ما الذي فعله الفكر الديني الجامد بكنز التساؤل؟

قد يحارب الفكر الديني الجامد أشياء كثيرة بلا هوادة، لكن حربه الأشد ضراوة والأشد صمتاً في الوقت نفسه كانت وستكون دوماً: ضد التساؤل.. ضد السؤال…

د. أحمد خيري العمري

الفكر الديني الجامد

مجرد الحديث السابق عن دور الشك في الإيمان والأسئلة الإبراهيمية كفيل بإحداث عاصفة من الاستنكار والغضب.

التساؤل الذي تم غرسه بعمق في نفوس الجيل الأول، تم اقتلاعه للأسف ومن الجذور عبر العقود والقرون المتطاولة. ومجرد الحديث السابق عن دور الشك في الإيمان والأسئلة الإبراهيمية، واللسان المسؤول كفيل بإحداث عاصفة من الاستنكار والغضب- في أفضل الأحوال- من قبل المؤسسة الدينية التقليدية..

والمقصود بالمؤسسة الدينية التقليدية مؤسسة الفكر الشعبي السائد في المجتمع، ولا تتعلق المؤسسة بأشخاص العلماء أو المشايخ إطلاقاً، بل بالفكر المتداول الذي يساهمون أحياناً في تكريسه…

والمؤسسة الدينية التقليدية لا تمثل كل الفكر الإسلامي حقيقة، ولا حتى كل التراكم في هذا الفكر عبر القرون؛ ففي هذا الفكر وفي تراكماته إنجازات مضيئة فعلاً. لكن التراكم السائد تمكن من (تحييد) هذه الإنجازات أو تحجيمها، أو على الأقل حجبها من دائرة الفاعلية.

فكر المؤسسة الدينية التقليدية الذي نعني إذن، هو الفكر الذي ساد وانتشر وتعايش مع عصور الانحطاط، وليس الفكر الإسلامي القرآني الأصيل الذي كان أساساً للنهضة الإسلامية في عصورها الأولى..

ولا ندعي هنا أن فكر المؤسسة قد محا الفكر الإيجابي الأصيل، لكننا نزعم أن ما نشأ من فكر سلبي قد تمكن بآلية شديدة التعقيد من حجب وإقصاء ما هو إيجابي، وتمكين وتفعيل ما هو سلبي.

ولا ننكر هنا أن بعض رموز هذه المؤسسة قد حاول مراراً وتكراراً إيقاف عجلة التدهور والانحطاط، وأن بعض هذه المحاولات قد نجحت جزئياً في هذه المرحلة أو تلك، لكن المحصلة النهائية لتلك الجهود لم تثمر انبعاثاً للنهضة أو حتى إيقافاً للتدهور، لأسباب عديدة، ربما من أهمها أن تلك المحاولات لم تكن جذرية شمولية بل كانت جزئية في غالبها، وربما لأن الظروف الموضوعية المحيطة لم تخدم هذه المحاولات ولم تنقلها من جزئيتها إلى النظرة الشمولية.

الفكر الديني الجامد و مؤسساته

أعود فأكرر أن المقصود بالمؤسسة الدينية التقليدية هو ذلك الفكر الذي تأسس وساد وكون مفاهيم مرتبطة بالنصوص الدينية، دون أن يكون في النص الديني بالضرورة ما يسند هذا المفهوم. إنه الفكر المفتاحي الذي جبر النصوص الدينية لمصلحة التعايش مع واقع يجب تغييره وإصلاحه لا التأقلم معه..

هذه النظرة النقدية للفكر المؤسساتي السائد لا علاقة لها بنيات شخوصها على الإطلاق، بل بمضمون الفكر فقط. بعض هؤلاء الشخوص جيدون ولا نزكي على الله أحداً لكن لا نتهمهم أيضاً، وبعضهم لا يمكن النظر إليه بالطريقة نفسها لما علم عنه من كونه أداة للاستبداد أو الاستبعاد أو الاستعمار لكن نشدد أننا لا نناقش هنا إلا الفكر.. ولا شخصنة في الأمر إطلاقاً..

والمؤسسة الدينية التقليدية اليوم لا عنوان ثابتاً لها. إنها تسكن المكتبات والمجلدات والمدارس الدينية والمعاهد والأكاديميات التقليدية، لكن الأخطر من هذا أنها تسكن الأعراف والعادات والتقاليد، تسكن عقول الملايين وبصائرهم، وتفرض عليهم رؤية أحادية سلبية- غالباً- للإسلام والقرآن.. وكل خروج عن هذه الرؤية هو خروج عن الدين- في رأيها- أي أنه بدعة، ضلالة محدثة، في النار دائماً.

إن المؤسسة اليوم بتراثها العريق، وكتبها الضخمة، ومؤسسيها، ومقلديهم المعاصرين، ووعاظها، وخطباء المنابر، تشكل جزءاً أساسياً من “العقل الجمعي المسلم” بكل ما في هذا العقل من إيجابيات وسلبيات، ومما لاشك فيه أن كثيرين من منتسبيها يمتلكون غيرة حقيقية على الإسلام، ورغبة صادقة مخلصة في نشره ودعمه وتحسين أوضاع المسلمين، لكن الفكر الديني الجامد- الذي هم جزء منه- يسيطر عليهم أيضاً، يفرض عليهم مع أن نياتهم طيبة رؤية أحادية قاصرة وسلبية، للدين والإسلام والقرآن والسنة..

لذلك عندما يعلو صوت تجديد هنا وهناك، في هذا المجال أو ذاك، فإنه يستفز أقطاب المؤسسة وعداوتها أكر مما يستفز حتى أعداء الإسلام الصريحين من شتى الأيدلوجيات المختلفة. صحيح أن بعض أدعياء التجديد نفسه قدموا له صورة مرتبطة بالتفلت من الشرع والدين.. لكن الفكر التقليدي يصم كل المجددين بهذا. ومن ثم يستعدي الجمهور ضدهم حتى لو كان تجديدهم مبنياً على ثوابت قرآنية وضد المشروع التغريبي…

الحرب على السؤال

قد يحارب الفكر التقليدي أشياء كثيرة بلا هوادة، لكن حربه الأشد ضراوة والأشد صمتاً في الوقت نفسه كانت وستكون دوماً: ضد التساؤل.. ضد السؤال.

فقد وعت المؤسسة بخبرتها الطويلة أن حربها ضد التساؤل حرب حياة أو موت، وأن إشارة الاستفهام هي قنبلة نووية معرضة للانفجار في أي وقت.. بل إنها تعي أن نشوءها بوصفها مؤسسة رسمية ومدعومة من قبل السلطات الحاكمة- في صدر العصر الإسلامي- لم يتكرس إلا عبر قدرتها على قمع التساؤلات أو قتلها نهائياً.

وعندما يكون قمع الأسئلة هو الحجر الأساسي الذي بنيت عليه المؤسسة وأجرت على أساسه مصالحتها التاريخية، بل مصاهرتها مع السلطات أيام نشوئها التاريخي الأول، فإن إخلاص المؤسسة لقمع الأسئلة سيكون بلا حدود، بل سيكون جزءاً لا يتجزأ منها، جزءاً غير قابل للمفاوضة أو المساومة..

كيف استطاعت، وهي تغلق باب التساؤلات، أن تغض البصر عن الأسئلة الإبراهيمية، بداية الإيمان الإسلامي، وعن الشك الإيجابي الذي أوصل إلى طمأنينة القلب، الشك الذي نحن أحق من إبراهيم به..

وعندما يبدأ الأطفال بتعلم القرآن فإن في أعماق كل منهم عالماً جديداً ممكن أن يفتح بالقرآن، يتوسع ويتمدد ويتبلور بالقرآن. في أعماق كل منهم هناك سر ونمر وكناري وغزال، والأهم من ذلك كل إنسان ممكن أن يشكل بالقرآن، ممكن أن يعيد بناء العالم.

ولكن ما إن يبدأ تعليمهم وفق الطرائق والأساليب التي تحتكر تعليم القرآن، فإن النسر والنمر والغزال والكناري تصير حيوانات محنطة معلقة على الحائط، والإنسان الذي كان من الممكن أن يغير العالم يصير إنساناً مكبلاً بالتقاليد والأعراف، عاجزاً حتى عن تغيير نفسه، بدلاً من رائحة الطبيعة والبرية تفوح رائحة (الفورمالين) والرتابة..

فمنذ الخطوة الأولى يقولب الطفل في قالب محدد يظل أسيره، ويظل يقرأ القرآن من خلاله؛ قالب ضيق يقزم فيه مارداً عملاقاً. كوة ضيقة يجبر الأطفال على النظر من خلالها إلى الكون بأكمله.

ومنذ البداية يكون (التعليم) هو محض حفظ ولا غير، وإتقان حفظ إلى أقصى مدى تتيحه كلمة إتقان، إلى أدق التفاصيل، التفاصيل التي تلهي عن المعنى الأساسي، بل عن المعاني الهائلة الكامنة في كل آية من آيات الخطاب القرآني.

لا أسئلة في القرآن، سيصرخون. لا إشارات استفهام، سيؤكدون. وكل تلك الأدوات الاستفهامية تأتي لأغراض أخرى غير التساؤل: الإنكار، التعجب.. الخ.. لا قنابل، لا ألغام، لا أبواب عوالم أخرى وكنوزها..

لو كان لهذا الفكر وجود حقيقي في العقود الأولى لحارب إذن كل الضرورات والإنجازات التي أبدعها الصحابة والتابعون من أجل نشر القرآن والحفاظ عليه؛ ابتداء من تدوين القرآن وجمعه إلى التنقيط مروراً بتقسيم القرآن إلى أجزاء وأحزاب… والأهم من ذلك، الفهم الإيجابي للقرآن الذي صنع تلك المعجزة.. معجزة النهضة من العدم والانبعاث من الصحراء..

تخيلوا أدلتهم ومسلسلة “المحدثة، البدعة، الضلالة، النار” التي تم اجتزاؤها من سياقها الخاص بالشعائر لتعمم على ما لا يمكن التعميم عليه..

وتخيلوا أي كارثة كانت ستقع لو كان لهذا الفكر سلطة فعلية في العهد الأول.. ولكن الكارثة التي لم تقع في البداية، وقعت بالتدريج في عهود لاحقة.

تلك الخيالات نعيشها اليوم بتفصيلاتها، كل ما في الأمر أننا تعودنا عليها، وصارت جزءاً مؤسساً من الأفق المعرفي والاجتماعي الذي تتنفس شعوبنا من خلالها..

وبدلاً من الاسترسال في الخيال، لابد أن نعمل على تغيير ذلك، حتى لا يتندر أحفادنا ذات يوم أجدادهم الذين عجزوا عن استيعاب روحية التساؤل المبثوثة عبر القرآن.. وعجزوا عن استخدام القرآن في نهضتهم…

بل علينا أن نعمل على تغيير ذلك حتى يكون لنا أحفاد على الأقل، لأننا لو استمررنا فيما لا يمكن الاستمرار فيه فسننقرض كما انقرضت الديناصورات؛ عندما عجزت عن التكيف مع تغيرات واقعها. معركة السؤال إذن هي جزء من الصراع من أجل البقاء.

_______________________________________

المصدر: بتصرف يسير عن كتاب البوصلة القرآنية، د. أحمد خيري العمري، دار الفكر، دمشق، ط3، 2010

مواضيع ذات صلة