بين الإيمان الأعمى والإيمان العميق!

حين يصِم الملاحدة الإيمان الديني بأنه إيمان أعمى لا دليل له فإنهم يتغاضون عن أن العديد من كبار العلماء بنوا إيمانهم الديني على البرهان والدليل…

د. عمرو شريف

العلم والدين

هل المفاهيم العلمية –بالرغم من موضوعيتها- لا يخالطها قدر من الإيمان الذاتي؟

كثيرا ما يردد الملاحدة أثناء المحاورات والمناظرات حجة يدعون لصوابها، فيقولون إن قضية الألوهية لا يمكن إثبات صحتها، وأحيانا يضيفون –مجاملة- كما لا يمكن إثبات خطئها، فهي قضية إيمانية. ويقصدون بقولهم إيمانية أنها موقف نفسي غير موضوعي ولا يمكن طرحه للاستدلال العلمي.

وفي دفع هذه الحجة نناقش سؤالين:

هل الإيمان الديني حقا موقف نفسي بغير دليل؟ وهل المفاهيم العلمية –بالرغم من موضوعيتها- لا يخالطها قدر من الإيمان الذاتي؟ قد يبدو السؤال الثاني غريبا ومستهجنا عند المهتمين بالمنهج العلمي، لكن دعنا نتأمل الموضوع بعمق.

هل يتعارض الإيمان مع الدليل؟

هناك سوء فهم كبير لمدلول كلمة (الإيمان)، عند كلا الملاحدة والمؤمنين. وملخص موقف الملاحدة الجدد أن الإيمان العلمي يقوم على البرهان، أما الآخر الديني فلا يقوم على برهان.

والمفارقة المخزية في ادعائهم هذا أنهم يقولون: نؤمن بأن الكون ليس وراءه إله، ويعتبرون إيمانهم هذا إيمان علمي، دون أن يكون لديهم دليل عليه.

كذلك حين يصِم الملاحدة الإيمان الديني بأنه إيمان أعمى لا دليل له فإنهم يتغاضون عن أن العديد من كبار العلماء بنوا إيمانهم الديني على البرهان والدليل.

وفي إحدى المناظرات مع (جون لينوكس) تمادى (دوكن)ز في إنكاره أن الإيمان الديني مبني على الدليل، واعتبر أيضا أن الإيمان بالأشخاص غير مبني على دليل، فأفحمه لينوكس وسأله عن إيمانه بإخلاص زوجته، هل لا دليل عليه؟!

ويتمادى الملاحدة أكثر وأكثر، فيدعون أن البرهان يضعف الإيمان ولا يقويه. وفي ذلك يقول هتشنز: كلما ازداد إيمان إنسان بشيء ما، كلما تضاءلت فرصة أن يشتمل هذا الشيء على حقيقة.

وفي إحدى المناظرات سأله لينوكس؛ هل تؤمن أنك موجود؟ إن قلت نعم تضاءلت فرصة أن يشتمل هذا القول على حقيقة، وكلما ازداد إيمانك بوجودك كلما قلَّت صحة ما تقول! إنه منطق يناقض نفسه.

ولا شك أن موقف الفيلسوف الكبير (إيمانويل كانت) مسئول إلى حد كبير عن شيوع الدعوى الخطأ بتناقض الإيمان مع المعرفة. انظر إلى قوله: من أجل أن نترك مجالا للإيمان ينبغي أن نتنكر للمعرفة، لقد فهم الكثيرون من قوله أنه إذا كان هناك دليل على وجود الإله فلن يكون هناك مجال للإيمان.

لا شك أن القول بأن المعرفة تتعارض مع الإيمان مجانب للصواب تماما، فالمنطق وخبراتنا اليومية يؤكدان أنه كلما عرفنا شيئا أو شخصا كلما ازداد إيماننا به.

ويبين الحق عز وجل أن إدراك الحق ينطلق من آيات (أدلة) الآفاق والأنفس “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (فصلت:53).

إنه دليل قائم على إدراك الآثار، تماما مثل الاستدلال بالآثار على الجاذبية والثقوب السوداء والذرات، ويعتبر الاستدلال بالآثار من أقوى الأدلة العلمية، ولا يقل –بل يزيد- عن إدراك الحواس.

وفي هذا المعنى قال (أينشتين) قولته الحكيمة: (لا أتصور العلم دون إيمان عميق. ويمكن تشبيه الموقف بصورة مجسدة: العلم دون الدين أعرج والدين دون العلم أعمى). وفي خطاب أرسله (أينشتين) لإحدى تلميذاته الصغيرات يقول: (يشعرنا العلم بشعور ديني خاص يختلف عن  الشعور الديني الساذج عند كثير من الناس بل إنني لا أتصور عالِما حقيقيا لا يؤمن بذلك).

 إن أينشتين هنا لا يتحدث عن الإيمان الأعمى بل عن الآخر العميق المنطلق من منطقية العالَم وانضباط الوجود. وإذا كان دوكنز يصف أينشتين –كاذبا- بأنه ملحد، فإن أينشتين –بمقولته هذه- يصنف أمثال دوكنز بأنهم ليسوا علماء مالم يؤمنوا بالإله.

_________________________________

المصدر: د. عمرو شريف، كتاب خرافة الإلحاد، الطبعة الثانية، 2014.

مواضيع ذات صلة