من قال أن تجديد الفقه الإسلامي يعني التفلت؟

إن تجديد الفقه ليس عملية تجميل أو شدّ عابرة. إنه ليس فتوى هنا وفتوى هناك، ليست مسألة فلتات وشطحات تواجه بالرفض أو القبول…

د. أحمد خيري العمري

تجديد الفقه

لا يزال الفقه السائد يتعامل مع النصوص بالطريقة التي نتجت عن ملابسات تاريخية وسياسية مختلفة.

لا يزال الفقه السائد يتعامل مع النصوص بالطريقة التقليدية نفسها التي نتجت عن ملابسات تاريخية وسياسية مختلفة، لا يزال الفقه يتعامل مع النصوص كلّ على انفراد، يترك شمولية الاستقراء وكليات الرؤية العامة التي تلم بعموميات المقاصد وبدلاً من ذلك ينشغل بتفاصيل الجزئيات.

الأمثلة كثيرة جداً، بعضها شائك وحساس، والبعض الآخر أقل حساسية، وكلها تتعلق بمقاصد النصوص وارتباطها بشمول الأحكام القرآنية.

مثال قد لا يزعج أحداً: زواج المسلم من غير المسلمة – الكتابية – جائز بالنص، فهل يمكن تطبيق هذا التجويز على واقعنا المعاصر بكل تبعياته؟

في صدر الإسلام عندما كان المجتمع الإسلامي قويًا ومركزًا للاستقطاب والجذب، كان الزواج من غير المسلمة يعني انصهارها وذوبانها بالمجتمع الجديد الذي كان لايزال مرتبطاً بقوة بعقيدة الخطاب القرآني ومعانيها، فكان لا يمكن للزوجة أن تأخذ بأولادها بعيدًا عن دينهم الذي هو مجتمعهم ومجتمعها أيضًا.

أما اليوم، في ظلّ التفكك الاجتماعي الذي نعاني منه، في ظل التبعية التي نمارسها بشتى الوسائل والأشكال تجاه الغرب، كما يمارس أي مهزوم التبعية تجاه المنتصر، وفي ظل غياب الوعي الديني بل وانعدامه أحيانًا، هل يمكن للزواج من غير المسملة إلا أن يكون – على الأغلب – تكريسًا لضياع الدين عند أولادها، حتى لو كانوا مسلمين بالهوية؟ إن هذا الزواج لا يخالف نصًا معينًا لكنه ببساطة يخالف المقصد من النص، والمقصد من الزواج الإسلامي نفسه.

مثال آخر غير حساس أيضًا، يتعلق بالزكاة. إن مقصد الزكاة بل مقاصدها المتنوعة معروفة وواقعية، والمسألة هي/ هل مصادر الزكاة تظل ثابتة بالنسبة إلى مجتمع الجزيرة العربية في صدر الإسلام ومجتمع المسلمين اليوم الممتد من طنجة إلى جاكارتا باختلاف الأقاليم المناخية والجغرافية، ومن ثم اختلاف زراعاتها –مثلاً- ومنتجاتها الزراعية؟

ينتشر اليوم القول السائد بأن لا زكاة إلا في أربعة منتجات أو خمسة: شعير، قمح، زبيب، تمور، وذرة، وهي المنتجات التي كانت سائدة في الجزيرة العربية في مجتمع ناشئ زراعيًا، محاطٍ بظروف بيئية صعبة. ويذهب مالك والشافعي إلى أن الزكاة لا تحق إلا على المزروعات الخاصة بتغذية الإنسان باستثناء الفواكه التي يرون أنها لا تدفع عنها الزكاة، بينما يرى أحمد أن الزكاة لا تستحق إلا على المواد القابلة للتجفيف والتخزين مثل الحبوب والتمور، والبقول المجففة، واللوز والجوز، ويستثنى منها الخضر والفواكه أيضًا.

إن الوقوف عند هذه الآراء خاصة في الوقت الراهن سيعني ليس فقط ضياع موارد هائلة للزكاة من الفواكه والخضروات وغيرها من المنتجات الغذائية الزراعية التي لم تكن معروفة وقتها، ولا حتى وقت قريب في بعض الأحيان (مثل البطاطا التي لم تعرف زراعتها في البلدان الإسلامية إلا في القرن الأخير، مع أنها اليوم من المواد الأساسية على مائدة الفرد المسلم)؛ بل إنها ستهدر أيضًا زكاة لمنتجات زراعية تدخل في الصناعات التحويلية مثل المطاط والقطن والزيوت وغيرها، بل إن هناك اليوم بلد مسلم هو إندونيسيا التي يبلغ تعداد سكانها ربع المليار ومنتجها الزراعي الأساسي وثروتها الأساسية غير داخلة في زكاة المؤسسة التقليدية: المطاط([1]).

إن هذين المثالين اللذين يبدوان غير مزعجين لأحد لا يمكن ببساطة الإفتاء (حسب المقصد) فيهما، فقد حصل فعلاً أن أفتى أصحاب المذهب الحنفي وبعض علماء الفقه المعاصرين، بوجوب الزكاة في كل المحاصيل الزراعية، لكن الأمر للأسف، خاصة في عصرنا الحاضر، لم يعد مسألة فتوى وإفتاء، بل صار مسألة تأصيل أصول؛ فمقابل فتوى الإباحة هناك منظومة أخرى لن تكتفي بردّ الفتوى بل ستقدم الأدلة على بطلانها، بدءًا بالأدلة التي تدعم الرأي القائل بوجوب الزكاة في أربعة أنواع فقط، وهو رأي معتبر حسب الرؤية التقليدية ما دام يستند إلى حديث صحيح (مجتزأ من سياق تاريخي وإقليمي خاص)، ففي الحديث يبعث الرسول  r معاذاً إلى اليمن، ليخبر أهلها بأن الزكاة في أربع إلخ…، وكان انتزاع الحديث من سياقه ووضعه في خانة المطلق يجعل وضعية اليمن مطلقة وعامة، وتنطوي تحتها أقاليم جغرافية مباينة تماما لوضعية اليمن! بل إن وضعية اليمن نفسها، والزراعة فيها عبر تعاقب الأزمنة، تغيرت كثيرًا.

أليست زراعة البن فيها اليوم مصدرًا أساسيًا لتراكم الثروة؟ ومع ذلك يأتينا الجواب التقليدي أن لا زكاة فيها. ثم ألا يكون وضع الحديث مختلفًا لو أُرسل معاذ إلى العراق أو إلى الشام أو إلى مصر؟

وكيف يمكن تجاهل أنواع أخرى وردت في القرآن الكريم مثل التين والزيتون لمجرد عدم ورودها في حديث موجه إلى أهل اليمن الذين لم يكونوا يزرعون لا التين ولا الزيتون! بل أليس انتزاع الحديث من سياقه يجعل الزكاة ساقطة عن الملايين من البشر الذين لا يزرعون لا القمح ولا الشعير ولا الزبيب ولا التمر، ولكن يزرعون الذرة والبن، والكاكاو والبطاطا، والصويا والفول ومختلف أنواع الفواكه والخضروات؟

تجديد الفقه.. إعادة فهم للأصول

هل يمكن حقًا تجاهل المقاصد الشاملة للزكاة باعتبارها ركنًا مهماً من أركان الدين من أجل حديث “آحاد” مرتبط بوضعية إقليمية معينة؟

والمسألة ليست مسألة فتوى؛ لقد أصبحت مسألة أصول، مسألة أن نعيد فهم أصول الفقه لتتناسب مع مقاصد الخطاب القرآني ومعانيه، أن نعيد تأصيل الأصول لتتناسب لا مع الواقع المعاصر فحسب بل مع الإسلام الحقيقي، إسلام المقاصد والغايات المقدمة على الوسائل، إسلامه عليه أفضل الصلاة والسلام وإسلام عمر وإسلام الصحابة الذين فقهوا وقدموا تطبيقًا عملياً متجددًا لشريعة أزلية وليس إسلام الوسائل المبتعدة عن الغايات والتفاصيل الحرفية التي تذكرنا ببقرة بني إسرائيل.

إنه الإسلام الشامل، إسلام الشمول الذي يترفع عن المكان والزمان، ويقدم للإنسانية مقاصد عامة وشاملة ومتجددة…

نعيد ونكرر أن المسألة ليست مسألة فتوى نأخذ رأي أبي حنيفة أو غيره من الفقهاء اللامعين فيها، لتتناسب مع وضعية معاصرة معينة، إنه ليس أن نختار قول الشافعي هنا، وابن حزم أو مالك أو ابن حنبل هناك. ليس الموضوع تكوين (كوكتيل) فقهي مذهبي يناسب الأحوال المعاصرة بأي شكل من الأشكال، بل هو أن نختار أصولاً ثابتة وجديدة تناسب فهمنا للخطاب القرآني وللسنة النبوية من منطلقات جديدة.

إن مجرد اختيار قول مذهبي لفلان أو علان من الفقهاء، سيكون سندًا قويًا للرأي الفقهي الجديد، لكن بهذا العلاج لن يلبث أن يكون علاجًا هشًا وعابرًا ومعرضًا للزوال عند أوّل مواجهة مع آلية النصوص المجتزأة والقياس التقليدي. لن يفيد عندها كثيرًا أن نقول: قال أبو حنيفة أو أفتى ابن تيمية، ولن يفيد أيضًا أن نقول: إن هناك فقرة فقهية اسمها (المصالح المرسلة) وفقرة أخرى اسمها (سدّ الذرائع). لأن هذا بالضبط سيترك ثغرة في دخول فتاوى معاكسة بحجة أن هناك من الفقهاء من قال بقول آخر مخالف تماماً.

علينا أن نواجه أزمة الفقه بشكل أكثر جذرية وحسمًا، إن تجديد الفقه ليس عملية تجميل أو شدّ عابرة. إنه ليس فتوى هنا وفتوى هناك، ليست مسألة فلتات وشطحات تواجه بالرفض أو القبول. تجديد الفقه يجب أن يبدأ من الأساس، من الأصول، من إعادة النظر من أجل إعادة البناء، ولن يكون ذلك ردًا لكتاب ولا لسنة، بل على العكس سيكون ذلك تعزيزًا لمكانتهما، تقوية لعلاقتهما بالواقع، ولارتباطهما به، تقوية لتأثيرهما فيه ولعلاقتهما بعضهما ببعض.

ولن يكون ذلك سهلاً، بل لعله سيكون صعباً جدًا، بل مؤلمًا.

لكن المشكلة أن الأشياء الصعبة والمؤلمة في كثير من الأحيان هي ذاتها الأشياء الضرورية، الأشياء التي لا بدّ أن تحدث، مهما كلف الأمر.

الهامش:

([1]) العدالة الاجتماعية والتنمية في الاقتصاد الإسلامي: د. عبد الحميد ابراهيم 91-93

_________________________________

المصدر: بتصرف يسير عن كتاب البوصلة القرآنية، د. أحمد خيري العمري، دار الفكر، دمشق، ط3، 2010

مواضيع ذات صلة