تعتبر السُّنة النبوية شارحة للقرآن الكريم ومبينة له وموضحة، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم نفسه في العديد من الآيات “ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ” (القيامة، 19)، “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” (النحل:44)…
بدر بن إبراهيم
إنكار السُّنة آفة مُسرطنة تنتشر أسرع من النار في الهشيم بين أوساط شبابنا المسلم؛ خصوصا الطلبة الجامعيون، فما أكثر أن تسمع بأن فلاناً أصبح مِمّن يطعنون في البخاري وآخر يُشكك في حِجِيَّةِ السُّنة أو في نَقلها وثُبوتِها.. وهذه للأسف ظاهرة خطيرة؛ عادة ما تكون بداية طريق يفضِي إلى عواقب جِد وخيمة.
تعتبر أسباب موجة إنكار السُّنة هذه كثيرة ومتنوعة، لكني أزعم أنها ترد جميعا إلى أصل واحد؛ وهو في نظري أصل كل الانحرافات والتشكيك اليوم عند المسلمين، وهو إعطاء المركزية الموضوعية المطلقة للغرب في تقييم الأمور، أو بصيغة أبسط “جعل عقل الرجل الغربي المقياس الموضوعي للصحيح والغلط والخير والشر”؛ فما يُقِرُّه الغرب نُقِرُّه وما لا يُقرُّه ويَرفُضه نرفُضه بدورنا، وبشكل قطعي..!
شخصياً، لم أقف أبداً على حالةِ مُنكِر للسُّنة اعتمد في إنكاره على مسائل علمية تأصيلية في علوم الشريعة مع تجرد تام من الأهواء، بل الأغلبية ليس له علم ولا سعة اطلاع على العلم الشرعي ولا حتى فكرة عن أبسط مقدمات وقواعد علم الحديث، ثم يرفض بعض الأحاديث أو قد يُنكر السُّنة كاملةً، ويصير في مصافِّ ما يصطلح عليهم بالقرآنيين، بسبب بضعة أحاديث تُخالف المزاج الغربي الذي يغزو العالم، ويطلق على هذا المزاج الغربي اسم “العقلانية والإنسانية”، ويتم دائما التحجج بأن هذه الأحاديث تخالف العقل أو الإنسانية، وهذه دعوى جد متهافتة، وبمجرد التعمق في تفاصيل هذه الدعاوي يُكشف عن مدى هشاشتها.
ومن أجل الإنصاف، يوجد فعلا من يُشكك في السُّنة أو يرفض بعضها مِن دافعِ غيرتِه على الإسلام ونابعاً من حبه للدين وحرصه على أن يكون الإسلام في أحسن الصور، لكن سلامة النِيَّة لا تبرر هذه الخطوة؛ فالسرقة بنيَّةِ التصدق على الفقراء أمر محرم، وكذلك تكذيب حديث أجمع من هم أعلم منا بالتصحيح والتضعيف وبأحوال الرجال بل بأمور الدين عامة على صحته، يظل أمرا منكرا وغير مقبول إطلاقا.
قنطرة الإلحاد الأولى
إن كل متخصص أو حتى مجرد مطلع على حوارات الإسلام والإلحاد أو قصص بعض المرتدين الجدد أو العائدين بفضل الله من ضلال الإلحاد إلى نور الإسلام من جديد، يعلم تماما أن إنكار السُّنة هو قنطرة الإلحاد الأولى في عالمنا العربي؛ وأن أغلب من انتهى به الحال إلى الإلحاد و المروق من الدين – سواء تاب منه أو لم يتب – كانت بداية قصته أنه طعن وأنكر بعض الأحاديث الصحيحة، فانتهى به الحال إلى الطعن في السُّنة، فالتراث وكتب الفقهاء، ثم تحول إلى مذهب القرآنية، ومن أبرزها محاولة إعطاء تفاسير جديدة للقرآن الكريم بعد التخلص من كل التراث الإسلامي عبر القرون الماضية، ثم في الأخير الإلحاد أو اللاأدرية.
يمكن حصر علاقة إنكار السُّنة بالمروق من الدين في ثلاث نقاط رئيسية وهي:
نزع القدسية من نصوص الوحي
إن مجرد السماح للنفس بالتطاول أو بإنكار خبر أو حديث منسوب إلى أعظم الخلق و خير البرية ﷺ أجمع المسلمون عبر قرون عديدة على قبوله والعمل به، هو في الحقيقة تمرد لا مباشر على قداسة وعظم قدر أوامر ونصائح رسول الله ﷺ، وبالتالي مع تسلسل الإنكار والطعن في أحاديث النبي ﷺ، تفقد نصوص الوحي سلطانها وهيبتها على المسلم ويتجرّأ الدهماء على القول والتعقيب على ربّ العالمين، ويتجرّأ السفهاء على السنّة ومحفوظاتها، فيصير من لا يميّز الصحيح من الضعيف، ولا المسند من المعضل، يردّ الحديث بكِبْر ويجعل ذوقه الذي صنعه واقِعُنا الفاسد حكمًا على منصوص الشرع الذي سلّم له العلماء منذ قرون..
خصوصا مع غياب أي منهجية صحيحة لهذا الطعن، سوى عدم موافقته الهوى المنتشر كما سلف الذكر؛ فيصبح أمر التطاول على رسول الله ﷺ أو حتى على الله عز وجل سهلا يسيراً. وقد ذكرت الوحي بصفة عامة سواء قرآنا كريما أو سنة نبوية، لأن أغلب من يبدأ في التشكيك في السُّنة ينتقل بالضرورة إلى التفسير “التجديدي الحداثي” لكتاب الله، لأن أصول الشبهات التي تثار حول السنة تتشابه كثيرا مع ما يثار حول القرآن الكريم من طرف أهل الافتراء؛ وحين يصبح كتاب الله محلا لهذه الثلة من التفاسير الغريبة العجيبة من أدعياء التنوير التي أصبحنا نراها اليوم والتي يضرب بعضها بعضا بل ومعظمها مجرد محاولات بائسة لصرف المعنى الظاهر من النص بدعوى عدم موافقته العقلانية المزعومة (مثل ادعاء أن قطع يد السارق في القرآن الكريم ليس معناه البتر) يضعف شأن كتاب الله العظيم كثيرا في نفس الطاعن فما يلبث أن يساويه بأي مجهود بشري آخر فينسلخ من الدين.
تسفيه العلماء وأعلام الأمة
وهذه من أعظم الآفات التي نعيشها في عصرنا للأسف الشديد، حتى من أكثر العامة جهلا بالدين، وهي رمي العلماء الربانيين والشيوخ المربين بتهم شديدة كالنفاق والجهل والجمود والدروشة… وهي من كبرى استراتيجيات زراعة الشك التي يستعملها أعداء الإسلام لتنفير المسلمين من دينهم، فلقد تم في الآونة الأخيرة رسم صورة ذهنية عن الفقهاء والعلماء المسلمين في الإعلام بوصفهم كهانا أو آباء لهم سلطة دينية معينة، يغيرون ويعدلون ويضعون الأحكام بحسب رؤيتهم الفلسفية الخاصة.. وتم محو صورة العالم الفقيه الذي يتبع منهجا علميا ثابتا ويبحث عن الحق بدليله.. فصارت هناك دعوات تطالب بعدم اتباع أقوالهم أو بحق “الاجتهاد”… كما تم تضخيم مسائل الخلاف الفقهي حتى ليظن المتلقي أنهم لم يتفقوا على شيء قط؛ فأي مطلق وأي إسلام يسعون لتطبيقه كما يدعون. كما يتم أحيانا التركيز على بعض الأقوال المرجوحة دون عرض الردود عليها من قبل العلماء أيضا.. ويصاحب هذا الطرح دعوة خبيثة مشبوهة ألا وهي “تنقية كتب التراث”.
وطبعا فعلماء أهل السُّنة والجماعة يعظمون من أمر الأحاديث ويحثون على تعلمها والاستشهاد بها والاقتداء بمواقف النبي ﷺ. فمنكر السنة دائما يراهم كما سبق الوصف مجرد شياطين جهال يريدون تضليل الأمة وإعاقتها عن التقدم، خصوصا وأن أغلب رواد الخطاب التنويري لا يكفون عن جلد أبرز علماء وشخصيات التاريخ الإسلامي الحديثة والقديمة؛ حتى وصل الأمر للصحابة أنفسهم بل ويبحثون عن أي نقيصة لهم ويضخمونها في مقابل التعظيم والإجلال الشديد الذين يظهرونه لمفكري الغرب وفلاسفته وعلمائه الطبيعيين حتى قال أحد الفضلاء ذات يوم أنه يحس من خلال هؤلاء أن جهنم مُلئت بالصحابة والشيوخ والجنًّة بالفلاسفة والملاحدة المساكين الذين خدموا البشرية!
وهذا يكرس بشكل أكبر صنم المركزية الغربية ويضخم من عقدة النقص التي يعيشها شباب العالم الإسلامي، فيصير أكثر تبعية لهذا الغرب ورموزه من رموز أمته. وماذا يبقى من الإسلام إذا صار الإنسان يرى الشرع عند قدمه، والواسطة العلميّة بينه وبين الشرع (العلماء) تحت قدمه؟ لا شيء.. وفي مرحلة الخلاء.. حيث اللاشيء كلّ شيء.. لا يبقى في القلب شيء غير غرور الإلحاد، فالإلحاد في الأخير يبقى قرارا عاطفيا نفسيا لا عقلانيا.
الإغراق في النسبية
تعتبر السُّنة النبوية شارحة للقرآن الكريم ومبينة له وموضحة، كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم نفسه في العديد من الآيات “ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ” (القيامة:19)، “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ” (النحل:44)، وهي بالتالي تمثل فهم وتطبيق النبي ﷺ والصحابة رضوان الله عليهم لكتاب الله، وهو الفهم الذي يجب على كل المسلمين اتباعه وسلوكه، يقول الله عز وجل: “فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا ۖ وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ۖ ” (البقرة:137).
من هنا يتبين أن إنكار السنة هو بداية الطريق نحو عدة مزالق في هدر نصوص الوحي؛ فنفي وجود فهم خاص مطلق للإسلام يجب على المسلمين اتباعه هو فتح لباب النسبية والسفسطة في آيات الله وأحكامه، وهذا ساهمت فيه وسائل الإعلام بشكل كبير وبأساليب في غاية الخبث والمكر باعتماد شعارات براقة مثل “لا أحد يحتكر الحقيقة، الدين ملك للجميع، الحق نسبي ورأيك ليس دائما صواب ورأيي ليس دائما خاطئا…” وهكذا تبدأ عملية خلخلة الأفكار فلا حق ثابت ولا باطل، فكثيرات ممن خلعن الحجاب كانت حجتهن “المسألة وجهة نظر فهناك من يقول بالفرضية ومن لا يقول بها” وتوجد أشكال عديدة لترويج هذا الفيروس العقلي، فمثلا حين يتم عرض مناظرة حول موضوع الشذوذ الجنسي على قنوات تلفزيونية يشاهدها العامة بين مؤيد ومعارض، فسواء اتخذ المذيع موقفا محايدا أم لا، فإنه في جميع الأحوال ارتكب ما هو أسوء وهو نقل الثابت إلى النسبي وعرضه كمادة تقبل الآراء المختلفة للعوام لا كحوار بين حق وباطل!
لا وربما أجرى استطلاعا للرأي بعنوان “هل تؤيد أو تعارض”، فإن كنت معارضا فلا بأس، لكن احترم رأي المؤيد، رغم أنه يدافع عن جريمة!.. وهكذا يختلط الحق بالباطل ويصير الكَذُوب صاحبَ رأي والمنتقدُ له متعصباً ضيق الفهم، ما يؤدي إلى تحول الدين بأكمله إلى مجرد وجهة نظر لا يحق فرضها على أي كان، وهذا يميت في قلوب الناس الغيرة على الإسلام ويشكل لهم مناعة ضد أي سبيل للنصح أو بيان الحق، فلا عجب أن تفضي كل هذه السوفسطائية إلى اللاأدرية أو الإلحاد، فجذور الشك السوفسطائي تم زرعها بامتياز في نفسية المنكر.
لهذا أخي المسلم/أختي المسلمة، عليك أن تنظر بعين متبضرة لكل داعية لنقد التراث أو تجديده، فها نحن اليوم نرى النتائج المأساوية لمن سلك هذا الطريق. واحرص على التفقه في دينك واعتمد على العلماء الفقهاء العارفين بالشريعة والوحي ليوضحوا لك ما استشكل عليك، فحين يصيبك المرض لا تتحرج من زيارة الطبيب ولا تعارض نصائحه احتراما لتخصصه، فكذلك علماء الشريعة، وإن قليلا من العلم الشرعي يجعلك تستصغر عقول وشبهات المنكرين، فالجهل بالدين وعدم تعلمه سبب رئيسي فيما نراه اليوم من انحرافات لدى المسلمين، وكما يقال فالإنسان عدو ما يجهل.
ملاحظة بسيطة.. المقال يذكر فئة تمثل الغالبية العظمى ممن نراهم ينسلخون من الدين، فأنا أعرف أن هناك من يرد على الفكر الإلحادي، بل إن البعض عاد إلى الإسلام بفضله وهو في نفس الوقت ينكر بعض الأحاديث من مشاهير مواقع التواصل الاجتماعية.. فالحالات القليلة لا يقاس عليها، ولنا أن نتساءل حول من يعود إلى الإسلام عبر هؤلاء إلى أي دين عادوا تحديدا؟
فلقد أسلم فئة لا بأس بها عبر التاريخ عن طريق الكثير من الفرق الضالة؟! العودة إلى الإسلام هي أن تعود إلى الإسلام المنجي الذي يدخلك الجنّة مع أهل السبق والطاعة.. لا أن تعود إليه وأنت ترد من الإسلام أصولًا، وتجحد المتواتر من الحديث، وتحتقر أهل العلم الذين باعوا للدين كل نفيس.. أن تعود إلى الإسلام هي أن تحقق الاستسلام، لا متابعة لشيخ أو جماعة، وإنما أن تستسلم لمنصوص الوحي..
المصدر: بتصرف عن موقع مركز يقين