إدراك هدفنا في الحياة في زمن الكورونا (2-2)

إن وجود الخير والشر في هذه الدنيا كانا متلازمين في كل زمان ومكان عبر العصور. غير أنه لوحظ زيادة الحساسية من ظهور الشر بين الحين والآخر في عصرنا الحاضر، والسبب ببساطة هو الحياة الرغدة التي أصبح يعيشها الإنسان الحديث بعد التطور الكبير في العلوم والتكنولوجيا…

(مقتطف من المقال)

بقلم/ فاتن صبري**

معرفة الله في السراء والضراء

الحياة

إن البشر الذين على قلوبهم غِشاوة الترف أو غِشاوة العداء أو غيرها من الصفات المذمومة تنقشع عند أول كرب يَلم بالإنسان.

في لقاء لي مع مسؤول كبير في مؤسسة دولية من الأرجنتين، وقد كان الحوار باللغة الإسبانية، أذكر أن الزملاء حذروني من التكلم معه عن الدين، لأن الدين برأيهم موضوع شائك وحساس، لكنني رفضت وقلت لهم: أنني لا أعرف أن أتكلم إلا عن الدين، وقد كُنت أنا خيارهم الوحيد حيث أنني أتكلم الإسبانية.

بدأت حواري معه بذكر وِحدانية وعظمة الخالق، وعمل مقارنة بسيطة بين الديانات وتوضيح أن التوحيد هو الحلقة المفقودة، والتي بها تتوحد الُأمم. فاجأني بدموعه واحمرار شديد بوجهه، ورجفة في يديه قائلا: أنتم المسلمون أفضل منا بكثير.

قلت له : لماذا؟

قال إنكم تلجئون له في السراء والضراء ونحن لا نلجأ إليه إلا في الشدائد، نحن مُتعلقون بالدنيا وأنتم متعلقون بالآخرة. قلت له: إذا فالشدائد رحمة لكم وليس نقمة، فتأثر كثيرا.

نحن البشر ننسى بسرعة لأسباب مختلفة. أحد هذه الأسباب هو الراحة والنعيم، لهذا يقطع الله أحيانًا حلاوة الحياة ببعض الابتلاءات عندما نتشبث بترفها، وننسى هدفنا الرئيس الذي جئنا إلى هذه الدنيا من أجله.

 وقلت له: هذه الدنيا اختبار، والإنسان يخرج من الدنيا فقط بشهادة ناجح أو راسب. فمن الخطأ أن يُحب الإنسان الدنيا، فهو كمن يقول إنه يُحب الامتحان ومتعلق به ولا يُريد الشهادة التي يخرج بها من هذا الامتحان.

 لذلك فحب الدنيا لذاتها هو أصل الشرور وهو الذي يُوقع الانسان في مَتاهة، فمُشكلة الناس انهم لا يفهمون سبب وجود هذين المتناقضين معاً في الدنيا.

فالامتحان أو البلاء في الدنيا إما أن يكون بالخير أو بالشر. فامتحان الخير غالباً ما يشد الإنسان للدنيا ويُبعده عن خالقه، في حين أن امتحان الشر يُبعد الإنسان عن الدنيا ويقربه أكثر لخالقه. فالإنسان لا يعي أن امتحان الشر ربما ينفعه أكثر مما يضره في هذه الدنيا. وخير مثال على ذلك ما حصل للإنسان من انفتاح الدنيا عليه بالعلوم والمعارف والتكنولوجيا واستغنى بها عن الدين وحتى عن الآخرين، كما أن الشر ليس بالضرورة يكون من فعل الإنسان، لكن ربما يُصيبه الضرر من بعض ما يحصل في الكون، مثل البراكين والزلازل وانتشار بعض الأمراض، فهي في نظر الإنسان شر، غير أن هذه الظواهر والأحداث تقع فعلياً لعمل توازن بيئي. وهيأ رب العالمين للإنسان من الوسائل ما يمكنه ان يدفع عن نفسه شر هذه الظواهر والأحداث.

فمثلا ما تعرض له الإنسان مؤخرا من انتشار لمرض الكورونا وما تسبب من تعطل لحركة الإنسان وشلل لكافة أنشطة الحياة وفقدان عدد كبير من الضحايا، فأصبح الإنسان أكثر إقبالاً على مساعدة الآخرين وتوحدت مشاعر الناس وحتى الأعداء منهم ومن كانت لديهم نزاعات وخصومات تركوها جانباً ريثما يجد حلاً لهذا الخطر الذي داهم الجميع. وكأن وجود الابتلاء بالشر نفع الإنسان أكثر مما ضره وخاصة عندما توقفت بعض الحروب الأهلية بسبب هذا المرض.

كما سُمح للآذان أن يُرفع ويُعلن في بعض المناطق التي لم يتصور أن يسمع فيها كلمة “الله أكبر”. وكأن هذا الابتلاء الذي ألم بالناس كشف عن قلوبهم الغشاوة الزائفة.

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” (الحديد: 20).

فكما عرفنا أن الحياة الدنيا هي دار للامتحان والابتلاء وجُعل فيها المتناقضات والأضداد مثل الخير والشر والمرض والدواء والحر والبرد والليل والنهار والحياة والموت ….. إلخ، كان لا بد من وجود الإرادة للإنسان ليختار.

وأما الشر الذي يقع من الناس، فهو ليس لأن الله زرع في الإنسان الخير والشر، إنه مفهوم خاطئ. إنما زرع الله الإرادة في الاختيار بين الإقبال على الخير أو الإقبال على فعل الشر. والإنسان هو الذي يختار بكامل إرادته وعليها سوف يحاسب.

وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا” (الشمس: 7-10).

وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ…….” (الكهف: 29).

عصر من الحساسية المفرطة

إن وجود الخير والشر في هذه الدنيا كانا متلازمين في كل زمان ومكان عبر العصور. غير أنه لوحظ زيادة الحساسية من ظهور الشر بين الحين والآخر في عصرنا الحاضر، والسبب ببساطة هو الحياة الرغدة التي أصبح يعيشها الإنسان الحديث بعد التطور الكبير في العلوم والتكنولوجيا وأصبحت المقولة الشائعة في عصرنا الحالي “نحو حياة أفضل، أهنأ، أطول….” وغيرها من المقولات التي تُعبر عن سعادة الإنسان وتمكنه من تحقيق أحلامه وتخيلاته حيث أنه تمكن من الوصول للقمر وهو شيء لم يتصوره الأقدمون. فكان من الطبيعي أن مشكلة وجود الشر سوف تتضخم وتكبر عند أولئك الذين لديهم حساسية خاصة عند رؤية دموع الأطفال، وضعف كبار السن، وصراخ الألم من الأمراض.

إنتاج التميز البشري

يعلم الله النزعة البشرية إلى الغفلة والخمول، وبالتالي فهو أحيانًا يُوقظنا من غفلتنا.

إن للإنسان صفات جميلة قادرة على أن تطور وتنمي حياتنا دوماً للأفضل. وتظهر هذه الصفات والفضائل جلياً عند الأزمات والكوارث.

فعند الأزمات والزلازل، تظهر قيم الشجاعة والكرم والأخوة والإيثار بشكل واضح حتى مع الأعداء.

إن البشر الذين على قلوبهم غِشاوة الترف أو غِشاوة العداء أو غيرها من الصفات المذمومة تنقشع عند أول كرب يَلم بالإنسان.

 إن الابتلاءات مثل اليُتم، أو التشرد بلا مأوى، أو الجوع، أخرجت للعالم مواهب، أبطال وشخصيات رائعة من حولنا. نحتت هذه الابتلاءات فضائل المثابرة فيهم، والتي بدورها أكسبتهم الوصول إلى صُنع التاريخ.

إن أذكى العقول وأعظم الاكتشافات لم تؤت إلا من خلال بذل الدماء والعرق وذرف الدموع.

حتى على الصعيد الشخصي، فإنه ينشأ عن كل تجربة فاشلة حياة جديدة، فعندما يُغلق الله أمامنا باب، فهي مُجرد إشارة لحثنا على تغيير الاتجاه، فلهذا علينا أن نُدرك أنه عند تعرضنا للمشاكل، أن مشكلتنا الحقيقية لم تكن السحب الضخمة الداكنة التي تُطاردنا، ولكن هي بالجفون الثقيلة التي منعتنا من رؤية أشعة الشمس المُشرقة.

لذلك فالله تعالى يُجدد حياتنا بشكل دوري ببعض الاضطراب.

إن بمجرد استيقاظهم من الغفلة، يُدرك البشر حقيقة وجودهم، ويشعرون بدافع عاجل وقوي نحو العيش لأشياء أكبر وأهم، ومن ثم، فإن هذه “الشرور” تزرع بذور الامتياز البشري، ولا يكتشف الناس إمكاناتهم ويحقّقون أنفسهم فحسب، بل ينتقلون إلى مركز عميق من السمو الذاتي: العيش مع الله، بالله، ولله في الدنيا والآخرة.

سعادة الدنيا والاخرة

سألني مُلحِد يوما ما عن حاجة الإنسان للإيمان بالخالق، وإنه برأيه يكفي أن يكون هناك أخلاقيات وقيم تحكمنا نحن البشر، وعلاقات يحترم بعضنا فيها البعض.

قلت له: ليس هناك معنى أن يحافظ الموظف على علاقته بباقي زملائه ويحترمهم، في حين أن يُهمل علاقته مع صاحب العمل. لذلك كي نحصل على الخير بحياتنا ويحترمنا الآخرون يجب أن تكون علاقتنا بخالقنا أفضل وأقوى علاقة.

إضافةً إلى ذلك، فنقول ما الدافع الذي يدفع بالإنسان إلى إقامة الأخلاقيات والقيم وباحترام القوانين أو احترام الآخرين. أو ما الضابط الذي يضبط الإنسان ويُجبره على فعل الخير وليس الشر. وإذا قُلنا بقوة القانون، فنرد ونقول إن القانون لا يتوفر في كل زمان ومكان. ولا يكفي وحده لحل كافة النزاعات على المستوي المحلي والدولي. ومعظم تصرفات البشر تتم في معزل عن القانون وأعين الناس.

ويكفي دليلا على الحاجة للدين هو وجود هذا العدد الكبير من الديانات والتي تلجأ إليه غالبية أمم الأرض لتُنظّم حياتها وتضبط تصرفات شُعوبها على أساس من الدين أو القانون. فكما نعلم أن الضابط الوحيد للإنسان هو مُعتقده الديني في حال غياب القانون، فالقانون لا يُمكن أن يتواجد مع الانسان في كل حين وكل مكان.

فالوازع والرادع الوحيد للإنسان هو اعتقاده الداخلي بوجود رقيب عليه ويُحاسبه، وهذا الاعتقاد هو دفين وراسخ في وجدانه يَظهر بوضوح لدى الإنسان عندما يهّم بفعل خاطئ، حيث تتنازع لديه ملكات الخير والشر ويحاول إخفاء أي عمل فاضح عن أعين الناس، أو أي عمل تستنكره الفطرة السليمة. كل هذا دليل على وجود لمفهوم الدين والاعتقاد في أعماق النفس البشرية.

فالدين جاء ليملأ الفراغ الذي لا يمكن للقوانين الوضعية أن تملأه أو تُلزم العقول والقلوب به على اختلاف الزمان والمكان.

إن الدافع أو المحرك لدي الإنسان لعمل الخير يَختلف من شخص لآخر. وأن كل شخص له دوافعه ومصالحه الخاصة لفعل أو الالتزام بأخلاقيات أو قيم محددة.

  • العقوبة: وقد تكون هي الرادع للإنسان لكف شره عن الناس.
  • المكافأة: وقد تكون هي الدافع للإنسان للإقبال على فعل الخير.
  • إرضاء الذات: وقد تكون الضابط للإنسان لضبط نفسه عن الشهوات والرغبات. وأن للإنسان مزاج وهوى وما يعجبه اليوم قد لا يعجبه غداً.
  • الوازع الديني: وهو معرفة الله والخوف منه واستشعار وجوده أينما ذهب، وهو الدافع القوي والفعال.

إن للدين أثراً كبيراً في تحريك مشاعر وعواطف الناس سلباً أو إيجاباً. وهذا يدلنا على أن أصل فطرة الناس مبنية على معرفة الله، وقد تُستغل في كثير من الأحيان بقصد أو بغير قصد كدافع لتحريكه. وهذا يُوصلنا إلى خطورة الدين في وعي الانسان لأن الآمر يتعلق بربه.

يقول ابن القيم:

“إن في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يُزيلها إلّا الأُنس به في خلوته، وفيه حُزن لا يُذهبه إلّا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يُسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يُطفئها إلّا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أُعطى الدنيا وما فيها، لم تُسد تِلك الفاقة أبدا.”


** فاتن صبري (1973) مفكرة إسلامية، تعمل في مجال الدعوة للتوحيد وتصحيح المفهوم الخاطئ عن الخالق، عُرفت بنشاطاتها في التواصل مع مختلف الثقافات والديانات، تتحدث خمس لغات، درست مقارنة الأديان، ونشرت العديد من الكتب، وتُرجمت بعض كتبها لأكثر من 14 لغة.

مواضيع ذات صلة