعطي من ضمن أسهم الزكاة بالنص القرآني للفئة الضعيفة حديثة الدخول في الإسلام، لتقوية روابطها بالمجتمع الإسلامي ولتأليف قلوبهم.
لكن عمر الذي قويت على عهده الدولة رأي أن المجتمع الإسلامي صار مركز استقطاب وقوة بحيث لا يحتاج معها إلى إنفاق الأموال ليجمع الناس حوله، بل صار الناس مع توسع الدولة ودخولهم في الدين أفواجاً، هم الذين يطمعون في قبول المجتمع بهم، خاصة مع توزيع الغنائم والعطايا عبر الفتوحات الهائلة..
كانت المسألة من وجهة نظر عمر رضي الله عنه مسألة استقراء عام لكل نصوص القرآن ومقاصده ومفاهيمه، وصولاً إلى حكم قد يجد نصاً قرآنياً يسنده، وقد لا يجد، فيظل مرتبطاً بالمقاصد العامة للشريعة، دون أن يفقده ذلك من قوته شيئاً.
والمسألة المهمة في مواقف عمر المختلفة التي يجب أن ننتبه إليها هو ارتباطها المباشر جميعاً بنصوص قرآنية لم تنسخ، ولم يروعنها أنها قد نسخت، أي أنه قام ظاهرياً وللوهلة الأولى بما سيبدو أنه مخالفة نصوص شرعية قطعية، وليس بمخالفة سنة أو حديث نبوي مثلاً، نقول: ذلك للوهلة الأولى فقط، والحقيقة أنه كان يقوم بتطبيق الشريعة الحقيقية بتكامل نصوصها: بروحيتها ومقاصدها، بشمولها، بتجددها وانفتاحها على مختلف التحديات والتطورات، باختصار: كان يطبق الشريعة ككل مترابط الأجزاء، باستقراء لكل النصوص لا شريعة النصوص المجتزأة عن سياقها وواقعها.
وللإنصاف لم يكن عمر منفرداً بهذا الفهم لمقاصد الخطاب القرآني وتأسيس فقهه عليه، بل كان معه غيره من الصحابة في هذا الفهم القرآني للقرآن، أي الفهم المستمد من القرآن نفسه لنصوص القرآن وآياته، لكن عمر برز أكثر من غيره بسبب طول فترة خلافته من جهة، واستتباب الأمن والاستقرار فيها، فكان أن أتيح لعمر أن يبرز فقهه المقاصدي للشريعة وتطبيقاتها (أم أن استتباب الأمن، كان نتيجة لهذا الفقه وتطبيقاته العملية الفذة المتطورة مع تغيرات الواقع؟)…
__________________________________________
المصدر: كتاب البوصلة القرآنية، أحمد خيري العمري، دار الفكر، دمشق، ط4، 2011