يزعم بعض المشككين أن (هَديَ الحج) أي ذبح الأضحية في منى أثناء الحج عادة جاهلية تؤدي إلى إهدار الأموال، وتبديد الثروات؛ حيث تتكدس اللحوم في “منى” حتى يتعفن بعضها، ويدفن بعضها الآخر، ولا يستفاد من معظمها. ويتساءلون: ما قيمة هذه الشعيرة ما دامت لا تتفق مع مقاصد الشريعة؛ إذ إنها إهدار للمال؟ ويرمون من وراء ذلك إلى إنكار كل فضل لشعائر الحج في الإسلام.
والشبهة باطلة من وجوه عدة:
1) الهدي شرعا: ما يهدى من النعم -أي يذبح- تقربا لله تعالى، ومشروعيته ثابتة بالقرآن والسنة وإجماع الصحابة عليه.
2) للهدي في الإسلام مقاصد سامية وحكم بليغة، تبين مدى الفرق الكبير بين هذه الشعيرة في الإسلام وفي غيره من الديانات والعادات الأخرى.
3) دعا الإسلام المسلمين إلى ذبح الأضاحي في أيام الحج، وأوجد البدائل التي تحل مشكلة كثرة اللحوم في هذه الأيام المباركة.
ولمجمل ما سبق تفصيل نورده فيما يلي:
أولا: الهدي في الشرع ودليل مشروعيته
الهدي: هو ما يهدى من النعم[i] إلى الحرم؛ تقربا إلى الله عز وجل.
دليل مشروعيته: قوله تعالى: “وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ¤ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ” (الحج:37،36). وقال عمر رضي الله عنه: «اهدوا؛ فإن الله يحب الهدي، وأهدى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان هديه تطوعا»[ii].
وهناك فروق جوهرية بين التضحية في الإسلام ونظيرتها في الجاهلية:
لقد ورث العرب شعائر الحج من الحنيفية دين إبراهيم -عليه السلام- ولكنهم حرفوها، وابتدعوا أشياء أتوا بها من عند أنفسهم، ما أنزل الله بها من سلطان، ومن هذه الشعائر التي حرفوها الهدي أي التضحية، فبعد أن كانت لونا من ألوان الاستسلام والامتثال، لأوامر الله – عز وجل – كما فعل إبراهيم الخليل – عليه السلام – حينما هم بذبح ابنه -عليهما السلام- فامتثل الأب والابن، وكذلك الزوجة الصابرة لأمر الله تعالى، ففداه الله بذبح عظيم، أصبحت هذه الشعيرة لونا من الوثنية. بعد أن امتزجت بأفكار مشوشة في الإله تعالى وإسقاط صفات المخلوقين عليه، فمن عادات العرب في الجاهلية أنهم إذا نحروا البدن، لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله تعالى، وكانوا لا يأكلون من لحم هديهم، يقول ابن عباس -رضي الله عنه- كان أهل الجاهلية يضرجون البيت، بدماء البدن، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فنزلت: ” لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ.. الآية” (الحج:٣٧)، ويضرجون البيت بالدم: أي يلطخونه به.
وقال مجاهد: “أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح، وتشريح اللحم، ونصبه حول الكعبة، ونضحها بالدماء تعظيما لها وتقربا إليه تعالى فنزلت هذه الآية”. إذا فقد نقى الإسلام هذه الشعيرة من كل ما شابها من لوثات الجاهلية، وجعلها خالصة لله تعالى، وردها إلى نقائها الأول الذي كانت عليه في دين إبراهيم عليه السلام، فهذا الهدي المقصود به إثبات الطاعة لله تعالى، وامتثال أمره وتقواه فلن تصل اللحوم ولا الدماء إلى الله تعالى، فهذه الشعيرة “الهدي” بهذه الصورة التي جاء بها الإسلام أبعد ما تكون عن نظيرتها في الجاهلية، فلا يمكن أن يقال إن الإسلام قد اقتبسها من العرب المشركين بأي حال من الأحوال.
ثانيا. المقاصد السامية والحكم البليغة لشعيرة الهدي في الإسلام:
الإسلام -باعتباره دينا- لا يخلو من جانب تعبدي محض، وإن كان أقل الأديان في ذلك، وفي الحج -خاصة- كثير من الأعمال التعبدية المحضة، وهي ابتلاء الله لعباده؛ ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.
ومن هذه الأمور التعبدية “شعيرة الهدي”، فلو كان كل ما يكلف به العبد مفهوم الحكمة للعقل جملة وتفصيلا، لكان الإنسان حينما يمتثل إنما يطيع عقله قبل أن يكون مطيعا لربه.
وعلى الرغم من هذا، فالمتأمل لشعيرة الهدي في الإسلام يجد لها كثيرا من المقاصد السامية، والحكم البليغة، ومنها:
- إحياء هذه الموعظة التي يسوقها الله -عز وجل- للمسلمين، من خلال تلك القصة الفذة التي أجراها الله على يد نبيه وخليله إبراهيم وابنه عليهما السلام.
ففي الحج يربط المسلم قلبه بذكريات أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلامـ وما كان منه من جهاد وتضحية، وتقديمه أمر ربه على النفس، والولد دون تردد أو جزع، وإنها لعبرة أن يؤمر-عليه السلام- وهو الأثير عند ربه، الوفي بعهده أن يذبح ولده بيده بعد أن أصبح قرة عينه، وسكينة نفسه، ولكن يستجيب استجابة المؤمن بحكمة ربه، ويعرض ذلك علي ولده فيستجيب كذلك، يقول عز وجل: “وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ¤ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الاَخِرِينَ ¤ سَلاَمٌ عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ”(الصافات:107-109). ألا تستحق هذه القصة وما فيها من معان أن تذكر، وأن يحييها المسلمون فعلا ورمزا.
- إماتة الشح والأنانية في صدر المسلم، فالحاج حينما يقدم أضحيته التي اشتراها بماله إلى غيره، فيأكل منها الفقراء والمساكين، فذلك يحيي في قلبه معنى العطاء والبذل، ويميت فيه الشح والأنانية.
- امتثال أمر الله – عز وجل – وتقواه وهذه هي الغاية السامية من التضحية، يقول سبحانه وتعالى: ” لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ.. الآية” (الحج:٣٧).
ثالثا. الإسلام يحث على الانتفاع بلحوم الأضاحى لا إهدارها:
لقد حث الإسلام على الاعتدال في الإنفاق، ونهى عن الإسراف والتقتير، يقول عز وجل: “وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” (الأعراف:31)، ويقول: “..وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ¤ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا” (الإسراء:26-27)، وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وقعت لقمة أحدكم، فليأخذها فليمط ما كان بها من أذي وليأكلها، ولا يدعها للشيطان».
من هنا نرى أن الإسلام قد حذر أشد التحذير من الإسراف، وإهدار المال؛ لهذا فقد أمر بعدة آداب يتبعها المسلمون في الأضاحي في موسم الحج؛ منها:
- أن يأكل الإنسان من هديه: وفيه أجر وامتثال، يقول عز وجل: “.. فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ”(الحج: ٣٦)؛ إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم، بل كان يحرم أحدهم الأكل من لحم أضحيته، وقد أكل النبي – صلى الله عليه وسلم – من هديه.
- التصدق على الغير: فيجوز في الأضحية أن يتصدق صاحبها بالثلث، أو بأكثر من ذلك، فالقانع والمعتر في الآية السابقة أي: الفقير والزائر، بل وأجاز الإسلام التصدق بلحوم الأضاحي على الأغنياء.
- تعدد أيام النحر: فلم يحصرها الإسلام في يوم بعينه بل جعلها أربعة، يوم النحر وثلاثة بعده.
- جواز ادخار لحوم الأضاحي: فقد أباح الإسلام ادخار لحوم الأضاحي، إذا زادت عن حاجة الناس، فلم يشترط وقتا محددا للانتفاع بها، بل جعل ذلك جائزا في العام كله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ليتسع ذو الطول على من لا طول له، فكلوا ما بدا لكم وأطعموا وادخروا» أخرجه الترمذي.
وعن أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – قالت: «لقد كنا نرفع الكراع، فيأكله رسول الله – صلى الله عليه ىوسلم – بعد خمس عشرة من الأضاحي» أخرجه ابن ماجة، والكراع في الغنم هو مستدق الساق.
والانتفاع بالأضاحي في الإسلام ليس بلحومها فحسب، بل بكل ما يمكن للإنسان أن يستفيده منها مثل الجلود، فعن ابن عباس رضي الله عنه «أنه تصدق على مولاة أم المؤمنين ميمونة بشاة، فماتت فمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: هلا أخذتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به؟ قالوا: إنها ميتة، قال: إنما حرم أكلها» أخرجه البخاري، والإهاب هو الجلد، وقد عرف العرب الدبغ لحفظ الجلود.
إذا فالإسلام لا يدعو إلى الإسراف، وإهدار الأموال بلا فائدة، كما يزعم البعض، بل حرص كل الحرص على أن تتفق عبادته مع منهجه العام، وهو منهج الاعتدال والوسطية.
- جواز التصدق بلحوم الأضاحي خارج مكة إذا زادت عن حاجة أهلها: فقد أباح الإسلام للمسلمين التصدق بلحم الأضاحي خارج مكة، ونقلها إلى من يستحقها من فقراء المسلمين في أي مكان في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا ما يفعله المسلمون الآن حيث تقوم مؤسسات متخصصة في المملكة العربية السعودية بذبح الأضاحي وحفظها، ثم إعطائها لمن يستحقها من فقراء المسلمين في أفريقيا وشرقي آسيا.
- أباح الإسلام حفظ اللحوم والجلود من التلف: فقد عرف المسلمون الأوائل الكثير من الوسائل التي تحفظ اللحوم؛ مثل التجفيف بالملح، والتشريق، وهو وضعها في الشمس، فقد روي عن ابن مسعود، قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم: رجل فكلمه، فجعل ترعد فرائصه. فقال له: هون عليك؛ فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد» أخرجه ابن ماجة. والقديد هو اللحم المملح المجفف في الشمس.
وعلى هذا القياس، فيجوز للمسلمين – بعد تقدم العلم، وتوافر الوسائل الحديثة لحفظ الأطعمة؛ مثل التعليب – الاستفادة من هذه الوسائل؛ لحفظ هذه اللحوم، وتلك الجلود وكل ما يمكن الاستفادة منه.
كل هذه الآداب التي تتعلق بالتضحية في موسم الحج لو اتبعها المسلمون لما وُجد هذا الإهدار للحوم الأضاحي، ولكنه تقصير بعض المسلمين في اتباع هذه الآداب التي لا تؤدي إلى تلك الأضرار، وهذا ليس معناه أن الخطأ في الإسلام، أو في شعيرة الهدي نفسها، وإنما العيب والخطأ في تصرفات بعض المسلمين التي تكون بعيدة عن منهج الإسلام في عدم التبذير وضياع الأموال.
الهوامش:
- مختلف صنوف الماشية من غنم وماعز وأبقار وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل.
- أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (4/ 387)، كتاب المناسك، باب فضل الضحايا والهدي وهل يذبح المحرم (8164).
_____________________________________
المصدر: موقع بيان الإسلام