لا ينبغي أن تظل النفس أسيرة لتلك الحالة من اللوم والتعنيف، فتنسحب لدوامة اليأس والإحباط، وتنزلق في مستنقع الوساوس والأفكار السلبية، وتخرج الروح مسرعة هاربة كارهة للعبادة ناقمة على أدائها…
(مقتطف من المقال)
نهال محمود مهدي
عبر إحدى الإذاعات الدينية كان المذيع يستعرض أسئلة المستمعين ويعرضها على الشيخ الضيف، ليقوم الضيف بدوره بالإجابة عليها، ومن بين الأسئلة كان سؤالا لسيدة تشكو لومها الشديد لنفسها على التقصير في الطاعة طوال الوقت، رغم قيامها بما أوجبه الله عز وجل عليها من تكاليف، وزيادتها على التكاليف بالنوافل، واجتهادها الدائم في أدائها.. غير أن إحساسا بالذنب والتقصير يلازمها ولا ترى منه مخرجا.
توقفت مع هذا السؤال تحديدا.. وتساءلت أنا: تُرى.. كيف سيكون الجواب؟.. هل سيثني الشيخ على تلك المرأة المحبة لله تعالى والتي لا تشبعها فريضة ولا تروي ظمأها نافلة؟ هل سيخبرها أن تلك هي صفات القانتين الصالحين؟ هل سيوافقها بأن ذلك الإحساس الذي يلازمها دليل محبة من العبد لربه، ورغبة في الوصول لأعلى درجات الكمال في العبادة؟
دارت في ذهني العديد من الأسئلة قطعها رد الشيخ…
في البداية أثنى الشيخ على المرأة ومشاعرها الفياضة.. لكنه لم يسترسل في تلك المساحة كثيرا فقد كان واضحا ومباشرا وسريعا عندما خاطبها بأن الاجتهاد في الطاعة والإسراع لها والحرص عليها من سمات المؤمنين الصالحين بلا شك.. الذين أشار الله عز وجل إليهم وذكرهم في مواضع متفرقة من كتابه، قال تعالى: “وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ” (آل عمران: 133)، وقال سبحانه وتعالى: “سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ” (الحديد: 21).
فالمسارعين للخيرات والسباقين إليها والحريصين عليها لهم من المنزلة الرفيعة في الدنيا والآخرة ما ليس لغيرهم.. ولكن…
أما وقد أدى الإنسان ما عليه من تكاليف، واجتهد في أدائها، وحرص كل الحرص على أن يقدمها بين يدي الله تعالى في أطيب وأكمل صورة.. فلا مجال بعد ذلك للوم النفس أو جلدها أو تعذيبها.. ثم خاطب المستمعين في عبارة هي الأقوى: حاسبوا أنفسكم.. لكن لا تعلنوا الحرب عليها!
توقفت مع تلك العبارة البليغة التي وجدتها جديدة على مسامعي.. توقفت كثيرا حتى خُيِّل إليّ أن صوت الشيخ قد اختفى وتوارى خلف اعتقاد كنت أحسبه راسخا ومن المسلمات..
ووجدت أسئلة أخرى تلاحقني.. ألم يثنِ الله عز وجل على النفس اللوامة؟.. أو ليست تلك النفس هي التي توجه اللوم على التقصير ولا تشعر بالرضا عن الذات؟.. لطالما قرأنا أن الشعور بالرضا عن النفس وبلوغ تلك الدرجة هو بداية انحدار في الطاعات، حتى اعتمد بعض الدعاة منهجا في الدعوة يبرز طاعات الصحابة والتابعين وقصص الزهاد الخارقة التي تشعرنا بأن ما نقوم به لا شيء مقارنة بعباداتهم وطاعاتهم.
أسئلة قطعها مرة أخرى صوت الشيخ الذي كان قد أنهى إجابته المختصرة وبدأ في تفصيل قوله…
النفس اللوامة هي النفس التي تلوم صاحبها عند التقصير في التكاليف والواجبات الشرعية، وهي مرحلة وسطى بين النفس المطمئنة والنفس الأمارة بالسوء.. وعليه فهي ليست هدفا أو مبتغى في حد ذاتها، بل هي مجرد مرحلة انتقالية من حالة النفس المحرضة على المعصية لحالة أهدأ، وهي النفس المطمئنة التي ارتاحت ووثقت في قبول الله تعالى وأحسنت الظن به.
ولا ينبغي أن تظل النفس أسيرة لتلك الحالة من اللوم والتعنيف، فتنسحب لدوامة اليأس والإحباط، وتنزلق في مستنقع الوساوس والأفكار السلبية، وتخرج الروح مسرعة هاربة كارهة للعبادة ناقمة على أدائها.
اختفى صوت الشيخ مرة أخرى عندما انفتحت أمامي نافذة كنت لا أراها وربما يجهلها كثيرون غيري.. نافذة تطل على الدين بمعناه الأرحب والأشمل.. إنه دين التسامح والرضا.. دين اللين والرفق مع النفس ومع الروح قبل الغير.. دين التوازن ونبذ الشطط ولو في العبادة ذاتها.. إنه الدين الذي يُعتبر الحب فيه ضلعا أساسيا يكتمل فيه مثلث العبادة مع ضلعي الخوف والرجاء..
فهل للقلب الثائر أن يشعر بلذة الطاعة أو حلاوة المناجاة؟؟ وهل للروح المعذبة في عبادتها أن تصل لمعاني الطمأنينة وأنس الرقب من الله تعالى؟؟؟