بالانتقال إلى بيئتنا العربية فإنه لا يمكن تجاهل العامل السياسي في انتشار ظاهرة الإلحاد في العالم العربي، فعقب الربيع العربي، انتشرت حالة اليأس والضياع وفقدان الأمل بين الشباب، وهي المشاعر التي تؤثر بشكل مباشر في اتّخاذ قرار الإلحاد لأنها تنعكس على تصوّر المرء لمفهوم الإله…
إسماعيل عرفة
كثيرة هي الدراسات التي تتناول تاريخ الدين والتديّن ونزعة الإيمان عند البشر ومبررّاتها وعوامل تحفيزها واستثارتها، وعلاقتها الجدلية مع النصوص الدينية، والنظريات الدينية والتطوّرية حول أصول ونشأة الدين، لكن إذا بحثنا عن دراسات مماثلة تتناول تاريخ الإلحاد ومبرّراته ودوافعه وجدليّاته فإننا نجد أن الكمّية لا تكاد تُقارن، فالدراسات التي تركِّز على قضية الإلحاد كظاهرة بشرية أقلّ بكثير من مثيلتها التي تركّز على الدين، بل إن أستاذ علم النفس الأميركي بول فيتز عندما أصدر كتابه “سيكولوجية الإلحاد”؛ أثار ذلك عددا كبيرا من علماء النفس واعتبروا الكتاب غير مقبول ومزعج، إذ أن المعتاد في الوسط الأكاديمي هو دراسة علم نفس الإيمان وليس علم نفس الإلحاد.
والملاحظ أنه ثمّة اعتقاد سائد يروّجه دعاة الإلحاد بأن الإلحاد خيار علمي موضوعي محض، وقرار عقلاني من الطراز الأول لا مكان فيه للأهواء أو الأيدولوجيا أو السياسة، في مقابل الهجوم على الإيمان كقرار غير عقلاني ومبنيّ على دوافع نفسية واجتماعية وتطوريّة بحتة، كما يروّج لذلك دعاة الإلحاد الجديد وعلى رأسهم ريتشارد دوكنز في كتابه الأشهر على الإطلاق “وهم الإله”. فما مدى صحّة هذه الادّعاءات؟ وما الدوافع الحقيقية للإلحاد التي رصدها الباحثون؟ وهل فعلا الإلحاد قرار منطقي مجرّد أم أنه تتداخل فيه دوافع نفسية واجتماعية وأيديولوجية عدّة؟!
كيف بدأ الإلحاد؟
في كتابه “سيكولوجية الإلحاد”؛ يقول فيتز: (بالنظر إلى خبرتي الخاصّة فقد صار من الواضح بالنسبة إليّ أن الأسباب التي جعلتني ملحدا ومتشككا عندما كان عمري 18 إلى 38 سنة كانت أسبابا سطحية، وغير منطقية، وبلا نزاهة فكرية أو أخلاقية، وأنا مقتنع أن الأسباب نفسها هي الشائعة الآن بين المفكرين). لكن حتى يمكننا دراسة الدوافع بشكل أكثر موضوعية فإنه ينبغي علينا أن نسأل أولا: كيف بدأ الإلحاد؟ ومن أيّ نقطة في التاريخ يمكننا أن نبدأ رصد نشوء الفكرة؟
يطرح رمسيس عوض في كتابه “الإلحاد في الغرب” أنه لا يمكن رصد نقطة بدء محدّدة لتاريخ الإلحاد، حيث إن مفهوم الإلحاد قديما كان مرتبطا بالهرطقة والخروج عن الأنماط الدينية السائدة -وثنية كانت أم كنسية- لا بإنكار وجود الله، ومع الطغيان الكنسي وهيمنة رجال الدين على المجالين الخاص والعام في أوروبا في العصور الوسطى؛ كان الإلحاد خيارا منبوذا اجتماعيا وسياسيا، واضطرّ الملاحدة إلى إخفاء هُوِيَّاتهم وعدم التصريح بإلحادهم، وهو ما دفع الفلاسفة الملحدين الكبار -مثل بارون دولباخ ودينيس ديدرو- إلى كتابة أدبياتهما المروّجة للإلحاد مستخدمين أسماء مجهولة.
غالبية المؤرخين يعتبرون الثورة الفرنسية علامة بارزة في تاريخ التفكير البشري حول الدين والإله (مواقع التواصل).
لكن ما الذي تسبّب في نقلة نوعية للإلحاد؟ يتفق الباحثون أن الثورة الفرنسية عام 1789م كانت السبب في ذلك، كما يوضح الباحث البريطاني جوليان باغيني أن (غالبية المؤرخين يعتبرون الثورة الفرنسية علامة بارزة في تاريخ التفكير البشري حول الدين والإله)، إلى الحدّ الذي دفع أحد المتحمّسين للإلحاد إلى القول بأن الإلحاد كان هو روح الثورة الفرنسية.
السياسة و الإلحاد
في ذات السياق، تقدّم لنا أستاذة الأدب الفرنسي زينب عبد العزيز في كتابها (الإلحاد وأسبابه: التاريخ الأسود للكنيسة) تصوّرا مهما، وهو أن الاستبداد الديني في أوروبا في العصور الوسطى لم يؤدِّ إلى انتشار الإلحاد وذيوع نزعة التمرّد على الدين فحسب، وإنما أدّى الاستبداد الديني أيضا إلى أن يتحوّل الإلحاد إلى شكل نضالي لمذهب الإنسانية (Humanism) في صراعه مع المذهب الكنسي، وفي نصّ مفتاحي تقول زينب: (فالمهم -من وجهة نظر الفلاسفة آنذاك- ليس المناقشات العقيمة حول وجود الله، وإنما المهم هو القيام بأعمال تؤكد كرامة الإنسان ومسؤوليته بدلا من استعباده وقهره). وهكذا أصبح الإيمان بهذه القيم التنويرية حينئذ مرادفا للإلحاد بشكل ما، كون الإلحاد هو الرديف الفكري للنضال ضد الكنيسة، ممّا يظهر حيوية العامل السياسي كدافع رئيس من دوافع الإلحاد.
في ذات السياق يشير أحد تقارير فورين بوليسي إلى أن انتخاب رئيس أسود للولايات المتحدة -قيمة تنويرية نضالية- في عام 2008م تسبّب في أثر الدومينو الاجتماعي، أي في ازدياد نسبة الملاحدة بشكل ملحوظ، بالإضافة إلى أنه تسبّب -بشكل مباشر أو غير مباشر- في زيادة تقبّل المجتمع للزواج المثلي الذي تم تشريعه رسميا في 38 ولاية أميركية وقت كتابة التقرير). من الواضح إذن حيوية وأثر العامل السياسي في شيوع ظاهرة الإلحاد، حيث فرض مناخ “كسر القواعد” ووجود رئيس أسود قبول المجتمع بتمرير تلك القيم وفق التقرير.
الإلحاد في العالم العربي
وبالانتقال إلى بيئتنا العربية فإنه لا يمكن تجاهل العامل السياسي في انتشار ظاهرة الإلحاد في العالم العربي، فعقب الربيع العربي، انتشرت حالة اليأس والضياع وفقدان الأمل بين الشباب، وهي المشاعر التي تؤثر بشكل مباشر في اتّخاذ قرار الإلحاد لأنها تنعكس على تصوّر المرء لمفهوم الإله، كما أشارت لذلك دراستان بحثيتان أجرتهما جمعية علم النفس الأميركية، أظهرت الأولى أن 54% من الملاحدة التي تم إجراء الدراسة عليهم عانوا من فترات إحباط ويأس أدّت إلى إلحادهم، بينما ارتفعت النسبة في الدراسة الثانية إلى 72% وهو ما يدلّ على الدور المهمّ للشعور النفسي بالإحباط والتأزّم في الاتجاه إلى الإلحاد، وهو ما يسمّيه الباحث عبدالله الشهري “القابلية للإلحاد” ويعتبره السبب الأول لشيوع الإلحاد.
الأسرة و الإلحاد
ما الدوافع الأسرية للإلحاد؟ حاول بعض الباحثين دراسة الخلفيات الأسرية للملاحدة، وخرجوا بنظريات سلوكية تفسّر تخلّي المرء عن الإيمان. فعلى سبيل المثال قام بول فيتز بوضع نظرية التقصير الأبوي التي افترض فيها أن صورة الأبّ بالنسبة للشخص تنعكس على تصوّره للإله، فبالنسبة لفيتز فإن (هؤلاء الذين لديهم آباء ضعفاء أو أساءوا معاملتهم بدنيا أو نفسيا أو جنسيا يعانون صعوبات في تبني الإيمان بالإله من نظرائهم الذين لديهم آباء جيدون أو صالحون).
لا تقف نظرية فيتز عند الأبّ العضوي فقط، وإنما تمتدّ لتشمل رجال الدين أيضا، فهو يرى أن أي انحراف يشين رجال الدين يُعتبر عاملا قويا ممهدا للإلحاد، فرجال الدين يرمزون للدين نفسه، ومن ثمّ فإن انحرافاتهم تؤخذ على الدين وتكون عاملا منطقيا في إلحاد أتباعهم. ويمكننا رؤية صحّة هذه النظرية في عالمنا العربي، إذ إن ممارسات رجال الدين في المجال السياسي أحبطت الإسلاميين وغير الإسلاميين على حدّ سواء، وزاد من حدّة الإلحاد العربي الممارسات “الداعشية” التي وفرت مادة خام للإعلام لتشويه رجال الدين، فدفع هذا الكثيرين إلى نبذ الدين بالكلية لا إلى نبذ رجال الدين فحسب.
أمّا أستاذ علم النفس بنيامين هلاهمي فقد طرح في نظريته للاختلال الأسري التي حاول أن يفسّر فيها الأسباب الأسرية للإلحاد أنه كلّما تضاءل اهتمام الوالدين بالدين كلّما ازدادت احتمالية تمرّد أبنائهما عليه، وفي المقابل لاحظ من خلال دراسته أن من ارتدّوا عن الدين بالرغم من نشأتهم في أسرة متديّنة فقد كانت علاقتهم في الغالب بأسرهم غير طيّبة.
الدوافع النفسية للإلحاد
وبعيدا عن الدوافع الموضوعية -سياسية كانت أم اجتماعية أم غيرها- للإلحاد، فإنه لا يمكن تجاهل العوامل الذاتية للإلحاد التي تتمركز مبرّراتها حول الذات فحسب ولا علاقة لها بأية عوامل موضوعية علمية أو منطقية. فمثلا -في نصّ غاية الصراحة- يقول المفكّر الأميركي المرموق الملحد مورتيمر أدلر عندما قدّم حجج وجود الله ولكنه لم يقدر على اتّخاذ قرار الإيمان (إن الحقيقة البسيطة للأمر هي أنني لم أرغب في العيش كشخص متديّن مخلص، لأن هذا يتطلّب تغييرا راديكاليا في طريقة معيشتي).
يبدو إذن أن سبب إلحاد أدلر لم يكن متعلقا بقضية علمية أو بمسألة فكرية من بعيد أو قريب وإنما كان محض إرادة نفسية نابعة من ذات الشخص فحسب، ويبدو أن هذا أمر متكرر في حالات الإلحاد، كما يقول أحد الملاحدة واصفا حالته فور اتخاذه قرار إلحاده بأنه انتابه “شعور بالارتياح” عندما قرّر التوقف عن التساؤلات وعيش الحياة بكل حرية.
وبالانتقال إلى مجتمعاتنا العربية يحكي أستاذ الجراحة عمرو شريف عن موقف تكرّر معه ثلاث مرّات خلال أسبوعين فقط ويمكن اعتباره نموذجا لكيفية تعامل غالبية الشباب العربي مع الإلحاد، فقد دُعي عمرو إلى محاورة بعض الشباب الملحدين من مصر والسعودية كل على حدة، ففوجئ بضحالة ثقافتهم وفقر أدواتهم ومعارفهم بشكل يدعو للدهشة، لدرجة أنه طالب الشباب بشبهة واحدة من القرآن ففوجئ بأنهم لا يجيدون العربية أصلا ويقرأون القرآن بالترجمة الإنجليزية، فلم يستطيعوا الإتيان بأية شبهة، ثمّ طالبه الشاب الثالث بعدم مراسلته مرة أخرى لأنه مرتاح إلى موقفه، ممّا يعني أن الدوافع النفسية تغلّبت على الدوافع الموضوعية بشكل واضح عندهم، ثمّ تساءل د.عمرو متعجبا (إذا أراد أحدنا شراء هاتف جوّال فإنه سيدرس الأمر جيّدا، أمّا قرار التخلّي عن الدين فلم يبذل فيه الشباب أي جهد!).
________________________________________
المصدر: بتصرف في العنوان والعناوين الفرعية عن موقع الجزيرة