الأخلاق.. دراسة وتحليل لأسباب التراجع والانحدار (24)

لم يفلح العلم المادي في انتشال الإنسان من هاوية السقوط الأخلاقي والقيمي، بل وأوشكت أن تتحقق بشأنه نبوءة الكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي في روايته المشهورة: “عالم جديد شجاع” التي كتبها سنة 1932م، وتنبأ فيها بأن يقود العلم الحديث الإنسان إلى الشقاء، لا إلى السعادة!

(مقتطف من المقال السابق)

د. حازم علي ماهر* (تنشر المقالات بالتزامن مع نشرها في جريدة السياسة الكويتية)

ماذا خسر العالم بفقداننا الصدق!

الأخلاق

غلاف الكتاب

هناك كتاب مشهور للشيخ علي أبو الحسن الندوي عنوانه: “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”، يستعرض فيه مدى هيمنة الفساد والانحلال الأخلاقي على العالم، ثم يذهب إلى أن حال العالم لن ينصلح إلا إذا تحولت قيادته من أوروبا –ويقصد بها الغرب بمفهومه الواسع الذي يشمل أمريكا وروسيا- ومن هم على شاكلتها من الأمم الأسيوية والشرقية، إلى العالم الإسلامي الذي يقوده سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم برسالته الخالدة ودينه الحكيم، مبينًا أن هذا هو التحول الذي يغير وجه التاريخ ويحول مجرى الأمور وينقذ العالم من الساعة الرهيبة التي ترقبه (انظر: ص228 من الكتاب المذكور).

والواقع أن تجاوز هذه الرؤية -التي تبناها كذلك مفكرون وكُتَّاب آخرون-  بات واجبًا بعد أن أفضت -عن غير قصد بالطبع- إلى التشويش على الغاية الأساسية من هذا الدين ومقتضياتها، وهي هداية البشرية إلى عبادة ربها، وإلى ما يحقق مصالحها المشروعة ويدرأ عنها المفاسد في الدارين، فبدا وكأن تلك الغاية تنحصر في فرض التحكم والسيطرة على البشر بحجة قيادتهم للنجاة من العذاب الأليم، وأن الوسيلة الوحيدة لتحقيق تلك الغاية –المزعومة- هي اعتلاء المسلمين سلطة قيادة العالم بديلا عن القوى المهيمنة عليه حاليًا؛ وكأن ذلك الأمر صار من مقاصد الإسلام، ومن ثم فينبغي السعي دومًا إلى تحقيقه ولو بإقامة إمبراطورية إسلامية قد لا تختلف كثيرًا عن غيرها من الامبراطوريات التوسعية التي ترفع الشعارات الدينية كمجرد ستار تخفي به رغبتها الحقيقية في تحقيق مكاسب دنيوية مادية بحتة، ولو وطأت بأقدامها كل القيم!

والحقيقة أن لشريعة الإسلام مقاصد نبيلة متعددة، ومنها مقاصدها “العالية”، والتي تتمثل في: “عبادة الله، والخلافة عنه، وعمارة الأرض، من خلال الإيمان ومقتضياته: من العمل الصالح المحقق للسعادة في الدنيا والآخرة، والشامل للنواحي المادية والروحية، والذي يوازن بين مصالح الفرد والمجتمع، والذي يجمع بين المصالح القومية الخاصة والمصلحة الإنسانية العامة، وبين مصلحة الجيل الحاضر، ومصلحة الأجيال المستقبلة، كل ذلك بالنسبة للإنسان ولأسرة والأمة والإنسانية جمعاء” (د. جمال الدين عطية، نحو تفعيل مقاصد الشريعة، ص122).

وهذا بالضبط ما نعنيه بالحديث عن ضرورة تصديق المسلمين إيمانهم بالعمل الصالح؛ لأن هذا ليس فقط السبيل إلى تحصيل السعادة في الدارين، بل وكسب المصداقية لدى الناس جميعًا، فيقبلون على اعتناق الإسلام أمما وشعوبًا كما جرى من قبل في الكثير من البلدان، كإندونيسيا التي أسلم شعبها حين رأى أخلاق التجار المسلمين الحسنة، وصدق إيمانهم بربهم، ومن ثم أصبحت إندونيسيا هي أكبر دولة إسلامية في العالم، بدون سجال أو قتال!

وهذا هو ما قصدناه من عنونة هذا المقال بـ “ماذا خسر العالم بفقداننا الصدق” أي الصدق في الإيمان، والذي لم تقتصر خسارته الكبرى على المسلمين أنفسهم فقط، بل امتدت إلى العالم أجمع، الذي يحول واقع المسلمين المؤسف، بينه وبين الاقتناع بالإسلام كدين من شأنه أن ينتشل الناس من أزماتهم الوجودية والأخلاقية، ففقدوا الثقة فيه كما فقدوها في المسلمين، باستثناء من يَطلِّعون منهم على مصادره ويلمسون بأنفسهم إعجازها وسموها بعيدًا عن صورة المسلمين المسيئة لها، المشوشة على جمالها ورقيها.

فقد العالم الكثير…

الأخلاق

حرم فقدان كثير من المسلمين لصدق إيمانهم العالم من ترشيد العلم المادي الحديث ورسم حدود له تحول بينه وبين أن يتجاوز وظيفته في عمران الأرض بأن يؤدي إلى خرابها.

 فلقد أفضى فقدان الصدق لدى كثير من المسلمين -ولاسيما افتقاد إيمانهم للصدق والتصديق العملي- إلى خسارة العالم عقيدة توحيدية محررة للإنسان من أسر أهوائه أو أسر أهواء الآخرين له، حتى ولو عن طريق الإغواء وطغيان العلم المادي والتقني، وخسر أخلاقًا راسخة مؤيدة من خالق الكون، ومؤطرة بمبادئ وقيم لا تتغير وفق تغير الأهواء والأزمنة الظروف والأحوال والأشخاص، تتوافق مع فطرة الله التي فطر الناس عليها ومع سننه في خلقه، والتي لا يستطيع مخلوق أن يبدلها؛ أخلاق شاملة لكل سلوك بشري تجاه النفس أو الغير، حتى لو كان هذا الغير بشر مخالف في الدين، أو حيوان، أو جماد أو أي شيء آخر.

كما أدى إلى حرمان العالم كذلك من سيادة شريعة أُنزلت لإقامة العدل بين الناس، لا تفرق في عدالتها ورحمتها وشموليتها بين غني وفقير، أو قوي وضعيف، أو أبيض أو أسود، أو وطني وغير وطني، حيث تقوم على قواعد وقيم راسختين، من ضمنها؛ أن الناس سواسية كأسنان المشط، وأن الخلق كلهم عيال الله، وأن الله سبحانه أنزل كتبه وأرسل رسله ليقوم الناس بالقسط!

لقد أخسر فقداننا للصدق العالم دينًا لا يلزم إنسانًا بأمر إلا وفيه صلاحه، ولا ينهاه عن أمر إلا إذا كان فيه فساده؛ دينًا من أهم مقاصده أن يطعم الناس من جوع، ويأمنهم من خوف، فهو يرفض أن تلقى السلع الزائدة عن الحاجة في البحر حتى لا تهبط أسعارها، كما فعلت بعض الدول، ويحرم استخدام الأسلحة النووية المرعبة التي تدمر البشر والحجر وتفسد بيئة الأرض، حتى لو كانت ستحقق نصرًا لمن يرفعون الإسلام شعارًا لهم!

خسر العالم دينًا يُؤَمِّن الإنسان بأسرة ممتدة مترابطة، تضم زوجًا يمنحه (أو يمنحها) السكن والمودة والرحمة، وآباء وأمهات غرس سبحانه في قلوبهم رحمة منه وحبًا فطريًا لأبنائهم، وحملَّهم مسئولية رعايتهم وبذل كل الجهد في السهر على راحتهم وحسن تربيتهم، وأبناء بررة يدركون أن الجنة تحت أقدام الأمهات، وأن الإحسان إليهن وإلى الآباء، هو الطريق لنيل رضا الله عز وجل، ومصدر فلاحهم في الدنيا والآخرة، وأعمام وأخوال وعمَّات وخالات وأجداد وجدات…، يمثلون سندًا للإنسان ودعمًا نفسيًا له وماديًا، فجعل الدين للأسرة –بذلك- سياجًا منيعًا يعصمها من التفكك أو التفتت، ويضمن لها الإحسان في حال ارتباط الزوجين، أو حتى حال انفصالهم، إذ جعل شعار الزواج هو: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.

لقد حرم فقدان كثير من المسلمين لصدق إيمانهم العالم من ترشيد العلم المادي الحديث ورسم حدود له تحول بينه وبين أن يتجاوز وظيفته في عمران الأرض بأن يؤدي إلى خرابها، وفي تحقيق مصالح الناس المشروعة لا إهدارها، وفي درء المفاسد عنهم لا في جلبها إليهم وفي أبشع صورة أحيانًا!

وفقد العالم صدق الوجهة، حين فقد المسلمون وجهتهم ولم يدخلوا مدخل صدق، أو يخرجوا مخرج صدق، بل فتحوا الأبواب على مصراعيها للكذب في الاعتقاد والأقوال والأفعال مما يقتضي منهم أن يعجلوا بالتوبة النصوح ليهتدوا بالإيمان ويهدوا إليه العالم بعد أن يثق فيهم وفي مصداقيتهم حين يرى الإسلام في سلوكهم محركًا للعلم ودافعًا للعمل الصادق الخلاق، لا مجرد “أفيون” يخدرهم ويُمكن منهم كل ظالم أو طاغية!

فهل من سبيل إلى التخلص من فقدان الصدق، ومن عواقبه الوخيمة على المستويين الخاص والعام؟

هذا هو موضوع المقال المقبل.

لمطالعة بقية أجزاء السلسلة يمكن للقارئ الكريم زيارة العناوين التالية:

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (1)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (2)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (3)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (4)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (5)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (6)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (7)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (8)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (9)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (10)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (11)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (12)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (13)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (14)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (15)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (16)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (17)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (18)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (19)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (20)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (21)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (22)

الأخلاق.. دراسة و تحليل لأسباب التراجع و الانحدار (23)

______________________________

مواضيع ذات صلة