ما المعيار الذي تقوم عليه الأخلاق؟ تقوم الأخلاق على معيارية واحدة من اثنين: إمّا الرؤية الذاتية لشخص أو لمجموعة من الأشخاص أو لمجتمع ما، وإمّا الرؤية الموضوعية التي تقيم قاعدة صلبة للأخلاق متحققة في الواقع الخارجي خارج أذهاننا ومن ثمّ فهي صحيحة في ذاتها ولو لم يؤمن بها أحد…
(مقتطف من المقال)
إسماعيل عرفة
لا تكاد تمرّ مناظرة حول موضوع الإلحاد والإيمان بالله إلّا ويتم مناقشة موضوع الإلحاد والأخلاق والتساؤل حول إمكانية تأسيس أرضية أخلاقية بناء على غياب الإله أم لا؟ في مناظرته الشهيرة مع الداعية حمزة تزورتيس سُئل الفيزيائي الشهير الملحد لورنس كراوس: “لماذا يُعتبر زنا المحارم خطأ؟” فردّ قائلا: ليس من الواضح بالنسبة إليّ أنه خطأ!، ولاقى الردّ استهجان الجمهور بشكل كبير.
يعتبر أغلب المؤمنين -إن لم يكن كلّهم- أن إنكار وجود الله هو إنكار لوجود أساس موضوعي للأخلاق، ممّا يعني افتقار البشر لأية مرجعية أخلاقية تنظم حياتهم وتقيم حقائق أخلاقية يمكن البناء لحياة سويّة على أساسها، في المقابل يردّ الملاحدة بأن الإله ليس ضروريا لإقامة نظام أخلاقي، وأن البشر يمكنهم بناء معيارية أخلاقية تقيم أسس العدالة والحقيقة والخير. فما الأخلاق ابتداء؟ وهل يمكن بناء منظومة أخلاقية دون اللجوء إلى الإله فعلا؟ وما الأخلاق التي يمكن تقعيدها وفقا لإملاءات العقل البشري فحسب؟
ما الأخلاق الموضوعية؟
في بحثها “الأخلاق بين الأديان السماوية والفلسفة الغربية” ترى الباحثة كريمة دوز أن علم الأخلاق هو علم “يبحث فيما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني لا فيما هو كائن”. فالأخلاق لا ترى العالم كما هو عليه وإنما تتطلع إلى (الأحسن) و(الأكمل) و(الأفضل)، هي إذن قيم مجرّدة لا يشترط أن يكون لها تحقق خارجي على أرض الواقع. ولهذه النقطة بالذات يخفق العلم التجريبي في إمداد البشر بمنظومة أخلاقية موضوعية، فالعلم التجريبي يكشف -أو يفسّر- العالم كما هو عليه في الواقع، ولا يبحث فيما وراء العالم المادّي، لذلك فإن مجال الأخلاق غير متعلّق بمجال العلم التجريبي.
إنّ المآل الوحيد للملحد الذي يقيم قواعده الأخلاقية على معيارية ذاتية نسبية، هو افتقاره إلى مرجعية نهائية ثابتة يمكن الرجوع إليها حال الاختلاف في وجهات النظر القيمية والأخلاقية
لكن ما المعيار الذي تقوم عليه الأخلاق؟ تقوم الأخلاق على معيارية واحدة من اثنين: إمّا الرؤية الذاتية لشخص أو لمجموعة من الأشخاص أو لمجتمع ما، وإمّا الرؤية الموضوعية التي تقيم قاعدة صلبة للأخلاق متحققة في الواقع الخارجي خارج أذهاننا ومن ثمّ فهي صحيحة في ذاتها ولو لم يؤمن بها أحد.
يقيم الإلحاد قواعده الأخلاقية -متى أقامها- على المعيارية الذاتية لا الموضوعية، لكن مشكلة هذه المعيارية أنها نسبية لا مطلقة، بمعنى أن الأوصاف والأحكام القيمية تتباين بتباين وجهات النظر، كما أن المجتمعات تختلف قواعدها الأخلاقية باختلاف الثقافة والأيدولوجيا والسياق التاريخي، ومن ثمّ فإنّ المآل الوحيد للملحد الذي يقيم قواعده الأخلاقية على معيارية ذاتية نسبية هو افتقاره إلى مرجعية نهائية ثابتة ومطلقة يمكن الرجوع إليها حال الاختلاف في وجهات النظر القيمية والأخلاقية. ويرى الباحث علي عبد الرحيم أن مفهوم النسبية وفقا للملحد “يُعدّ -من ناحية منطقية- متماسكا لا سبيل إلى دحضه”، ممّا يعني غياب أي قاعدة أصيلة تقوم عليها الأخلاق بالنسبة للملحد.
اللامعيارية و الإلحاد
في هذا الإطار يعترف الفيلسوف الوجودي الملحد جان بول سارتر بهذه المشكلة قائلا: يجد الوجودي حرجا بالغا في ألّا يكون الله موجودا، لأنه بعدم وجوده تنعدم كل إمكانية للعثور على قيم في عالم واضح. لذلك نجد الملحد الشهير ريتشارد دوكنز يتسق مع إلحاده ويلتزم بمآلاته، فيرفض صبغ الوجود ككلّ بأية صفة قيمية على الإطلاق، فيقول مقرّا بمشكلة النسبية الأخلاقية: في هذا العالم لا يوجد شر ولا يوجد خير، لا يوجد سوى لامبالاة عمياء وعديمة الرحمة.
أمّا الباحث الأميركي اللاأدري ديفيد برلنسكي فيوضّح مقولة دوستويفسكي: إذا كان الإله غير موجود فكلّ شيء مباح، ويقول شارحا: “فإذا لم تكن الواجبات الأخلاقية مأمورة بإرادة الله، ولم تكن في الوقت ذاته مطلقة، فإن (ما ينبغي أن يكون) هو ببساطة ما يقرّره الرجال والنساء. لا يوجد مصدر آخر للحكم. هل هذه إلا طريقة أخرى للقول بأنه طالما أن الإله غير موجود، فكل شيء مباح؟.
يركّز الباحث سامي عامري على هذه اللامعيارية للمنطق الإلحادي وينقض احتجاج الملاحدة بوجود الشرور في العالم على ظلم -أو عدم وجود- الإله، فيوضح سامي أن الشرّ ليس وجودا قائما بذاته، وإنما هو وصف لما ينبغي أن يكون، أي أنه حكم قيمي للوجود، أي كما يقول ابن القيم شارحا: “فدخول الشرّ في الأمور الوجودية إنما هو بالنسبة والإضافة، لا أنّها من حيث وجودها وذواتها شرّ. ومن ثمّ فلا يصحّ الاحتجاج بمفهوم نسبي ظني خاضع للرأي على مفهوم حقيقي مطلق قائم على اليقين، فالقاعدة تقول: ما تطرّق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال، ويختم سامي عامري نقده بكلمات يسيرة قائلا: وعندما يكون الشرّ محلّ خلاف ذوقي فإنه بذلك يغدو مجرد رأي وليس حقيقة يُعترض بها على وجود الله.
محاولات الإنقاذ.. كيف برّر الإلحاد الأخلاق؟!
يرى الفيلسوف الأميركي اللاأدري والمثير للجدل توماس نيجل في كتابه “العقل والكون: لماذا يكاد يكون التصوّر المادّي الدارويني خطأ قطعا؟” أن هناك ثلاثة عناصر تعجز الرؤية الكونية المادّية أن تقدّم تفسيرا لها، وهي: الوعي، والإدراك، والقيم الأخلاقية. ونظرا لإلحاده فإنه لا يعترف بوجود مكوّنات فوق-طبيعية (ميتافيزيقية) في عالمنا، وإنما يسعى إلى البحث عن تصوّر مادّي جديد يستطيع تقديم مبرّرات موضوعية تسوّغ الفعل الأخلاقي الإنساني في إطاره .
وعلى أية حال لم يقف الملاحدة عبر الزمن مكتوفي الأيدي أمام نقد المؤمنين لهم، فقاموا بابتكار عدّة تأصيلات مرجعية للأخلاق يضعونها في إطار لا تحتاج فيه إلى خالق الكون، يرى الدكتور عبد الله الشهري أن من أجرأ تلك المحاولات وأكثرها رواجا هي محاولة الملحد الشهير سام هاريس في كتابه “المشهد الأخلاقي: كيف يمكن للعلم أن يحدّد القيم الإنسانية؟” الذي حاول فيها أن يبرّر ما هو أخلاقي بما يحقق للبشرية الرفاه والسعادة والرخاء. وفي لفتة مهمّة قام أستاذ الفلسفة كواميه أنتوني بإجمال رؤية هاريس الأخلاقية قائلا: “في الحقيقة فإن ما ينتهي هاريس إليه هو شبيه جدا بالمذهب النفعي، وهو موقف فلسفي ظهر منذ قرنين من الزمن.
لكن هذه المفاهيم المطّاطية كالسعادة والرفاه لا تصلح كمرجعية مطلقة تتجاوز الذاتية الإنسانية، إذ إن لكلّ متخصص ولكل إنسان وجهة نظره، وما يراه المرء سعادة قد يراه الآخر شقاء، ممّا يعني نسبية الأخلاق مرّة أخرى، بل إن سام هاريس نفسه يرى أخلاقية القتل أحيانا، فهو يعتبر أن “بعض المعتقدات خطيرة جدا لدرجة أنه من الممكن أن يكون قتل الناس الذين يعتقدون هذه المعتقدات فعلا أخلاقيا”. فما هذه المعتقدات؟ ولماذا هي دونا عن غيرها؟ ولماذا يكون إزهاق أرواح معتنقيها صحيحا وأرواح غيرها خطأ؟ كل هذه أسئلة تتباين إجاباتها من شخص لآخر، ومن ثمّ لا تصلح كقاعدة أخلاقية مطلقة، ولذلك فقد اعتبر الفيزيائي المشهور الملحد ستيفن واينبرج نظرية هاريس الأخلاقية ساقطة تماما، وقال إنه “يعتبر مفهوم رفاهية الإنسان وتعاطي هاريس معه هو هراء بالكامل.
أخلاق الملحدين
من الواضح إذن أنه لا يوجد هناك دستور أخلاقي ثابت أو مرجعية قيمية مطلقة عند الملاحدة، ومن ثمّ فإن الالتزام بلوازم الإلحاد ومقتضياته يجعل الملحد ساقطا في نسبية لانهائية من القيم، الأمر الذي يؤدّي إلى إيمان الملحدين ببعض الأخلاقيات الصادمة، مثل تصريح لورنس كراوس بإيمانه بصحّة زنا المحارم في مناظرته مع حمزة تزورتيس.
أمّا ريتشارد دوكنز فقد صرّح في تغريدة له على موقع تويتر بأن الإجهاض فعل أخلاقي ومشروع طالما ليس هناك ألم، وبرّر ذلك قائلا: “لأن الجنين في بطن أمّه هو أقل إنسانية من أي خنزير بالغ”. تعرّض دوكنز للنقد بشدّة عند نشره لهذه التغريدة وحاول أن يوضح مراده في عدّة تغريدات لاحقة، لكن تغريداته ظلّت غامضة وغير مفهومة.
في نفس الإطار يرى الملحد الأسترالي وأستاذ الفلسفة الأخلاقية بيتر سنجر أن ممارسة البشر للجنس مع الحيوانات والبهائم طالما لا تتضمّن أذيّة من أي نوع للحيوان هو أمر طبيعي ومقبول في إطار حميمية العلاقة بين الحيوانات والإنسان، وبالنسبة إليه: “فلا خطأ في ذلك على الإطلاق، بل إنه أمر محمود طالما يؤدي إلى استمتاع الطرفين: الحيوان والإنسان”. هل معنى ذلك أن الملاحدة كلهم لاأخلاقيّون؟ بالطبع لا، يقول فرانك توريك: لا أقول بأن الملاحدة لا يعرفون الأخلاق وإنما أقول إنهم لا يمكنهم تبرير الأخلاق. نعم يمكنهم التصرّف بخُلق ويمكنهم الحكم على بعض الأفعال بأنها أخلاقية أو لاأخلاقية، لكنهم لا يستطيعون توفير قاعدة موضوعية لأحكامهم الأخلاقية.
وأيا ما كان الأمر: الهولوكوست، الاغتصاب، ذبح الأطفال، أو أكل الأطفال، فلا يوجد لدى الملحدين معيار موضوعي للحكم على أي منهم”. وهو الأمر الذي قرّره كذلك علي عزت بيجوفيتش قائلا: “يوجد ملحدون على خلق، ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي”.
المصدر: بتصرف يسير عن رواق الجزيرة