تقف وراء ظاهرة الإلحاد التي ظهرت بين شبابنا (مفاهيم ونماذج معرفية) مختلفة، تختلف من مجموعة لأخرى، يمكن أن نطلق عليها جميعا اسم (الإلحاد السفسطائي)…
د. عمرو شريف
ويلاحظ المتأمل لهذه الأنماط أنها تنقسم إلى مجموعتين كبيرتين:
المجموعة الأولى، وتشمل الأسباب الحقيقية وراء إلحاد الملحدين، وهي الأسباب النفسية العميقة، التي تتخفى وراء أسباب موضوعية يعلنها شبابنا… وقد سبق تناولها بالتفصيل
يمكنكم الاطلاع على المقالات السابقة عبر الضغط على الروابط التالية:
الإلحاد في بلادنا.. غوصٌ إلى العمق ج1
الإلحاد في بلادنا.. غوصٌ إلى العمق ج2
الإلحاد في بلادنا.. غوصٌ إلى العمق ج3
الإلحاد في بلادنا.. غوصٌ إلى العمق ج4
المجموعة الثانية، وتشمل الحجج العلمية والفلسفية المُعلنة، ويختلف مدى صدق مواقف الشباب الملاحدة من هذه المفاهيم، وإن كان نصيب معظمهم من خلفيات وتفاصيل ما كُتب في تفنيد هذه الحجج ضئيلا للغاية.
ثانيا: من أنماط الإلحاد المُعلنة.. إلحاد الشبهات
تتضمن هذه الأنماط الحجج التي يعلنها الملاحدة كتبريرات منطقية ومعرفية لإلحادهم، سواء أكانت حقيقية (أقلية) أو حججا تختفي وراءها دوافعهم الإلحادية النفسية (أغلبية).
يعتبر هذا النوع من الإلحاد الحجة الأولى المتداولة بين الشباب في بلادنا.
فكثير من الملاحدة الشبان يركزون في هجومهم على الألوهية والدين على التشكيك في مصداقية القرآن الكريم وكتاب المسيحيين المقدس، وينكرون نسبتهما إلى الله عز وجل. ويدور التشكيك حول عدد من النقاط من أهمها:
- تعتبر نظرية التطور الدارويني أهم الأعمدة التي يستند إليها الملاحدة. فهي بزعمهم تنفي الاحتياج للإله، كما تثبت خطأ مفهوم الخلق الخاص الذي تطرحه التفاسير التراثية للقرآن الكريم وسفر التكوين في التوراة.
- تتحدث العديد من كتب التفسير عن آية السيف التي تنسخ عشرات الآيات التي تؤكد حرية العقيدة في القرآن الكريم، بل وتصل إلى حد قتل من لا يؤمن بالإسلام، مما يدمغ الإسلام بالإرهاب.
- تجعل الكتب السماوية للقلب دورا في المنظومة الإيمانية والمعرفية والشعورية، بينما يؤكد العلم أن القلب ليس إلا مضخة للدم.
- تتحدث الكتب السماوية عن عدد من المفاهيم التي لا يقر بها العلم؛ كالسماوات السبع، وأن الشهب والنيازك رجوم للشياطين، وأن الشمس تختفي من السماء بانتهاء النهار لتسجد تحت عرش الرحمن و….
- تشتمل الكتب السماوية على أحداث لا يمكن تقديم الدليل على صحتها، كطوفان نوح وأهل الكهف، والتقام الحوت ليونس عليه السلام، وقوم يأجوج ومأجوج، والطفل الذي تلده العذراء دون أب، و….
- يدعي الملاحدة أن الكتب السماوية اقتبست بعض الأحداث التاريخية (كطوفان نوح وحوت يونس) من الأساطير السابقة عليها.
- أباح القرآن الكريم عددا من السلوكيات التي لا ينبغي أن تتبناها ديانة سماوية، كالرق وملك اليمين والرجم وقطع يد السارق. كما أباح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الزواج ما لم يبحه لأتباعه.
- كانت حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم مليئة بالحروب والغزوات وسلب الغنائم، وبعد ذلك قام صحابة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وأتباع دينه بنشر الإسلام بالسيف.
لتفنيد هذه الدعاوى نقول:
- إن العلم قد صار الآن يتبنى مفهوم “التطور البيولوجي الموجه” الذي يتماشى مع الدين. كما أثبت العلم أن للقلب دورا في المنظومة الإيمانية والمعرفية والشعورية، وإن كان هذا الأمر في حاجة إلى المزيد من الدراسة. كذلك فإن القصص المشتركة بين الكتب السماوية والأساطير إنما بقيت كأساطير عند الشعوب بعد أن نزلت بها كتب سماوية في معظم الحضارات.
- أما دعوى استباحة دم الكفار فترد عليه الآية 190 من سورة البقرة، التي تؤكد أن مناصبة العداء إنما تكون لمن يقاتلون المسلمين: “وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ“.
- وبخصوص اصطلاح “السماء” في الكتب المقدسة فهو مرادف ل “الكون”، فلو وضعنا لفظ “الكون” بدلا من “السماء” في القرآن الكريم لاستقام المعنى تماما مع المفاهيم العلمية، لكن القرآن استخدم اللفظ المعتاد والمشهور بين العامة وأيضا بين العلماء. أما السماوات السبع و الأراضين السبع فمفاهيم غيبية لا ينبغي البحث عن تفسير علمي لها.
وهناك عدد من المفاهيم ينبغي النظر إليها باعتبارها مفاهيم رمزية، كسجود الشمس تحت عرش الرحمن بمعنى انقيادها للسنن والقوانين الكونية، وهناك عدد من المفاهيم التي طرحها القرآن الكريم ولم نتوصل لرمزيتها بعد.
- أما وقوع أحداث محلية في بعض بقاع الأرض؛ كأهل الكهف ويأجوج ومأجوج وغيرهما، فأمور لا يُتوقع أن تترك أدلة تاريخية تشير إليها، بل ينبغي اعتبارها من الأحداث التي تُعرف بالرواية، فالقرآن الكريم يرويها لنا مثلما تروي لأولادك أحداثا وقعت لأجدادك، لا أظنهم سيطلبون عليها دليلا تاريخيا.
- أما باقي الشبهات؛ كانتشار الدين بالسيف وغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم والرق وملك اليمين وقطع يد السارق وزوجات النبي، فقد تكفلت العديد من كتب رد الشبهات بطرح الأدلة على كذب بعضها وحكمة الإسلام في التعامل مع بعضها الآخر.
وأحيانا يُعرض على شبابنا نمطٌ خاص من إلحاد الشبهات؛ فيقال للشاب: ينبغي أن تؤمن بالإله فهو حق، والأدلة العلمية على وجوده كثيرة، أما القرآن فلا؛ فهو مليء بالأخطاء. في هذا النمط يتم الإقرار بالإله مع إنكار الإسلام، وقد تكون الخطوة التالية هي: إذاً فلنبحث عن الدين الحق، ويكون ذلك مقدمة للدعوة إلى اعتناق المسيحية؛ إذا فهي محاولات تنصيرية أحيانا.
2- إلحاد عدم التصور
قال لي شاب ملحد: لا أستطيع تصور الإله الموجود الذي لا موجد له، ولا الموجود الأزلي الأبدي، ولا الموجود في كل مكان، ولا أتصور أن يكون للإنسان إرادة مع طلاقة الإرادة الإلهية. ثم أردف قائلا: كيف تطالبني أو أؤمن بإله أنا عاجز عن تصوره وتصور أفعاله.
نكرر هنا أن أُس البلوى في قضية الإلحاد هي الغرور والكِبر؛ فالملاحدة يَزِنون الحكمة والعلم والفعل الإلهي المطلق بميزان الحكمة والعلم والفعل البشري المحدود. هنا تنشأ عدم القدرة على التصور ومن ثَمَّ يحدث الإنكار.
وإلى المزيد من الأنماط المُعلنة للإلحاد في المقالات التالية… يتبع
_____________________________
المصدر: المصدر: بتصرف يسير جدا من كتاب الإلحاد مشكلة نفسية، د. عمرو شريف، نيو بوك للنشر، الطبعة الثانية، 2016، ص: 342