طبيعة تلك الثقوب السوداء وطريقة فنائها تبقي معضلة كبري أمام كل من علماء الفلك والطبيعة الفلكية، فحسب قوانين الفيزياء التقليدية لا يستطيع الثقب الأسود فقد أي قدر من كتلته مهما تضاءل، ولكن حسب قوانين فيزياء الكم فإنه يتمكن من الإشعاع وفقدان كل من الطاقة والكتلة وهي سنة الله الحاكمة في جميع خلقه…
(مقتطف من المقال)
تم الإعلان منذ أيام، وتحديدا في نهاية الأسبوع الماضي عن كشف علمي غير مسبوق في مجال علوم الفضاء.. يتمثل هذا الكشف في التقاط أول صور حقيقية للثقوب السوداء، عن طريق التعاون بين مجموعة من التلسكوبات العملاقة في أكثر من دولة حول العالم.
وبالرغم من أهمية الكشف إلا أن قلة على ما يبدو هي من تعاملت مع الكشف بشكل من عدم الذهول والانبهار المبالغ فيه، هؤلاء القلة هم من دارسي العلوم أو القارئين والمتابعين لهذا المجال.. إذ أن الحديث عن الثقوب السوداء حديث قديم يعود لعشرات السنوات الماضية، بل حتى تخيل تلك الثقوب كان إلى حد كبير مطابق للصور التي تم التقاطها مؤخرا.. فليس في الأمر أي مفاجآت!
ولغير المتخصصين أو المهتمين بعلوم الفضاء أحببنا أن نوضح.. ما هي الثقوب السوداء؟.. وكيف تتكون؟ وما علاقتها بكتاب الله تعالى؟!
أسئلة يجيب عنها بالكثير من التفصيل والتحليل الأستاذ الدكتور/ زغلول النجار في مقاله التالي:
قال تعالى: “فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الجَوَارِ الكُنَّسِ” (التكوير:15-16). والمدلول اللغوي لهاتين الآيتين الكريمتين: أقسم قسما مؤكدا بالخنس الجوار الكنس، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما هي هذه الخنس الجوار الكنس التي أقسم بها ربنا (تبارك وتعالى) هذا القسم المؤكد وهو (تعالى) غني عن القسم؟
وقبل الإجابة على هذا التساؤل لابد لنا:
أولا: من التأكيد على حقيقة قرآنية مهمة مؤداها أن الآية أو الآيات القرآنية التي تتنزل بصيغة القسم تأتي بمثل هذه الصياغة المؤكدة من قبيل تنبيهنا إلى عظمة الأمر المقسوم به، وإلى أهميته في انتظام حركة الكون، أو في استقامة حركة الحياة أو فيهما معا، وذلك لأن الله (تعالى) غني عن القسم لعباده.
ثانيا: أن القسم في القرآن الكريم بعدد من الأمور المتتابعة لا يستلزم بالضرورة ترابطها، كما هو وارد في سورة التكوير، وفي العديد غيرها من سور القرآن الكريم من مثل سور الذاريات، الطور، القيامة، الانشقاق، البروج، الفجر، البلد، الشمس، والعاديات، ومن هنا كانت ضرورة التنبيه على عدم لزوم الربط بين القسم الأول في سورة التكوير: “فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الجَوَارِ الكُنَّسِ” والقسم الذي يليه في الآيتين التاليتين مباشرة حيث يقول الحق (تبارك وتعالى): “وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ.وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ” (التكوير:18،17).
ثالثا: تشهد الأمور الكونية المقسوم بها في القرآن الكريم للخالق (سبحانه وتعالى) بطلاقة القدرة، وكمال الصنعة، وتمام الحكمة، وشمول العلم، ومن هنا فلابد لنا من إعادة النظر في مدلولاتها كلما اتسعت دائرة المعرفة الإنسانية بالكون ومكوناته ، وبالسنن الإلهية الحاكمة له حتى يتحقق وصف المصطفي (صلى الله عليه وسلم) للقرآن الكريم بأنه: (لا تنتهي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد…)، وحتى يتحقق لنا جانب من أبرز جوانب الإعجاز في كتاب الله وهو ورود الآية أو الآيات في كلمات محدودة يري فيها أهل كل عصر معني معينا، وتظل هذه المعاني تتسع باتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد، وليس هذا لغير كلام الله.
رابعا: بعد القسم بكل من الخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس يأتي جواب القسم: “إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ” (التكوير:19).
ومعنى جواب القسم أن هذا القرآن الكريم ـ ومنه الآيات الواردة في مطلع سورة التكوير واصفة لأهوال القيامة، وما سوف يصاحبها من الأحداث والانقلابات الكونية التي تفضي إلى إفناء الخلق، وتدمير الكون، ثم إعادة الخلق من جديد ـ هو كلام الله الخالق الموحي به إلى خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وسلم) بواسطة ملك من ملائكة السماء المقربين، عزيز على الله (تعالى)، وهذا الملك المبلغ عن الله الخالق هو جبريل الأمين (عليه السلام)، ونسبة القول إليه هو باعتبار قيامه بالتبليغ إلى خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وسلم).
خامسا: إن هذا القسم القرآني العظيم جاء في سياق التأكيد على حقيقة الوحي الإلهي الخاتم الذي نزل إلى خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين)، والذي جاء للناس كافة لينقلهم من ظلمات الكفر والشرك والضلال إلى نور التوحيد الخالص لله الخالق بغير شريك ولا شبيه ولا منازع، ومن فوضى وحشية الإنسان إلى ضوابط الإيمان وارتقائها بكل ملكات الإنسان إلى مقام التكريم الذي كرمه به الله، ومن جور الأديان إلى عدل الرحمن.
وتختتم سورة التكوير بالتأكيد على أن القرآن الكريم هو ذكر للعالمين وأن جحود بعض الناس له، وصدهم عنه، وإيمان البعض الآخر به وتمسكهم بهديه هي قضية شاء الله تعالى أن يتركها لاختيار الناس وفقا لإرادة كل منهم، مع الإيمان بأن هذه الإرادة الإنسانية لا تخرج عن مشيئة الله الخالق الذي فطر الناس على حب الإيمان به، ومن عليهم بتنزل هدايته على فترة من الرسل الذين تكاملت رسالاتهم في هذا الوحي الخاتم الذي نزل به جبريل الأمين على قلب النبي والرسول الخاتم (صلى الله عليه وسلم)، وأنه على الرغم من كل ذلك فإن أحدا من الناس ـمهما أوتي من أسباب الذكاء والفطنةـ لا يقدر على تحقيق الاستقامة على منهج الله تعالى إلا بتوفيق من الله. وهذه دعوة صريحة إلى الناس كافة ليطلبوا الهداية من رب العالمين في كل وقت وفي كل حين.
والقسم بالأشياء الواردة بالسورة هو للتأكيد على أهميتها لاستقامة أمور الكون وانتظام الحياة فيه، وعلى عظيم دلالاتها على طلاقة القدرة الإلهية التي أبدعتها وصرفت أحوالها وحركاتها بهذه الدقة المبهرة والإحكام العظيم.
الخنس الجوار الكنس في اللغة العربية:
الخنس: النجوم تخنس في المغيب، وقال قوم: سميت بذلك لأنها تختفي نهارا وتطلع ليلا.
ثانيا: الجوار: أي الجارية (في أفلاكها) وهي جمع جارية، من الجري وهو المر السريع.
ثالثا: الكنس: (كنس) الكاف والنون والسين تشكل أصلين صحيحين، أحدهما يدل على سفر شيء عن وجه شيء وهو كشفه والأصل الآخر يدل على استخفاء، فالأول كنس البيت، وهو سفر التراب عن وجه أرضه، والمكنسة آلة الكنس، والكناسة ما يكنس.
الخنس الجوار الكنس في نظر بعض الفلكيين المسلمين المعاصرين:
يري بعض الفلكيين المسلمين المعاصرين في الوصف القرآني: الخنس الجواري الكنس أنه وصف للمذنبات(Comets) وهي أجرام سماوية ضئيلة الكتلة (لا تكاد تصل كتلتها إلى واحد من المليون من كتلة الأرض) ولكنها مستطيلة بذنبها إلى ما قد يصل إلى 150 مليون كيلو متر مما يجعلها أكبر أجرام المجموعة الشمسية، حيث تتحرك في مدارات حول الشمس، بيضاوية تقع الشمس في أحد طرفيها ونحن نراها كلما اقتربت من الشمس.
وهذه المدارات لا تتبع قوانين الجاذبية بدقة، وتتميز بشيء من اللامركزية، وبميل أكبر على مستوي مدار الأرض، مما يجعل المذنبات تظهر وتختفي بصورة دورية على فترات تطول وتقصر.
ووجه الشبه الذي استند إليه هذا النفر من الفلكيين المسلمين المعاصرين بين المذنبات والوصف القرآني الخنس الجواري الكنس هو أن المذنب يقضي فترة تتراوح بين عدة أيام وعدة شهور مجاورا للشمس في زيارة خاطفة، فيظهر لنا بوضوح وجلاء ولكنه يقضي معظم فترة دورانه بعيدا عن الشمس فيختفي عنا تماما ويستتر، فإذا ما اقترب من الشمس ظهر لنا وبان، ولكن سرعان ما يقفل راجعا حتى يختفي تماما عن الأنظار، واعتبروا ذلك هو الخنوس، ولكن الوصف القرآني بالخنس يعني الاختفاء الكامل، ولا يعني الظهور ثم الاختفاء (The Missing Mass in the universe).
الرأي الآخر في تفسير قوله تعالى: “فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الجَوَارِ الكُنَّسِ“: أن الله تعالى أقسم قسما مؤكدا بالنجوم المضيئة التي تختفي بالنهار وتظهر بالليل وهو معنى الخنس، والتي تجري في أفلاكها لتختفي وتستتر وقت غروبها كما تستتر الظباء في كناسها (أي مغاراتها) وهو معني الجوار الكنس.
ومع جواز هذه المعاني كلها إلا أني أري الوصف في هاتين الآيتين الكريمتين: “فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الجَوَارِ الكُنَّسِ“ ينطبق انطباقا كاملا مع حقيقة كونية مبهرة تمثل مرحلة خطيرة من مراحل حياة النجوم يسميها علماء الفلك اليوم باسم الثقوب السود(Black Holes).
وهذه الحقيقة لم تكتشف إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين، وورودها في القرآن الكريم الذي أنزل قبل ألف وأربعمائة سنة بهذه التعبيرات العلمية الدقيقة على نبي أمي (صلى الله عليه وسلم) في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين هي شهادة صدق على أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته، وعلى أن سيدنا محمدا بن عبد الله كان موصولا بالوحي، معلما من قبل خالق السماوات والأرض، وأنه (صلى الله عليه وسلم) ما كان ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
إذا ما هي الثقوب السوداء؟
يعرف الثقب الأسود بأنه أحد أجرام السماء التي تتميز بكثافتها الفائقة وجاذبيتها الشديدة بحيث لا يمكن للمادة ولا لمختلف صور الطاقة ومنها الضوء أن تفلت من أسرها، ويحد الثقب الأسود سطحا يعرف باسم أفق الحدث، (The Event Horizon) وكل ما يسقط داخل هذا الأفق لا يمكنه الخروج منه، أو إرسال أية إشارة عبر حدوده.
وقد أفادت الحسابات النظرية في الثلث الأول من القرن العشرين إلى إمكانية وجود مثل هذه الأجرام السماوية ذات الكثافات الفائقة والجاذبية الشديدة لكارل شفارز تشايلد 1916م، وروبرت أوبنهاير 1934 (Karl schwars child ,1916 Robert oppenheimer ,1934) إلا أنها لم تكتشف إلا في سنة1971، بعد اكتشاف النجوم النيوترونية بأربع سنوات.
ففي خريف سنة 1967 م أعلن الفلكيان البريطانيان توني هيويش (Tony Hewish) وجوسلين بل (Jocelyn Bell) عن اكتشافهما لأجرام سماوية صغيرة الحجم (بأقطار في حدود 16 كيلو متر) تدور حول محورها بسرعات مذهلة بحيث تتم دورتها في فترة زمنية تتراوح بين عدد قليل من الثواني إلى أجزاء لا تكاد تدرك من الثانية الواحدة وتصدر موجات راديوية منتظمة أكدت أن تلك الأجرام هي نجوم نيوترونية (Neutron Stars) ذات كثافة فائقة تبلغ بليون طن للسنتيمتر المكعب.
وفي سنة 1971 م اكتشف علماء الفلك أن بعض النجوم العادية تصدر وابلا من الأشعة السينية، ولم يجدوا تفسيرا علميا لذلك إلا وقوعها تحت تأثير أجرام سماوية غير مرئية ذات كثافات خارقة للعادة، ومجالات جاذبية عالية الشدة، وذلك لأن النجوم العادية ليس في مقدورها إصدار الأشعة السينية من ذاتها، وقد سميت تلك النجوم الخفية باسم الثقوب السود (Black Holes) وقد سميت بالثقوب لقدرتها الفائقة على ابتلاع كل ما تمر به أو يدخل في نطاق جاذبيتها من مختلف صور المادة والطاقة من مثل الغبار الكوني والغازات والأجرام السماوية المختلفة، ووصفت بالسواد لأنها معتمة تماما لعدم قدرة الضوء على الإفلات من مجال جاذبيتها على الرغم من سرعته الفائقة المقدرة بحوالي الثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية، وقد اعتبرت الثقوب السود مرحلة الشيخوخة في حياة النجوم وهي المرحلة التي قد تسبق انفجارها وعودة مادتها إلى دخان السدم دون أن يستطيع العلماء حتى هذه اللحظة معرفة كيفية حدوث ذلك.
كيف تتكون الثقوب السود؟
تعتبر الثقوب السود كما ذكرنا من قبل مرحلة الشيخوخة في حياة النجوم.
ومع إدراكنا لانتهاء حياة النجوم بالانفجار على هيئة نجم مستعر أو نجم مستعر أعظم، أو بفقدانه للطبقات الخارجية منه وتحوله إلى مادة عظيمة الكثافة شديدة الجاذبية مثل النجوم النيوترونية أو الثقوب السود، إلا أن طبيعة تلك الثقوب السوداء وطريقة فنائها تبقي معضلة كبري أمام كل من علماء الفلك والطبيعة الفلكية، فحسب قوانين الفيزياء التقليدية لا يستطيع الثقب الأسود فقد أي قدر من كتلته مهما تضاءل، ولكن حسب قوانين فيزياء الكم فإنه يتمكن من الإشعاع وفقدان كل من الطاقة والكتلة وهي سنة الله الحاكمة في جميع خلقه، ولكن تبقى كيفية تبخر مادة الثقب الأسود بغير جواب، وتبقي كتلته، وحجمه، وكثافته، وطبيعة كل من المادة والطاقة فيه، وشدة حركته الزاوية، وشحناته الكهربية والمغناطيسية من الأسرار التي يكافح العلماء إلى يومنا هذا من أجل استجلائها.
فسبحان الذي خلق النجوم وقدر لها مراحل حياتها..
وسبحان الذي أوصلها إلى مرحلة الثقب الأسود، وجعله من أسرار الكون المبهرة..
وسبحان الذي أقسم بتلك النجوم المستترة، الحالكة السواد، الغارقة بالظلمة.. وجعل لها من الظواهر ما يعين الإنسان على إدراك وجودها على الرغم من تسترها واختفائها، وسبحان الذي مكنها من كنس مادة السماء وابتلاعها وتكديسها، ثم وصفها لنا من قبل أن نكتشفها بقرون متطاولة بهذا الوصف القرآني المعجز فقال(عز من قائل): “فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الجَوَارِ الكُنَّسِ“ .
ولا أجد وصفا لتلك المرحلة من حياة النجوم المعروفة باسم الثقوب السود أبلغ من وصف الخالق (سبحانه وتعالى) لها بالخنس الكنس فهي خانسة أي دائمة الاختفاء والاستتار بذاتها، وهي كانسة لصفحة السماء، تبتلع كل ما تمر به من المادة المنتشرة بين النجوم، وكل ما يدخل في نطاق جاذبيتها من أجرام السماء، وهي جارية في أفلاكها المحددة لها، فهي خنس جوار كنس وهو تعبير أبلغ بكثير من تعبير الثقوب السود الذي اشتهر وذاع بين المشتغلين بعلم الفلك..”وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً” (النساء:122).
ومن العجيب أن العلماء الغربيين يسمون هذه الثقوب السود تسمية مجازية عجيبة حين يسمونها بالمكانس العملاقة التي تبتلع (أو تشفط) كل شيء يقترب منها إلى داخلها: (Giant Vaccum Cleaners that Suck in every thing insight) وتبقي الثقوب السود صورة مصغرة للجرم الأول الذي تجمعت فيه مادة الكون ثم انفجر ليتحول إلى سحابة من الدخان، وأن من هذا الدخان خلقت السموات والأرض، وآخِرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
المصدر: بتصرف كبير عن موقع الإعجاز العلمي للدكتور زغلول النجار