” في عام 1838 بدأ “تشارلز دارون” العمل على تطوير نظرية “الاصطفاء الطبيعي” التي تبلورت فكرتها بشكل نهائي في عام 1859، وظهرت واضحة التفاصيل في كتابه الأشهر “أصل الأنواع”.. جُهد سنوات بذله دارون ليحلل أصل الجنس البشري وأصول غيره من الكائنات بشكل علمي.. لكن السؤال: هل أدرك دارون وقتها أن نتائج نظرية التطور التي وضع أصولها ستشكل قاعدة انطلقت منها أبشع الجرائم الفكرية والواقعية على مر التاريخ؟!”*
م. إسلام ماهر**
ما دامت الحَياة نِتاجاً للمادَّة بطَريق الصُّدفة كما تزعم نظرية التطور ؛ فلا مَعْنى لوُجود خالِق مُسْتَحِق للعِبادة، وبالتَّالي فإن الدِّين وما يُلقِّنه مِن غيبيَّات – كاليَوم الآخر- خُرافة لا وَزن لها؛ فلا فَرْق إذاً بين ظالِم و مَظْلوم، ولا بين قاتِل ومَقْتول، ولا بين ما يجب وما لا يجب.
كذَلِك فإن الأخْلاق -ما يُحْمَد مِنها و ما يذَم- نِسْبيَّة، أو هي “تَتَطوَّر” تبعاً للظُّروف؛ فالعِفَّة الجِنْسيَّة مَثَلاً فَضيلة في المُجْتَمَع الإقْطاعي لَكِنَّها كذَلِك لأن الطَّور الاِقْتِصادي يَسْتَلْزِم ذَلِك، لا لأنَّها فَضيلة في ذاتها؛ هَكَذا يَقول “Marx“.
و ما دام “الاِنْتِخاب الطَّبيعي” هو قانون البَقاء، فلا بُد أن يمحَق القَوي – أو مَن يَرى في نفسه ذَلِك- الضَّعيف، فلا تَعْجب إذاً مِن اِضْطِهاد البيض للسُّود، أو مِن تَعالي الجِنْس الآري على باقي الأجْناس!
لقد شَهد القَرْن المُنْصَرِم نَتائِج تلك النَّظريَّة في عالَم الواقع مِن خِلال أُمور شتَّى.. مِن خِلال شيوعيَّة روسيا الَّتي قامت على تَفْسير الحَياة (تَفْسيراً ماديَّاً)، ومِن خلال نازيَّة ألمانيا وفاشيَّة إيطاليا الَّلتين قامتا على (أساس عُنصُري)، ومِن خِلال حَرْبين عالميتين قُتِل و شُرِّد فيهُما عَشَرات المَلايين مِن مُنْطَلَق أن (البَقاء للأقوى)!
التطور والطَّوْطميَّة
يَقول “Freud” نَقلاً عن “Darwin“: (إن مُجْتَمَع الثّيران يَحدُث فيه ما تخيَّل حدوثه في مُجْتَمَع الإنْسان، فتَنطلق الثّيران الفتيَّة الشَّابة تُريد أن تنزو على أُمَّها و تَستخلصها مِن الأب المُسيطر عليها.”[1] و يَسْتمر في مُخيّلته قائلاً: أن “سطوة الأب كانت تمنعهم مِن هذه الشَّهوة الآثمة.. فتآمر الأولاد على قتل أبيهم، ليتخلَّصوا مِن سطوته، و يستأثروا بأُمَّهم، و اِسْتَيقظت الأرض ذات صَباح على صَيحات مَجْنونة و صَرخة مُروِّعة: لقد نفَّذ الأولاد ما تآمروا عليه، و لَكِنَّهم ما كادوا يفعلون ذَلِك حَتَّى أحسّوا بالنَّدَم، و تملَّكهم الشُّعور بالخَطيئة، فصمَّموا ليُقدِّسن ذِكرى أبيهم القَتيل، و اِمْتَرَج شَخْص الأب في شُعورهم ببعض أنْواع الحيوان).
و تلك عَمَليَّة نَفْسيَّة طَبيعيَّة كما يَقول فرويد – فقَدَّسوا هذه الحَيوانات ومَنعوا قَتْلها، و ذَلِك تَكْفيراً عن قَتْل أبيهم، و رغبة في تَقْديس ذِكراه، و بذَلِك نشأت أوَّل ديانة على ظَهْر الأرض و هي الطَّوْطميَّة، و كُل الدِّيانات الَّتي جاءت بعد ذَلِك هي مُحاولات لحَل المُشْكلة ذاتها (إحْساس الأبناء بالجَريمة)، و هي تَخْتلف بحسب مُسْتوى الحَضارة الَّتي ظَهَرت فيها، و الوسائل الَّتي تُطبِّقها، و لَكِنَّها جَميعاً تهدُف إلى شَيء واحِد، و هي رَد فِعْل لنَفْس الحَدَث العَظيم (قَتْل الأب) الَّذي نَشَأت عنه الحضارة. “[2] ويَقول ” إن الإنسان لا يُحقِّق ذاته بغير الإشْباع الجِنْسي، وكُل قَيد .. مِن دِين أو أخْلاق أو مُجْتَمَع أو تَقاليد هو قَيد باطِل، و مُدمِّر لطاقات الإنْسان، و هو ” كَبت “[3] غير مَشْروع. “[4]
و كما شوَّه “Freud” ثَوابِت الحَياة اِعْتِماداً على إيحاءات “Darwin” فإن “Durkheim” أيضاً قد فعل ذَلِك و أخذ عن “Darwin” ما قد أخذ؛ “أخذ عنه بادئ ذي بدء فِكْرَة التَّطوُّر الدَّائِم الَّذي يلغي فِكْرَة الثَّبات. و أخذ عنه فِكْرَة “القَهْر الخارِجي” الَّذي يقهر الفَرد على غير رغبة ذاتيَّة مِنه، فيُطوِّره. و أخذ عنه التَّفْسير الحَيواني للإنسان، فهو لا يفتأ يَسْتَشْهِد في كُل حالة بما يَحْدُث في عالَم الحَيوان. “[5]
ذَلِك غَيض مِن فَيض، لما أحدثته نظرية التطور مِن خَراب و تَدْمير في عالَمي الفِكْر و الواقِع.
الهوامش:
- إضافة المحررة
- [1] مِن كِتاب ” الإنْسان بين الماديَّة و الإسْلام ” لـ مُحمَّد قُطب
- [2] مِن كِتاب ” الإنْسان بين الماديَّة و الإسْلام ” لـ مُحمَّد قُطب
- [3] كيف يَطلُب مِن البَشَريَّة أن تَتَحرَّر مِن قُيود الدِّين والأخْلاق والمُجْتَمَع والتَّقاليد تَحْقيقاً للإشْباع الجِنْسي ومَنْعاً للكَبت المُدمِّر لطاقات البَشَر، و هو الَّذي يَقول أيضاً أن الحَضارة -الَّتي هي تَجْسيد لطاقات البَشَر- وَليدة ذَلِك الكَبت ؟!
- [4] مِن كِتاب “جاهليَّة القَرن العِشْرين” لـ مُحمَّد قُطب
- [5] مِن كِتاب “التَّطوُّر و الثَّبات في حَياة البَشَريَّة” لـ مُحمَّد قُطب
__________________________
** كاتب حر.. مُهتم بدراسة المذاهب الفكرية