لم يقف هؤلاء المنتسبون إلى المشهد الثقافي، والمحسوبون عليه، زورًا وبهتانًا، ليسألوا أنفسهم: “هل يمنح الإلحاد سعادة أو طاقة تنموية للبناء، أم يفرض عدمية قاتلة واختناقًا شاملًا، وإحساسًا مميتًا بالعزلة والاستيحاش والانفراد المقبض؟! ولو كان الإلحاد مفتاحًا للسكينة والسعادة، فلماذا ألقى “إسماعيل أدهم” (1911 _ 1940)، أيقونة الملحدين العرب ورمزهم الكبير في الفكر العربي الحديث، أقول لماذا ألقى بنفسه في مياه الإسكندرية منتحرًا غرقًا؟! ما الذي أطبق على صدره ليرفض الحياة، بعد صولاته المدوية في “سان بطرسبرج” يدرس الرياضيات، ويتعبد في محراب الأرقام؟!
(مقتطف من المقال)
د. حسام عقل
يتصور بعض المثقفين، أن العالم يتجه نحو “الإلحاد” الشامل الممنهج، وأن الدوائر العلمية قد اتخذت من الإلحاد، منطلقًا أوحد، أو أن الإلحاد هو صديق المختبر والمعمل، وهو رفيق التجارب العلمية أو الطبية الرفيعة، وأنه هو الخلاص الوحيد في كواليس السياسة من التحزب والفرقة والانقسام، وأن الإلحاد هو الترياق والدواء الناجع في أروقة الاقتصاد من الظلم الاجتماعي والطبقية التي ترعاها الأديان!
ويؤمن مثقفوا الحداثة بأن الإلحاد هو “الموضة” الفكرية السائدة في أمريكا وفرنسا وألمانيا و”الفاتيكان” نفسه، كما ظهر لي -بوضوح- من خلال حواراتي المستمرة معهم!!
ونجح المثقفون المتبطلون العاطلون أمام كل أزماتنا الفكرية والحضارية، في تصدير هذا الانطباع من خلال ما يكتبون من كتب وزوايا وأعمدة صحفية، أو من خلال ما يعرضون من حصص إعلامية في بعض الفضائيات، لا يكفون فيها عن توجيه المغمز الجارح إلى الأديان.
نجحوا في تصدير هذا الانطباع إلى شريحة من الشباب وخديعته والتغرير به، ليصحبهم الشباب -منقادًا دون وعي- في فضاء العدمية والتيه الفكري وعدم جدوى أي شيء، في أي شيء!
وتحول الإلحاد، إلى نوع من العربدة وسلاطة اللسان وسوء الأدب، والتعدي الفج الغوغائي -دون أدنى خلق أو لياقة- على مشاعر الرأي العام وشعائره ومعتنقاته، وهو عمل إجرامي تؤثمه كل الدساتير الحديثة ومواثيق حقوق الإنسان العالمية، التي تنص على احترام شعائر الشعوب ومشاعرها حتى وإن عبدت هذه الشعوب بقرة؟!
حينئذ تنفلت ألسنتهم بالسخرية الغوغائية من التاريخ الإسلامي تحديدًا -تجديدًا لثأرهم القديم البائت!- وتمضي تجريحاتهم السمجة لتمس كل شيء وتهيل التراب على كل رمز، وتطول الجميع دون تمييز، بل تمتد إلى الذات الإلهية، بأسوأ لسان ولغة!
وينفجر فيسبوك -تبعًا لذلك- بسلاسل لا تنتهي من السجالات والردود الخشنة المنحطة، التي يغيب فيها الفكر وتسود الضوضاء الغوغائية، دون أن يسمع أحد أحدًا! وهذا الفضاء الغوغائي تحديدًا هو ما كان يسعى إليه “مثقفو الغبرة” منذ زمن طويل!
ولم يقف هؤلاء المنتسبون إلى المشهد الثقافي، والمحسوبون عليه، زورًا وبهتانًا، ليسألوا أنفسهم: “هل يمنح الإلحاد سعادة أو طاقة تنموية للبناء، أم يفرض عدمية قاتلة واختناقًا شاملًا، وإحساسًا مميتًا بالعزلة والاستيحاش والانفراد المقبض؟! ولو كان الإلحاد مفتاحًا للسكينة والسعادة، فلماذا ألقى “إسماعيل أدهم” (1911 _ 1940)، أيقونة الملحدين العرب ورمزهم الكبير في الفكر العربي الحديث، أقول لماذا ألقى بنفسه في مياه الإسكندرية منتحرًا غرقًا؟! ما الذي أطبق على صدره ليرفض الحياة، بعد صولاته المدوية في “سان بطرسبرج” يدرس الرياضيات، ويتعبد في محراب الأرقام؟!
ولنا أن نطرح سؤالًا آخر: هل الإلحاد هو الوجهة العالمية الغالبة؟ يقول مثقفو المقهى الأفذاذ: “نعم هو الوجهة العالمية بدليل قوة الحضور الفكري والإعلامي الذي يتمتع به “الملحد الشهير” “سام هاريس” (المولود في 9 إبريل 1967) _ أشهر ملاحدة المرحلة عالميًا بامتياز – وبدليل أن كتاب “هاريس”: “نهاية الإيمان” (2004) قد تصدر في أمريكا قائمة أفضل الكتب مبيعًا، لما يقرب من ثلاثة وثلاثين أسبوعا دون انقطاع، حتى توج الكتاب وصاحبه بجائزة pen award في العام اللاحق على ظهور الكتاب (2005).
وينسى هؤلاء أن “سام هاريس” تناقض وتراجع، غير مرة، ولا أقل من تناقضه حين آمن – نعم “آمن” بوضوح – بما أسماه “الروحانية” وهو الذي عاش حياته ينكرها، ويسعى إلى محوها من الوجود، بذريعة أنه لا حاجة لـ”الروح” مادامت ماكينات الكون والحياة تعمل بكامل طاقتها! ولكن ها هو “هاريس” يذهب منقادًا إلى الممالك التي رفضها قديمًا، بل ويؤلف كتابًا عجيبًا، أسماه: “اليقظة: دليل إلى الروحانية الخالية من الدين”!! روحانية لا مشكلة، فالمهم أن نتخلص من الدين؟! أي تناقض؟!
وينسى ملاحدة المقاهي المبجلون، أنه في الخندق نفسه، خندق العلميين ظهر العظيم “جيفري لانج” أستاذ الرياضيات بجامعة “كنساس”، الذي اعتنق الإسلام في مطالع الثمانينيات في مفاجأة مدوية – بعد سنوات كالحة من الإلحاد العنيد – وسجل العائد من الإلحاد تجربته في كتابه الممتع: “النضال من أجل الإيمان” Struggling to surrender ليصبح “لانج” علمًا على جيل “إيماني” جديد.
بل وينسى هؤلاء المغيبون، أن هنالك من رد على أفكار “هاريس” ونظرياته الإلحادية، بقوة، وربما كان أبرزهم “مارتن ريزيبورد” في كتابه الراقي: “وعد الخلاص.. نظرية الدين”. وينسى هؤلاء الملحدون العرب “الكومبارس” –بالمثل- أنه في مقابل كتاب “نهاية الإيمان” لهاريس، ظهر كتاب: “العودة إلى الإيمان” لـ”هنري لينك”، وما زالت طبعاته تتوالى حتى الآن بغزارة.
أفيقوا يا مثقفي المقهى من غيبوبتكم أو سباتكم، لتتأكدوا أن خيار العالم الحديث ليس الإلحاد، وأن قراره الأخير ليس العدمية وغياب المعنى من أي شيء، بل هو خياركم أنتم، لأن استدعاء الإيمان والأساس الأخلاقي مجددًا، كفيل بأن تفقدوا احتكاراتكم الموروثة، وتعودوا إلى أحجامكم الطبيعية، وتفقدوا نجومية زائفة، صنعها الزيف والوهم!
المصدر: بتصرف عن البوابة الرسمية للجماعة الإسلامية