د/ مصطفى محمود
كنت أعلم –أثناء رحلة الحج– أن صديقي مازال بينه وبين الإيمان الحقيقي أشواط ومراحل ومعراج من المعاناة.
مازال عليه أن يصعد فوق تراكيب هذا البناء المنطقي المسمى العقل ويستشرف ينابيع الحقيقة في تدفقها البكر داخل قلبه.. حينئذ سوف يكف عقله عن اللجاجة والتنطع ويلزم حدوده واختصاصه، ويدرك أن الدين أكبر من مجرد قضية منطقية، وأنه هو في ذاته منطق كل شيء.. وأن الله هو البرهان الذي نبرهن به على وجود الموجودات لأنه قيومها (هو الذي أوجدها من العدم فهي موجودة به وبفضله)، فهو برهان عليها أكثر مما هي برهان عليه.. وكيف يكون العدم برهانا على الوجود.. وكيف يكون المعدوم شاهدا على موجد الوجود.
إنها لجاجة العقل.. وهي سلسلة من الخرائب المنطقية لابد أن نمر بها في معراجنا للوصول إلى الحقيقة.. وهذا عيب العصر الذي يدعي فيه العقل كل شيء.
و الواحد منا في بداية تلقيه للعلوم الوضعية، ولفرط انبهاره بها وبمنجزاتها يتصور أنها علوم كلية يمكن أن يناقش بها الأمور الكلية مثل الوجود الإلهي فيقع في خطأ من يحاول أن يقيس السماء بالشبر ويزن الحب بالدرهم.
و تمضي عليه سنوات من التمزق والمعاناة قبل أن يكتشف أن الطبيعة والكيمياء علوم جزئية تبحث في المقادير والعلاقات، واختصاصها هو القضايا الجزئية، وهي لا تصلح بطبيعة معاييرها للحكم على الدين لأنه قضية كلية.
العلم الكلي
الدين هو العلم الكلي الذي يحتوي على كل تلك العلوم.. في حين لا يحتوي عليه أي منها.
وعندنا نور آخر نستدل به على الحقيقة الدينية، نور القلب وهدى البصيرة واستدلال الفطرة والبداهة.
هنا نور نستشف به الحقيقة بدون حيثيات.. هنا منطقة في الإدراك هيأها الله للإدراك المباشر.
وهي مرتبة أعلى من مراتب الشعور العادي، وكما أن العقل أعلى في الرتبة من حاسة مثل الشم واللمس، كذلك البصيرة أعلى في الرتبة من العقل ومن الإدراك بالمنطق العقلي الجدلي.
و البصيرة هبة متاحة لكل منا، ولكن صدأ العرف والتقليد والادعاء العقلي، والأحكام الجاهزة الشائعة، هذا عدا الغرور وظلمة الشهوات والرغبات وسعار الأحقاد والمطامع.. كل هذه الغواشي ترين على مرآة البصيرة فتحجب أنوارها الكاشفة.
ويمضي العمر والإنسان يصارع هذه الرغبات ويتمزق، ويعاني ويسأل ويتساءل ويحفر في داخل نفسه حتى تنتهك الأستار، وتنجلي الغواش، ويبدأ يدرك الحقيقة بهذه الرؤية الكلية التي هي هبة بصيرته.
وجلاء القلب فضل إلهي قد يوهب وقد يكتسب، ولا توجد شروط في المعارف الإلهية، وهذا الهندي المسلم الفقير الحافي العاري الغارق في دموعه قد يعرف عن الله أكثر مما نعرف نحن الذين نكتب عن الدين والله.
و ربما لو سألته عن شعوره لما استطاع أن يشرحه في عبارات مثل العبارات المنمقة التي نكتبها.. وهو أمر لا يهم.. فالمعارف العالية قد تعلو على العبارة وقد تعجز عنها الإشارة.. فلا يبقى إلا الصمت والدموع.
لقاء مع النفس ومع الله
ولهذا هم يبكون على عرفات في لحظة لقاء مع النفس والله.. تبدو فيه الكلمات مبتذلة.. واللسان عاطلا، والعبارات خرساء، فلا تبقى إلا الدموع، وهي دموع فرح وحزن وندم وتوبة وتطهر وميلاد.. وهي فجر روحي يعرفه من جربه.
و قد توحي اللحظة الواحدة والظرف الواحد بشيئين مختلفين تماما وربما متناقضين، فحينما كنا نطوف بالكعبة في زحام من ألوف مؤلفة، كان صديقي يلهث مختنقا وكل ما يخطر له بالمناسبة هو تخيله لو كانت هذه الكعبة في أوروبا -في برلين مثلا- إذن لاختلف الأمر ولطاف حولها الأوروبيون في طوابير منظمة لا يزاحم فيها الواحد الآخر.. بينما كنت أنا أنظر إلى الألوف المؤلفة التي تدور كالذرات البيضاء وأرى فيهم الملايين بلا هوية ممن حجوا وطافوا وعاشوا وماتوا.. أرى فيهم أبي وأمي .. كانوا هنا يطوفون منذ سنوات في هذا الزحام نفسه.. ومن قبلهم جدي الذي جاء إلى هنا على ظهور الإبل.. ثم الأجداد، وأجداد الأجداد من قبل إلى أيام النبي الذي خرج من مكة مهاجرا وعاد إليها فاتحا…
كنت أنظر في الجموع الحاشدة من منظور تاريخي وفي خناق الزحام نسيت نفسي تماما، وفقدت هويتي ، ولم أعد أعرف من أنا.. هأنذا قد مت أنا الآخر.. وهذا ابني يطوف ويذكرني وهو يطوف، ثم يموت ذات يوم ويصبح هو الآخر ذكرى.. كانت لحظة روحية شديدة التوهج فقدت فيها إحساسي بذاتي تماما، وغبت عن نفسي وامتلأت إدراكا بأنه لا أحد موجود حقا سوى الله.. وتذكرت السطر الأول من قصة الخلق.
في البدء كان الله ولا شيء معه .
وفي الختام يكون ولا شيء بعده .
هو الأول والآخر
هو ..نعم.. هو ولا سواه.
كانت لحظة من المحو الكامل لكل شيء بما في ذلك نفسي ذاتها، في مقابل ملء مطلق لموجود واحد مطلق هو الله.
وبالرغم من الإحساس بالغياب فإنه كان إحساسا في الوقت ذاته بالحضور.. الحضور الشامل المهيمن المالئ لكل ذرة من الشعور…
وأحار في وصف تلك اللحظة ولا أجد الألفاظ ولا العبارات وأكتفي بأنها أعمق ما عشت من لحظات.
هو إحساس ديني يصعب تصويره في كلمات.
أين كان صديقي من هذا كله؟
ما أبعد كل منا عن الآخر مع أن ذراعي في ذراعه.. كان يفكر ويمنطق ويرتب الحيثيات.
وكنت أذوب حبا وقد قفزت بي اللحظة فوق حاجز العقل وجاوزت بي الحدود والتفاصيل لتضعني على ذروة أرى منها رؤية كلية، وأدرك منها إدراكا كليا.
هو الحب.
و الدين في جوهره حب .. والحج هجرة إلى بيت الحبيب والطواف للعشاق.
هؤلاء لا يجدون فيه كلفة ولا تكليفا.
و إنما يجدون حوارا مؤنسا.. ومكالمة من تلك المكالمات السرية التي تضيء مجاهيل القلب.
و ما أكثر ما شعرت به في الكعبة مما لا أجد له كلمات.
قد يسأل سائل: لماذا نتكبد المشاق لنذهب إلى الله في رحلة الحج؟ ولماذا هذه الهجرة المضنية والله معنا في كل مكان؟ بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد، وهو القائل إنه قريب يجيب دعوة الداع إذا دعاه.. بل إن قربه لنا هو منتهى القرب.. فما الداعي إلى سفر وارتحال لنقف فوق عرفة ندعوه منها.. وهو القريب منا قرب الدم في أجسادنا؟! .
سؤال وجيه!
الحقيقة أن الله قريب منا بالفعل وأقرب إلينا من الدم في أجسادنا، ولكننا مشغولون على الدوام بغيره .
إنه لا يقيم دوننا الحجب ولكننا نحن الذين نقيم هذه الحجب.. نفوسنا بشواغلها وهمومها وأهوائها تلفنا في غلالات مكثفة من الرغبات.. وعقولنا تضرب حولنا نطاقا من الغرور.. وكبرياؤنا يصيبنا بنوع من قصر النظر، ثم العمى .. فلا نعود نرى أو نحس بشيء سوى نفوسنا.. وهذا هو البعد برغم القرب ..
والهجرة على القدمين وتكبد المشقات والنفقات هي وسيلة مادية للخلوص من هذه الشواغل وتفريغ القلب لذكر خالقه، ولإيقاظ الحواس على حقيقة هذا القرب القريب لله .
ومن هنا كانت كلمة (عرفة).. فبعد رحلة من ألوف الأميال يتيقظ القلب على (معرفة).. فهو (يتعرف) على ربه ويكتشف قربه (ويتعرف) على نفسه ويكتشف بعدها ..
هي إذن معرفة شاملة من كل الوجوه .
وحينما يفد الحاج بجسده إلى البيت يكون عقله قد أشرق على معرفة.. وإذا عرف الإنسان ربه حق المعرفة فإنه سوف يدع الخلاف معه، سوف يدع الذنوب ظاهرة وباطنة وسوف يكف عن منازعته في أمر قدره وقضائه لأنه اكتشف كامل عدله وحكمت. ..
و سوف يدع الخلاف بينه وبين الخلق فيكف عنهم أذاه ويحتمل أذاهم ويترفق بهم ويشفق عليهم. و سوف يدع الخلاف بينه وبين نفسه ويصل إلى حالة من الوحدة فيقول ما يبطن، ويفعل ما يقول فيصبح ظاهره باطنه وقوله فعله .
و هذا هو الانسجام مع النفس والكون والله.. وانعقاد الصلة بين الروح وخالقها.. وبلوغ السكينة التي لا تزلزلها الجبال .
_____________________________
المصدر: بتصرف من كتاب/ الإسلام.. ما هو، د. مصطفى محمود، ص:34-42.