الإلحاد في بلادنا.. غوصٌ إلى العمق ج6

تقف وراء ظاهرة الإلحاد التي ظهرت بين شبابنا (مفاهيم ونماذج معرفية) مختلفة، تختلف من مجموعة لأخرى، يمكن أن نطلق عليها جميعا اسم (الإلحاد السفسطائي)…

د. عمرو شريف

حمم بركانية

كيف يعاقب إلهكم الرحمن الرحيم الإنسان على معاصٍ يرتكبها في حياته القصيرة (وإن كثرت) بعذاب أبدي لا يحتمله البشر؟!

ويلاحظ المتأمل لهذه الأنماط أنها تنقسم إلى مجموعتين كبيرتين:

المجموعة الأولى، وتشمل الأسباب الحقيقية وراء إلحاد الملحدين، وهي الأسباب النفسية العميقة، التي تتخفى وراء أسباب موضوعية يعلنها شبابنا… وقد سبق تناولها بالتفصيل

يمكنكم الاطلاع على المقالات السابقة عبر الضغط على الروابط التالية:

الإلحاد في بلادنا.. غوصٌ إلى العمق ج1

الإلحاد في بلادنا.. غوصٌ إلى العمق ج2

الإلحاد في بلادنا.. غوصٌ إلى العمق ج3

الإلحاد في بلادنا.. غوصٌ إلى العمق ج4

أما المجموعة الثانية، فتشمل الحجج العلمية والفلسفية المُعلنة، ويختلف مدى صدق مواقف الشباب الملاحدة من هذه المفاهيم، وإن كان نصيب معظمهم من خلفيات وتفاصيل ما كُتب في تفنيد هذه الحجج ضئيلا للغاية.

لمراجعة النوعين الأول والثاني من أنماط الإلحاد المعلنة يرجى الضغط على الرابط التالي:

الإلحاد في بلادنا.. غوصٌ إلى العمق ج5

استكمال أنماط الإلحاد المعلَنة.. 3- إلحاد الإله الظالم القاسي.

يبلغ الإلحاد السفسطائي مداه بادعاءات تصف الإله بالظلم. فيقول بعضهم: كيف يعاقب إلهكم الرحمن الرحيم الإنسان على معاصٍ يرتكبها في حياته القصيرة (وإن كثرت) بعذاب أبدي لا يحتمله البشر؟!.

قلت لهذا المعترض: ولماذا لم يدهشك عِظَم الثواب والنعيم في جنات تخلد فيها مقابل طاعات قليلة؟! إن حجتك تصبح ذات قيمة إذا كان عِظَم العقاب يقابله فقط النجاة من العقاب في حالة الطاعة، إلا أن عظم العقاب يقابله عظم الثواب. ولم يكتف الإله بذلك، بل دلَّك على طريق الجنة وأعانك على السير فيه وتعهد بأن يُبدل سيئاتك حسنات في حال التوبة من المعاصي. وأضفت: إن الإنسان إذا سب كلبا أزعجه فله العذر، أما أن يهين والديه فلا عذر له. أعني لا تنظر فقط إلى عِظَم المعصية، لكن انظر في حق من ارتكبت المعصية.

أجابني الشاب الملحد قائلا: لقد تكررت كلمة العذاب بمشتقاتها في قرآنكم قرابة أربعمائة مرة، ربما أكثر من أية كلمة أخرى، أليس هذا دليل على القسوة الشديدة؟ قلت له؛ إنك تَقلب الأمور وتجعل الرحمة قسوة، أما كان ينبغي أن تقول إن الله حذرنا أربعمائة مرة، وفي كل مرة وصف لنا طريق النجاة. وضربت لذلك مثالا: ما قولك في أم تُنَبِّه أولادها –كلما خرجوا من المنزل- أن يأخذوا حذرهم عند عبور الطريق؟ هل تصف هذه الأم بالقسوة لأن تحذيرها يجعل أولادها يستحضرون في أذهانهم احتمال الإصابة في حادث؟! أم أن سلوك الأم هو عين الحب والرحمة؟.

وأضفت قائلا: هل تنتظر من الله عز وجل أن يربت أكتاف حفنة الشيوعيين (ستالين و ماوتسي تونج و…) الذين قتلوا أكثر من مائة مليون شخص لينشروا مذهبهم الإلحادي الفاسد؟! وهل تنتظر من الله عز وجل أن يلتمس العذر لهتلر، الذي تسبب في قتل قرابة ثلاثين مليون شخص؛ لأن حياته كانت قصيرة؟!.

أصر الشاب على عناده وقال: كيف يطلب إلهكم من نبيه إبراهيم أن يذبح ابنه، أية قسوة تلك أن يُطلب من أب مسن أن يذبح وحيده الذي رُزق به على كِبَر؟ قلت له: هل طُلب منك مثل ذلك؟ أجاب بلا.

قلت: وهل طُلب ذلك من إنسان آخر سوى إبراهيم؟ فقال لا، فعقبت شارحا الموقف؛ إن إبراهيم عليه السلام ادعى (عن حق) أن ليس أحدٌ أو شيءٌ أحب إلى قلبه من الله عز وجل، فكان طبيعيا أن يُختبر في هذا الادعاء بمثل هذا الابتلاء القاسي، لذلك كان الطلب ذبحا لتعلق إبراهيم بابنه. وما كان الله ليدع إبراهيم ليقتل وحيده، بل كان جزاء إخلاص إبراهيم عليه السلام أن صار للرحمن خليلا وأن أصبح موقفه هذا عيدا تحتفل به البشرية كل عام حتى يوم القيامة.

وأضفت: بعد ذلك كله، فإن قسوة الإله وظلمه ليست حجة ضد وجوده، بل قد تكون حجة ضد رحمته، ومن ثم فهي ليست حجة للإلحاد. وحاشا لله أن يكون ظالما أو قاسيا، هو الرحمن الرحيم. لكنها الرحمة الحقيقية الإلهية المطلقة، وليست رحمة الضعف البشري، فلا ينبغي أن نقيسها بمقاييسنا.

4- إلحاد التعنت والسَّفه

قال الشاب لي: كيف يعطيني الإله غرائز ثم يطالبني ألا أستعملها؟ وكيف يطالبني أن أخسر نقودي باسم الزكاة، وأن أخسر وقتي وجهدي باسم الصلاة، وأن أخسرها جميعا باسم الحج والعمرة.

قلت له: إن الإنسان ليس بهيما تحركه الغرائز فقط، إن ما طُلب منا هو توجيه هذه الغرائز وترشيدها، وفي ذلك ترقية للنفس وسمو للروح.

إن الملاحدة إذ يدعون إلى إطلاق الغرائز يشبهون الصبية الذين يريدون أن يتفرغوا للعب فحسب، بينما يُلزمهم والداهم بإنفاق بعض الوقت في مذاكرة دروسهم لما في ذلك من مصلحة لاحقة.

وإذا كان الماديون يرفضون إنفاق بعض المال والوقت والجهد في سبيل الله ويَعُدون ذلك سفها، فما بال فريق منهم ينفقها في سبيل المجتمع استجابة لتعاليم الشيوعية؟!

5- إلحاد الإله العاجز

قال لي الشاب الملحد، وقد علت وجهه ابتسامة خبيثة: هل يستطيع إلهك أن يخلق إلها أكبر منه أو أقوى منه؟ وهل يستطيع أن يخلق صخرة لا يستطيع حملها؟

ظن ذو الابتسامة الخبيثة أنه وضعني في مأزق؛ فإن قلت إن الله عز وجل يستطيع، فإني بذلك أنفي أنه الأكبر والأقوى. وإن تهربت من هذا الاستنتاج بأن قلت أنه لا يستطيع، كنت أثبت على إلهي العجز، حاشاه.

قلت للشاب: إن كلا من سؤاليك ينطوي على تعارض بديهي، ومن ثم يناقض نفسه ولا يجوز طرحه. وشرحت ذلك قائلا: إنك تطلب مستحيلات عقلية، كأن ترسم دائرة مربعة!

فكيف تطلب أن يخلق الله إلها (سواء أكبر و أقوى أو أصغر وأضعف) بينما الإله لا ينبغي أن يكون مخلوقا؟!

وكيف تطلب أن يخلق صخرة لا يستطيع حملها، بينما كل مخلوق يستمد صفاته من خالقه، ولا يمكن بداهة أن يكون الفرع والجزء أكبر من الأصل والكل. إن سؤاليك سؤالا مستحيلان عقليا، ولا يعكسان إلا المكابرة.

اختفت الابتسامة الخبيثة، وعلا الشحوب وجه الشاب.

6- إلحاد نقض العهد

قال لي: تدَّعون أن إلهكم أخذ علينا عهدا بأن نعبده، لكنني ولا أنت ولا أحد من البشر نذكر ذلك العهد، فكيف يجعل الإله هذا العهد الذي تركنا ننساه حجة علينا ويدخلنا النار إن خالفناه؟

قلت له: أقبل حجتك لو أن سيناريو الأحداث سار كما تدعي، لكن الأمر ليس كذلك، فنحن قد تعلمنا الدرس وإن كنا قد نسينا الموقف؛ فالعهد ما زال قائما في نفس كل منا، متمثلا في الفطرة السليمة المدركة لوجود الإله.

كذلك وضع الله عز وجل أدلة الألوهية في الكون والأنفس، وأرسل الرسالات السماوية تستحث العقل ليتأمل هذه الأدلة، وتذكر الإنسان بما نُسِي من العهد وطُمس من الفطرة، لذلك حفل القرآن الكريم بالدعوة إلى التذكر، بل إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إنما بُعث مذكرا: “فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ” (الغاشية: 21).

­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­________________________________________

المصدر: المصدر: بتصرف يسير جدا من كتاب الإلحاد مشكلة نفسية، د. عمرو شريف، نيو بوك للنشر، الطبعة الثانية، 2016، ص: 344

مواضيع ذات صلة